الشعر والداما

قالت العرب: من «أَلَّفَ» فقد استهدف، وقال الزهاوي: أما رباعياتي فعددها ألف رباعي.

وا أسفاه! لم يسعدني الحظ بالاطلاع على كتاب (أشراك الداما) للأستاذ الزهاوي، وفيه كما قيل: «جمع ٥٠٠ لعبة لغيره من المشاهير و١٠٠ لعبة من مخترعاته، واستنبط لتصوير هذه الألعاب طريقة بالأرقام … إلخ»، وا أسفاه! لا لأني شديد الولوع بالداما فأطمح إلى جعل الزهاوي في إحدى طبقات اللاعبين وناصبي الأشراك، كما أني لا أطمع الآن بجعله في إحدى طبقات الشعراء ومقيمي الأوزان، كلا … وا أسفاه! لأني كنت إذن أتيقن من صحة رأي يجول في ذهني، الساعة وقد طالعت رباعياته مقارنًا إياها بالأثر الذي بقي في نفسي من مطالعة ما سبق له نشره من قصائد ودواوين في حينها. وهو (أي الرأي) إنَّ خَيْرَ ما صنفه الأستاذ وأبقاه على الدهر هو هذا المخطوط في أشراك الداما، أو هو خير (أقل ما يكون) من كل ما وفق إلى طبعه حتى هذه الأيام؛ لئلا يقال: إنا نعدو الحد بالحكم على المجهول، وإن يكن ثمة افتراض معقول أن الصانع يعرض، بل يقدم أفضل مصنوعاته.

آه لا! مائة شرك مخترع ليست بالشيء اليسير: كل شرك من المائة وليد جهد جهيد، وسهد طويل، وأوجاع كأوجاع الوضع، ولتعظمن هذه المخترعات في عينك إذا ذكرت أنها أتت بعد الخمسمائة — والفضل هنا للمتأخر — التي «عرقت» البشرية لاستنباطها خلال قرون متمطية بصلبها.

فالزهاوي — لا مراء — مدين لنا بكتاب ذي أبواب: في نشأة الداما وتاريخها، وفي طبقات لاعبيها وأهل الاختراع منهم، وفي المفاضلة بين الداما والشطرنج مثلًا: أيهما أفيد في فن تعبئة الجيوش وأكفل للنصر في الحروب، ثم تكون خاتمته، أنشأ الله، في «رأي تنازع البقاء فبقاء الأصلح» الذي لا يفتأ يراه الزهاوي، ولا نفتأ نعثر عليه نحن في منظومه، في صورته الدائمة الواحدة، والذي نحسب أنه اهتدى إليه — لكل شيء في دنيانا علة — من لعبة الداما وكم لعب جر إلى جد، لا من مذهب النشوء الدرويني عن طريق الرسائل الشميلية.

ليست الأشراك المائة المخترعة وحي الخاطر وثمرة الارتجال وبنت الساعة، بل هي كما أسلفنا، وليدة التفكير والاجتهاد والزمن، ولكن الزهاوي في الشعر ورباعياته نقيض الزهاوي في الداما وأشراكها، بطبيعة الحال ولضرورة الموضوع. هو في الشعر مكثر (قال له أحد مناقضيه المصريين في مطلع قصيدة: أقلَّ!) مرتجل فلا ينضج الشواء إنضاجًا بل يلوحه تلويحًا، مستقل عن الزمان فلا يشاوره في أمر ما يذهب جفاء وما يبقى لينفع الناس. وإذا كان كثير الاختراع في الداما فهو قليل التوليد في الرباعيات، وإذا كان للداما أن تخلد اسمًا فهي التي ستخلد اسمه: صاحب المائة اختراع بعد الخمسمائة، وسيقال في ترجمته في ذلك الموضع: وكان «أيضًا» ينظم الشعر …

لأحد أئمة الأدب (غوتي) الألماني كلمة جديرة بأن تذكر هنا، قال: «ليس الأدب إلا جزءًا من أجزاء، فإنه لا يكتب مما صنع أو قيل، إلا طرف يسير، ثم لا يحفظ مما كتب إلا طرف يسير أيضًا.»

ويقول صديقه الشاعر (شلر): «بينما نحن نجهد أنفسنا لنظم قصيدة لا بأس بها، إذا بغوتي وليس عليه إلا أن يهز بجذع الشجرة فتساقط على قدميه ثمارًا جميلة يانعة، ويغلب أن تنشأ الأشعار في ذهنه من تلقاء ذاتها ولا دخل لإرادته في ذلك، بل رغم إرادته أحيانًا. ولقد نشأت طائفة من غرر قصائده تامة فلم تكلفه إلا مؤنة كتابتها، ولكن منها ما نام أربعين أو خمسين سنة في رحم أبكار معانيه، أعني ذلك الدماغ الذي حمل بتراجيدية (فاوهت) الشعرية ما ينيف على ستين عامًا.»

هذا نموذج الشاعر الذي لم ينظم إلا بدافع من القوة الباطنة، وإلا بوحي من قلب غنيٍّ سخيٍّ وإحساس فيَّاض وذهن قادر، هو لم ينظم لينظم بل كَمَنْ يضع عن كاهله حملًا ثقيلًا.

لذلك حُقَّ لنا العجب من أن عدد الرباعيات التي أتحفنا الزهاوي بها ألف رباعي دون زيادة ولا نقصان، وحق لنا أن نتساءل: لِمَ لَمْ تكن (٩٩٩) أو (١٠٠١)، بل كانت كأصناف البضاعة التي تخرجها المصانع حسب الطلب من الأحذية إلى الأمشاط؟ البضاعة والرباعيات الجاهزة؟

لعل ذلك ليكون بينها وبين ألفية ابن مالك وجه شبه. فإذا جاز لأستاذنا أن يفرض على نفسه نصب مائة شَرك من مخترعاته في الداما، فحرام أن يعامل الشعر معاملة الداما، فيقيم وزن ألف رباعي أو يجندها طابورًا … للموت.

لعمر الخيام شاعر الرباعيات الفارسي المشهور في الشرق والغرب نحو ١٤٠ رباعيًّا هي ما أثبتَ نَقَدَةُ الإفرنج أنها من نظمه، فإذا كانت طبعات كلكتا ويومباي الأخيرة تتضمن نحو ٥٠٠ رباعي، فقد نحل الخيام إذن ضعفي الأصل الذي له، وفي هذا دليل على سلطان الرباعيات الخيامية، وعظيم أثرها في النفوس، وعالي مقامها في دولة الأدب، أما الآن وقد ذهب عصر الإنحال بقيام دولة الطباعة، فلم يعد من سبيل إلى التساؤل كم تصبح رباعيات الزهاوي بعد كذا من القرون؟ ولكن لو … فهل كانت تزيد رباعيًّا واحدًا! نعم في قدرة صاحبها أن يزيدها آلافًا من هذا الطراز.

١٤٤ رباعيًّا خياميًّا، كل واحد منها جوهرة بتمام المعنى وجِدَّته وكمال الأسلوب ودقته، فيها خلاصة حياة الخيام متبلورة كالماس: فكره النفاذ وإحساسه الرقيق وعاطفته الحية، وطبع غير متكلف وصدق لا يعرف الرياء، كان يهز إليه بجذع الشجرة فتساقط على قدميه ثمارًا جميلة يانعة.

لو عاش الخيام في «عصر الزهاوي» لقال الأول للآخر: لا، بالله عليك! لا تقل في مقدمتك على هذه الرباعيات المتأخرة: وقد أخذت طرفًا من الدساتير الاجتماعية لغوستاف لوبون متصرفًا فيها تصرفًا يقربه من النظم، وعدد هذا لا يتجاوز الثلاثين رباعيًّا، بل لا «تأخذ» اجتماعيات … ذلك العالم: أولًا لأن هذا يُذكِّر الناس بنظامي علوم اللغة والطبيعيات والشرع في عصور الانحطاط اللفظية؛ وثانيًا لأن الراغبين في اجتماعيات لوبون يرغبون عن (رباعياتنا) إلى تصانيفه … ولكن لا بأس! في قولك: «وعدد هذا لا يتجاوز الثلاثين رباعيًّا» لهجة الاعتذار، وإذن كان الخيام يقول للزهاوي أشياء كثيرة غيرها.

وبعد، فلماذا اختار الزهاوي هذا النوع من أنواع النظم أو هذه الصورة، صورة الرباعي؟ بالطبع لا للتنويع فحسب؛ ولا لأن صيت الخيام ملأ الآفاق وحبه ملك القلوب، كلا، فالرباعي في ذاته لا يكفي لحصول هذه النتيجة، وما كان لصيت الخيام أن يفيء ظله في هاجرة النسيان على غير ما نظمه هو، فينبغي إذن أن يكون ثمة ما أغرى الزهاوي باختيار هذه الصورة أو القالب الشعري، فكيف كان كذلك؟

الجواب في كلمة لأحد حكماء العصر الشعراء «نيتشه» الذي يقال إنه أكبر شعراء الأفكار تمييزًا لهم عن شعراء العواطف، والذي كان لأسباب صحية لا يصنف، إلا فيما ندر، كتابًا متماسك الأجزاء الآخذة بعضها برقاب بعض، بل كان يقيد آراءه واحدًا واحدًا بعد التفكير الطويل والنضوج الوافي، في جمل موجزة لبابية يسمونها «أفوريسم» أو جوامع الكلم، لست أذكر ما قاله بنصه، ولكنه يشبه هذه الكلم الجوامع بقمم الجبال، قائلًا إن الجبار وحده قادر على سلوك أقصر طريق من قمة إلى قمة، بتخطي الوديان.

فيمكن الآن القول: إن نوع الرباعي في الشعر هو كالأفوريسم في النثر وإن الزهاوي اختاره ليودعه زبدة تفكيره وشعوره، فتكون الرباعيات أعلى مظاهر التفكير والشعور؟! أجل، ومن هذا القبيل قوله في القطار:

مشى بنا فوق خطين
ينهب الأرض نهبًا

وقوله في الكهرباء «أساس الحضارة»:

به التراسل فيه الشـْ
ـشِفاء منه الضياء

وقوله في «نسب» الشمس:

فإنها أم دنيا
نا وابنة اللا تناهي

إلى غير ذلك من التعاريف العلمية المفيدة وهي كثيرة.

أما التضمينات العجيبة النادرة، فإنك لا تكاد تقلب صفحة إلا عثرت ببعضها: «ولكم في القصاص حياة، نظرة فلفتة فسلام، ما كل مرة تسلم الجرة»، وغاية الإبداع في قوله «مضمنًا»:

إن المدارس إما امـ
ـتلأن تخلو السجون

وفي قوله:

افعل بغيرك ما تريد ليفعلوا
بك مثله وكما تدين تُدان

حجر أصاب به عصفورين: الآية الإنجيلية والقاعدة الإسلامية، وما سوى ذلك آراء في … كل شيء، توفق إلى مثلها المرحوم جدك إلا أنها في هذه الرباعيات خسرت لهجة الصدق والسذاجة، دون أن تعاض عنها، اللهم إلا بالوزن.

لا حول ولا … ها نحن هبطنا من قمم الجبال، ولكن لا بأس فقد عرفت في الوادي السبب في أني ما سمعت، ولا تلوت يومًا قصيدة جديدة من نظم الزهاوي إلا أحسست إحساسًا غامضًا، كأنما سبق لي سماعها أو تلاوتها أكثر من مرة، قبل هذه المرة … حِسٌّ لا يُخدع عما هو جديد، وعما هو مُدَّعٍ للتجديد.

أما التواضع فشاعر الرباعيات قدوة فيه، قال:

أيها الحب كنت لي
قبلما كنت للبشر
قبلما كنت للكوا
كب والفجر والقمر

ومن هذا النوع قول مصطفى صادق الرافعي:

لو يسمى في الأنام الـ
ـحب ما اختار سوى اسمي

بينما (دوبورتوريش) الشاعر والتراجيدي الفرنسي، الذي أجمع النقاد على أنه من أبرع المعاصرين وصفًا للقلب الإنساني في حالات الحب، لا يقول «في الفخر» غير هذا البيت:

عسى أن يكون لي اسم في تاريخ القلب!
اسم في تاريخ القلب أو اسم في تاريخ الداما؟
المهم أن يكون لك اسم في تاريخ «شيء» …
١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤