بين شاعرين

(١) سوللي برودوم وإلياس فياض

إني كثير المطالعة قليل الكتابة، وقد أوتيت بسطة من العيش وكثيرًا من الفراغ يسَّرا لي الانصراف إلى كتبي ودفاتري، أقرأ وأُقَيِّد ما يَعُن لبالي، وقلما أغفل شاردة أو واردة لاعتقداي أنها تفيد يومًا من الأيام، ولو شئت الآن أن أعيد النظر في حياتي الماضية وأحصي ما مر عليَّ من حوادث جديرة بالذكر؛ كي أكتب سيرتي بنفسي، لاستطعت دون عناء، اختصارها في هذه الجملة الجامعة «مطالعات في زاوية بيت»، فإن الكتب التي طالعتها هي أعظم حوادث حياتي.

كذلك لست أعرف واحدًا من أدبائنا «المعروفين» معرفة شخصية، غير محاول التعرف إليهم، مكتفيًا بقراءة ما يكتبون وما يكتب عنهم، متصورًا «ذاتياتهم» المادية والمعنوية من خلال كتاباتهم، وكتابات النقاد عنهم، وبقدر ما تكون كتابات الأدباء شفافة صادقة تكون تصوراتي واضحة، ولكن هذا نادر؛ لأن أغلبهم يطرحون بينهم وبين القراء، بغلبة الصنعة والتقليد على شعرهم ونثرهم حجابًا كثيفًا، وإني لأجد في تصور كُتابنا وشعرائنا المعاصرين على هذه الكيفية، لذة تذكرني بما كنت أجد من لذة وأنا حدث السن، في حل الألغاز والأحاجي الرائجة بين النشء، بيد أني لم أحاول مرة أن أجرب صدق فراستي، فأتعرف إلى فلان الشاعر مثلًا؛ لأقارن بين صورته في ذهني وصورته في حقيقته، لسببين: أولهما الكسل عن معايشة الناس لا سيما طائفة الأدباء منهم، وثانيهما الخوف من أن أفجع بصور لي في خلقها أكبر نصيب، وقد يكون ثمة أسباب أخرى لا أتبينها الآن.

زرت مصر منذ نحو عشرين سنة، فسمعت حافظ إبراهيم يلقي في إحدى الحفلات قصيدة لشاعر مشهور لا أذكر أهو شوقي أم إسماعيل صبري أم غيرهما، فأحدثت لهجته في نفسي أثرًا بليغًا، وبقيت زمنًا طويلًا لا أقرأ «بعينيَّ» شعرًا إلا كان يخيل إليَّ أني أسمع لهجة حافظ، كأنما نبرات صوته ترن في أنحاء نفسي، فكانت صورة حافظ تخالط في ذهني صور الشعراء الذين أقرأ لهم، فتكدر صفاء تصوري، كالأخيلة التي يراها الحالم في رؤياه ولا يفلح في إبعادها إلا إذا استيقظ، بل قد يبقى شيء منها حتى بعد اليقظة، حينًا قليلًا ثم تضمحل. وأخيرًا أنستني الأيام لهجة حافظ وصورته، فكنت كمن أفاق من حلم مزعج فإذا أعضاؤه سليمة، وحياته في أمان، ولا أشباح تعذبه مكشرة عن:

… مسنونة زرق كأنياب أغوال

إني إذن منذ سنين طويلة منصرف إلى مطالعة الكتب في زاوية بيتي، وقد أتت عليَّ أعوام لم أقرأ في خلالها إلا دواوين الشعر من عربية وإفرنجية، قديمة وحديثة، فأولعت زمنًا بالمقارنة والمقابلة بين الشعراء؛ لاكتشاف أوجه الشبه أو الاختلاف بينهم، مغتبطًا كلما وُفِّقْت في مسعاي اغتباط الرحالة الذي يستكشف مجاهل الأرضين والبحار، ويظهر أنه كان لي شيطان يلهمني ويسدد خطواتي، وإلا فكيف قرأت في وقت معًا ديوان الشاعر العصري إلياس بك فياض وديوانًا صغيرًا للشاعر الفرنسي (سوللي برودوم) يتضمن قصيدة عنوانها (المجرة) تشبه قصيدة (النجوم) لشاعرنا العربي شبهًا عجيبًا؟

إلياس فياض شاعر مطبوع رقيق، وليس بضاره أنه مقل، فلعل له في إقلاله عذرًا، أو لعل ذنبه الكسل، أو لعله نظم كثيرًا في شبابه ثم ناله شيء من العياء (ولا أقول: العي)، فأحب أن يأخذ لنفسه شيئًا من الراحة، كالمسافر الذي قطع مسافة طويلة، عني كثيرًا بالترجمة عن الفرنسية لا سيما ترجمة القصص التمثيلية، وعرَّب أيضًا بعض القصائد مثل (سقوط الأوراق) للشاعر الفرنسي (مللفوا) و(اذكريني) لألفرد دو موسه، و(النسيم العاشق) التي أخذها من قصة تمثيلية شعرية اسمها Les Bouffons، ويدعى صاحبها ميكال زاما كويي وتعريبه هذه القصائد حسن، رغم ما يعانيه المترجم، على الأخص إذا أراد أن يترجم الشعر الفرنسي في شعر عربي مبين.

أذكر أن الأستاذ فياض نشر منذ بضعة أشهر في صحيفة المعرض مقالة ممتعة طلية انتقد بها قصيدة من نظم محمد كامل شعيب العاملي، وهي قصيدة فلسفية أو علمية أو إلهية، يقول صاحبها فيها أشياء عن النجوم؟! وكان الأستاذ فياض مصيبًا في نقده ذاك الإصابة كلها، لكنه قابل في مقالته الانتقادية بين أبيات العاملي، وأبيات لشاعر لم يذكر اسمه، وإن يكن أغلب القراء عرفوا أنه إلياس فياض نفسه صاحب قصيدة النجوم المشهورة، المنشورة في ديوانه.

إن قصيدة النجوم، لإلياس بك فياض، هي قصيدة المجرة La Voie Lactée لسوللي برودوم، ولا أدري لماذا لم يذكر الشاعر العربي أنها منقولة عن أصل فرنسي، كما ذكر أنه نقل تلك القصائد الثلاث المعروفة: سقوط الأوراق، واذكري، والنسيم العاشق؛ ألأنه لم يراع الأصل في الترجمة مراعاة تامة؛ أم لأنه حور آخرها تحويرًا طفيفًا؟ وعلى كلٍّ فإن تلك «الخلقة» الفرنجية لم تتنكر في حلتها العربية تنكرًا يضيع عنا حقيقتها: قد عرفناها وهل يخفى القمر؟

وإليكم قصيدة المجرة ترجمتها نثرًا عن الفرنسية متقيدًا بالأصل عاية جهدي، وبإزائها قصيدة النجوم كما نظمها إلياس بك فياض بأسلوبه الرائق:

المجرة (للشاعر الفرنسي سوللي برودوم)

قلت للنجوم ذات مساء:
لا إخالك سعيدة،
إن لأنوارك في اللانهاية السوداء
حنينًا شجيًّا.
فكأني أبصر في السماء
جنازة بيضاء يتقدمها عذارى
يحملن شموعًا لا تحصى
ويتبع بعضهن بعضًا بفتور.
أأنت أبدًا في صلاة؟
أم أنت كواكب جريحة؟
إن هذا الذي تُريقِينه
لدموع من ضياء لا أشِعَّة.
أنت النجوم، جدة
الخلائق والآلهة،
أأنت تبكين؟
أجابت: نحن في عزلة …
كل واحدة منا بعيدة جدًّا
عن أخواتها وإن خلتها قريبة!
ونورها اللطيف الضئيل
لا شاهد له في موطنها.
وهكذا فإن توقد أشعتها
يضمحل في سماوات لا تبالي.
قلت لها: قد فهمت ما تقولين،
فإنكن تشبهن الأنفس.
كذلك هي: كل نفس تضيء
بعيدة عن أخوات نخالهن على
كثب منها،
وهذه الخالدة في عزلة،
تحترق صامتة، في الظلام …

النجوم (لإلياس بك فياض)

قلت للنيرات ذات مساء:
أترى أنت مثلنا في شقاء؟
ساهرات الجفون — هل لفراق؟
خافقات الضلوع — هل للقاء؟
هائمات مع المجرة تجر
ين إلى غير غاية أو رجاء
مثل سرب من المها، ظامئات
حول ماء يمنعن ورد الماء
أو عذارى من حول نعش حيارى
في صلاة ما تنقضي ودعاء
إن في لحظك الشجي حنينًا
نافذًا سهمه إلى أحشائي
وأرى نورك الضئيل كدمع
سائل من محاجر بيضاء
أثغور كئيبة أم جراح
أنت في اللانهاية السوداء؟
أنت يا جدة الخلائق، أم الد
هر يا ربة الهدى والضياء!
أنت تبكين يا نجوم؟ أجابت
نحن في عزلة بهذا الفضاء
بيننا الهجر من قديم فلا يغـ
ـررك منا تقارب الأضواء
كل نجم منا يعيش بعيدًا
عن أخيه في وحشة وجفاء
محرقًا نفسه بغير انتفاع
ذاهبًا نوره سدى في السماء
قد فهمت الذي تقولين يا شهـ
ـب فأنتن أنفس الشعراء
هكذا نورها يضيع بأفْق
نزلت منه منزل الغرباء
لا ترى الأنفس القريبة منها
ما بها من توقد وذكاء
فتنير الظلام حينًا وتمضي
في ثياب الخلود نحو الفناء

هذان هما الأصل الفرنسي والاقتباس العربي، ولا أحسب القارئ واجدًا لذة في قراءة ترجمتي المنثورة إلا هو واجد أضعافها في قراءة الاقتباس العربي المنظوم، ولكنه يحسن كذلك صنعًا إذا أخذ في مقابلة القصيدتين، فرأى كيف يقدم الأستاذ فياض ويؤخر، وكيف يختصر المعاني أحيانًا وأحيانًا يفصلها، وكيف يجتهد لإبراز تلك الصور الفرنجية في حلة عربية، وأين وفق وأين لم يسعده التوفيق، أدع ذلك لغواة الشعر من القراء، ولا يخفى ما فيه من اللذة والفائدة على السواء.

إن الأستاذ فياض، لما قابل في نقده العاملي، بين أبيات هذا الفاضل وأبيات الشاعر الذي لم يذكر اسمه، والذي حسبه الناس يومئذ الأستاذ فياض نفسه؛ لأن الأبيات من قصيدة منشورة في ديوانه؛ نقول: لعله لم يذكر اسم الشاعر يومذاك؛ لأنه «تذكر» فجأة أن قصيدة النجوم هي في الحقيقة قصيدة المجرة.

ولكن الشاعر الفرنسي برودوم يتكلم في قصيدته عن الأرواح أو الأنفس، عن أرواح بني آدم جميعًا ولا يخص أناسًا دون آخرين، فلِمَ حصر الأستاذ فياض المسألة في طائفة واحدة من الناس هي طائفة الشعراء؟ ألأن الشعراء وحدهم ذوو أرواح وأنفس؛ أم لأنهم أصحاب وجدان؟

دمشقي

(٢) كتاب مفتوح

سيدي الأستاذ الريحاني — حفظه الله:

إذا كان شيخكم شيخ الفلاسفة أفلاطون، أخرج من جمهوريته الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون، فلماذا عصيتم أمره؟ ألا ترون يا سيدي رأيه أنهم يعيثون في المجتمع، وفي أخلاق الناس فسادًا؟ أقول ذلك لأن الشعراء ما كادوا يبلغون في هَيامهم الطويل واديَكم، وادي الفريكة، إلا كنتم إلى لقائهم خفافًا، فأحسنتم وفادتهم وأنزلتموهم على الرُّحب والسَّعة، كأنكم تريدون تطييب خاطرهم فينسوا آلام النفي الجائر الذي حكمت به عليهم منذ أجيال وقرون، الحكمة — لا المحكمة — حكمة الإمام أفلاطون — عفا الله عنه.

ومن قبل يا سيدي أكرمتم المعري إذ ترجمتم شعره في الإنكليزية رباعيات، فزعم بعض المحبين — وهم كثر — أن الترجمة أفضل من الأصل العربي، ولكني أجد عناءً كبيرًا في تصديق هذا الزعم؛ لأني أحب المعري في عروبته كما هو، حبًّا جمًّا وأعجب به إعجابًا لا حد له، ولعمري هل يستطيع مترجم مهما يكن مجيدًا — وإن يكن الريحاني — أن يترجم في لغة أجنبية شعر الشاعر العبقري، فتأتي هذه الترجمة خيرًا من الأصل؟ وعلى كلٍّ فإني لأرجو أن يكون المعري — يوم نشرت رباعياتكم الإنكليزية — قد حملت إليه نسخة منها في ظلال الجنة التي وعد المتقون، فخف إلى «ملتون» يقرئه إياها، ثم جلسا يتعاكظان.

أقول: في الجنة، أجل، فالجنة ليست — بمشيئة الله — كجمهورية أفلاطون خلاء من الشعراء، بل إذا كان هؤلاء الذين يقضون عمرهم متوجعين من حياتهم الدنيا، شاخصي البصر متطلعين إلى جنات النعيم حتى إذا لمحوها لمحًا، أو هبت عليهم منها نفحة عادوا إلى أنفسهم يجهدونها؛ ليصوروا للناس ما رأوا؛ وليودعوا شعرهم تلك النفحة العلوية، إذا كان هؤلاء لا يفوزون بالجنة فمن الفائزون؟ وتالله إن لم يكن الشعراء في الجنة فأين يكونون؟ ألا ترون يا سيدي الريحاني أنه ليس من الحكمة جعلهم في دركات الجحيم؛ لئلا يفسدوا على الموكل بعذاب الأشقياء عمله، فيسلوا المعذبين عما هم فيه من العذاب، كما يَسْلُون البشر في هذه الدنيا؟

•••

لنعد الآن، إذا أذنتم، إلى حبكم الشعر والشعراء رغم أنف أفلاطون، صاحب تلك الجمهورية الحزينة. قلت إنكم أكرمتم المعري من قبل، وأقول إنكم تكرمون إلياس بك فياض من بعد، أو تحسبون أنكم تكرمونه فإذا أنتم في الحقيقة تكرمون الشاعر الفرنسي سوللي برودوم، ولا أدري لمن الذنب في هذا، بل يُخَيَّل إلي أن الذنب لشيطاني أنا، وإليكم القصة: كتبت منذ أسبوعين في هذا (النديم) المؤنس مقالة قابلت فيها بين قصيدة (المجرة) البرودومية وبين ترجمتها (النجوم) الفياضية، وقلت يومئذ إن لي شيطانًا يلهمني في المقارنة أو المقابلة بين الشعراء، ويسدد خطواتي، وإلا فكيف قرأت معًا ديوان الشاعر العربي فياض وديوان الشاعر الفرنسي برودوم؟ ويلوح لي أن هذا الشيطان بينما كنت أكتب مقالتي تلك، سول لكم أن تجلسوا حول طاولة المُدام، على رواية مجلة «مينرفا» في جزئها الأخير، فتذكروا الشعر والشعراء والمتشاعرين، فينشدكم الأستاذ فياض قصيدته «النجوم» فتفعل القصيدة في نفوسكم، ويحملكم الإعجاب بمعانيها ومبانيها على أن تهتفوا: «الله! الله! هذا شعر خالد، هذا شعر الأمم»، ثم تبرعتم يا سيدي الريحاني بنقلها إلى الإنكليزية، أو اقْتُرح عليكم ذلك، ولا فرق فالمهم أنكم فعلتم: ترجمتم قصيدة «النجوم» العربية في لغة شكسبير.

ولماذا؟ بالطبع لا ليقرأ هذه الترجمة الجيدة في مجلة مينرفا، قُرَّاؤها من الناطقين بالضاد، كما أنكم لم تقتبسوا بعض لزوميات المعري وتُودُعوها رباعياتكم الإنكليزية لأتمتع أنا بمطالعتها. لقد أردتم في كلتا الحالين أن تُظهروا الإفرنج على آدابنا بنقل طائفة من نماذجها العالية.

ولكن … أرأيتم يا سيدي، لو أن شيطاني نشر غدًا أو بعد غد، في إحدى المجلات الأمريكية التي تزدان بمقالاتكم، بعد مقدمة وجيزة يُطْري فيها الأدب العربي في هذا العصر، ويذكر فضل الأستاذ فياض عليه … أجل، لو أن شيطاني نشر قصيدة النجوم بالعنوان الآتي:
The Stars
By Elias Fayad
Translated by Ameen Rihani

على نحو ما فعلت «مينرفا»، ثم أخذ المجلة فتًى أمريكي يطلب العلم في كلية الآداب بباريس، ويشتغل في أطروحة — كما يقول صديقي المجمع العلمي العربي — موضوعها: «الرأي الفلسفي في شعر سوللي برودوم» أو «سوللي برودوم والمذهب البرناسي»؛ لينال بأطروحته شهادة الدكترة في الآداب، فوقع نظر صاحبكم على «نجومنا»، فقرأها فذكر أنه قرأ شيئًا من هذا القبيل في غير هذا الموضع، ثم ذكر أخيرًا أنها «مجرة» شاعره سوللي برودوم … أرأيتم يا سيدي الريحاني لو أنَّ القصة تختم بقول الفتى الأمريكي وهو يضحك: ولكن … ولكن هذه بضاعتنا ردت إلينا!

•••

إذن، لقد هتفتم يا سيدي ليلتئذ: «هذا شعر خالد. هذا شعر الأمم!» أما إنه شعر الأمم، فلا عجب: قصيدة إفرنجية التصور والإحساس والتفكير، اشترك في وضعها قلب غربي ودماغه. ولكنكم تغفرون لي جرأتي إذا قلت إن أكثر إعجابكم بها ناتج عن أنَّ هذا النوع من الشعر نادر في أدبنا العربي بل يكاد يكون معدومًا، وإلا فإن للشاعر الفرنسي سوللي برودوم في دواوينه الشعرية العشرة مئات من القصائد تماثل قصيدة المجرة أو النجوم وتفضلها، وليس سوللي برودوم في الطبقة الأولى ولا الثانية بين شعراء الفرنسيس. كان إمام البرناس وهو مذهب في الشعر تقوم دعوة أهله على تجويد المبنى ولا مذهب لهم سواه، وكان في حياته ذائع الشهرة، وكانت كتبه متداولة، لكنه بعد سنة ١٨٨٨ ترك نظم الشعر، ورغم أنه توفي سنة ١٩٠٧؛ أي من عهد غير بعيد، فلا يقرأ الناس اليوم شعره كثيرًا، ما خلا بضع قصائد يجدها الطلاب في كتب المختارات الشعرية، وإحدى هذه القصائد — إذا لم أكن مخطئًا — قصيدة «الإناء المكسور» التي عرَّبها بشارة الخوري.

وعلى كلٍّ فإني لأرجو أن تكونوا صادقين في تنبُّئِكم عن هذا الشعر، فيكون خالدًا بإذن الله؛ لا لأني أضن بدواوين سوللي برودوم أن تعصف بها ريح الزمان، فتذريها كورق الخريف، كلا فإن للشاعر الفرنسي ربًّا يحميه أو يتخلى عنه؛ هو وشأنه، بل أرجو أن تصدق نبوءتكم؛ لأنكم تكلفتم شيئًا من العناء، وحملتم مؤونة هذه الغريبة الدار: القصيدة الإفرنجية المعربة، فنزعتم عنها الحلة المُوشَّاة التي كان خَلَعَها الأستاذ فياض، ثم أعدتموها في زيها الأصلي لتردوها إلى أهلها، كما ترد الأمانات، سالمة غانمة، ولكن متغيرة بعض الشيء بفعل المناخ — عافاها الله — وإذا كان نفر من الناطقين بالضاد قد ألفوا هذه الغادة الفرنسية التي قضت في ربوعهم نحو أربعة عشر ربيعًا، وشغفوا بمحاسنها الغريبة حبًّا، فلا بأس أن يودعوها بدمعة، قولوا لهم معي يا سيدي الريحاني: عزاء يا إخواننا! لا بد من أن يرجع الشيء إلى أصله، مهما يطل العهد ويبعد المزار. وإذا كان مكتوبًا لهذه الغادة الحسناء أن تهرم ويذهب جمالها، فخير لنا ولها أن تكون عند أهلها، فإن هؤلاء أحق بإيوائها يوم لا تصلح لشيء.

•••

ما العمل يا سيدي؟ لقد كانت النِّيَّة، إذا أردتم إطلاع الغرب على نموذج حسن من أدبنا العصري، حسنة صالحة، فإذا لم توفق النية هذه المرة؛ فلأن شيطاني أفسد عملها المشكور، قاتله الله وحفظكم الله!

وفي الختام يسألكم الصفح الجميل امرؤ أراد أن يتشرف بالكتابة إليكم، فإذا بمئات من قراء (النديم) حول منضدته يقرءون من غير استحياء ما يكتب — إذ هذا هو الكتاب المفتوح على ما يظهر — والسلام عليكم من معجب بكم وبفياض، بل بكل نزعة مباركة إلى التجديد في عالمنا العربي.

الصالحية في ١ مارس سنة ١٩٢٧
دمشقي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤