الباب المرصود

شَهِدْتُ ليلة أمس في إحدى سينماوات البلد فِلمًا يقص علينا القصة الأبدية: نفسان فاضلتان — رجل وامرأة، تُجزيان في الختام، بعد عذاب شديد ونصب طويل، بالهناء المقيم والراحة الشاملة، وكان الفلم مؤثرًا — لو لم أجد فعله في نفسي لوجدت برهان ذلك في الدموع التي ذرفها، ذات اليمين وذات الشمال، فتًى من بني قومنا وعجوز من نساء الإفرنج. لست أزعم أني كنت كالجزيرة بين الفرات ودجلة حتى خشيت الطوفان، ولكني أشهد أن صاحبي الفتى وجارتي العجوز بكيا، ولقد خيل إليَّ أن الأقدار ساقتني نحو محرومين من نعم الحياة، فهممت أن آخذ بيده اليسرى ويدها اليمنى فأعقد بينهما، لولا أن منعتني كراهتي الدخول فيما لا يعنيني، وحسنًا فعلت!

أما الفتى فما أوشكت القصة السينماوية أن تنتهي، ويرجع النور إلى القاعة حتى رأيته يبادر إلى مسح عينيه كالمستحي من ضعف نفسه، الخائف من سَخَر الناس الذين سيعلمون أنه «صدَّق» ووقع في حبائل الفن، وأما العجوز فإني رأيت في أعلى خديها زهرتين ذابلتين تلمع فيهما قطرتان من ذلك الندى الحي، وكانت أكثر تمهلًا في كفكفة عبرتها، كأنما تود لو يستمر هذا السحر قليلًا، أو ترجو أن لا تستيقظ من ذلك الحلم.

•••

هكذا الفن، سواء الموسيقى والشعر وغيرهما، يخرج المرء عن طوره إلى طور ثانٍ وينقله من عالمه إلى عالم آخر، ولعل في البشر إلى هذا الانتقال حاجة طبيعية تلح عليهم حينًا بعد حين، فهم يكفونها بمختلف الوسائل التي اسْتُنْبِطت من أقدم الأزمنة. وهل الأديان التي تحمل الأنفس من هذه الدنيا المنظورة إلى تلك الآخرة المغيبة بما فيها من جنة ونار، إلا المظهر الأسمى لتوق النفوس وشوقها وحنينها إلى صور غير المرئيات، وحياة كما يقول أناتول فرانس: «تُصلح فيها مساوئ هذه الحياة ويكفر عن ذنوبها؟» هل الأديان إلا وسيلة إلى كفاية تلك الحاجة الطبيعية الدائمة في هذه الأنفس الساخطة المتبرمة؟ ولا عجب. فالبداهة هي أن البشر ينشدون السعادة العظمى، وأنهم لا يوفقون إليها في الواقع الذي يعرفونه ويحسون نقصه وعدم مؤاتاته، وقد حسبوا أنهم يحظون بها — أين؟ — في غيبوبة عن هذا الواقع ونسيان له وخروج منه.

إن البشر في حياتهم هذه لكرفاق سفرٍ استيقظوا بغتة على غير موعد، في حجرة حبيسة الهواء خابية النور، تتجاوب في نواحيها الأصداء المنكرة، وتتطاير الأشباح المخوفة: هذا يبيع وذاك يشتري، هذا يتزوج وذاك يطلق، هذا يلعن وذاك يستغفر، هذا يولول وذاك يغني … فهب كل واحد من هؤلاء المغضوب عليهم، ضيق الصدر طائر البصر، إلى كوة من كِوَى الحجرة يفتحها؛ ليطل منها على عالم مسحور تسبح فيه الملائكة وتلمع الدراري، وترقص الجنيات الحسان؛ في مروج من سندس، تحت سماء من لازورد، حيث الهناء المقيم والراحة الشاملة.

ولذلك رأينا بعضهم يُدمن الخمر مؤمنًا بباخوس، أو يشم الكوكايين واجدًا فيه ريح الجنة، ورأينا البعض الآخر يقبل على الحشيش، أو الأفيون الذي زعم الكاتب الإنكليزي «دو كوينسي» في دعائه المشهور إلى هذا الرب المعبود، أنه قادر على أن يشيِّد، بأبرع صنعة من فيدياس وأبلغ فنًّا من براكسيتيل، مُدنًا ومعابد تفوق بابل وإرم ذات العماد، عظمة وسناء: «أنت وحدك تهب الإنسان هذه الكنوز، وبيدك وحدك مفاتيح الجنان، أيها الأفيون العادل القدير ذو السلطان!» وكل هؤلاء يسلكون في مشارق الأرض ومغاربها سبلًا مختلفة إلى غاية واحدة: السكر، أو الغيبوبة التي تُنسى فيها هموم الحياة اليومية، وليست تلك السموم القاتلة إلا مفازات يقطعونها إلى عالم الغيب والغفلة والطمأنينة، أو كِوًى يفتحونها في الحجرة الحبيسة الهواء، الخابية النور، التي تتناكر فيها الأصوات وتتزاحم الأخيلة.

والحب متى يبلغ أشده ويصل إلى ذروته؟ ألم يقل العارفون: إنه يكون حينئذ كنشوة السكارى يغيب بها المرء عن نفسه، ويغفل عما حوله، وينسى حاضره وآتيه، حتى ليحسب أنه يضم إلى صدره حبيبه، حبيبه بعينه، وهو لا يضم لو يعلم إلا صورة يتخيلها أو مثالًا يتمثله، في برزخ بين الموت والحياة، بل حيث لا موت ولا حياة! هو الفقير فإذا به الغني، وهو المنكود فإذا به المجدود، وهو في الأرض فإذا به في السماء.

•••

سئمتْ نفس «بودلير» الشاعر الفرنسي فطفق ينقلها من قطر إلى قطر، وهو يمنِّيها بالنعيم والطمأنينة وهي لا تزداد إلا قلقًا وملالة ولهفة إلى الرحيل، وكان لا يفتأ يسألها في إحدى قصائده المنثورة: «إلى أين تريدين يا نفسي؟» فلما فرغت حيلته ونفد صبرها أجابت قائلة: «حيثما كان، ولكن في خارج هذه الدنيا!» ولبودلير قصيدة هي آية في الإبداع عنوانها «الرحيل» قص فيها قصة تلك النفس الظامئة أبدًا، ووصف جهوده في الفرار من ذاته، لقد عاذ الشاعر بالفن والجمال والطيوب والموسيقى؛ لأنها على حد قوله: «لِقلوب أبناء آدم أفيون إلهي»، ولكن لم يُجْدِهِ عياذُه بها جميعًا، فلجأ إلى الحب والدين ثم جرب كل الوسائل التي اهتدى إليها البشر لتنويع اللذة وإرواء النفس، فإذا بالسعادة في مراحل هذه الهجرة الكبرى رغم بهجة الطريق، سراب خادع لا يتلاشى في أفق إلا ليظهر في أفق أبعد فأبعد، وأخيرًا عرف «الأفيون العظيم»! وله كتاب في وصف الجنات، لا جنات عدن، بل «جناته المصطنعة»، فقال لنفسه: إذا كان النعيم في الموت، في الموت وحده، فليكن المرحلة الأخيرة يا نفسي! وهنا يلتقي بودلير وأفيونه بالبوذيين و«نرفانا» هم، لتمام كروية الأرض … وأن قوافل البشرية المتنقلة من أزل الآزال إلى أبد الآباد، في سبلها المختلفة؛ لتقف جميعًا عند غاية واحدة مزدحمة على عتبة الباب المرصود، حاسبة أن السعادة الكبرى والطمأنينة العظمى خلف الباب، متسائلة في حيرة ولهفة: ولكن من، تُرى، يفك الرصد؟

•••

ما أكثر ما رأيتني كالشيخ يعود إليه مرح الشباب بغتة، أُمنِّي نفسي بالنعيم لأني ممسك إلى صدري كتابًا، أسرع في خطاي كأني وحبيبتي على موعد لقاء!

١٩٢٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤