المشهد الخامس

(نفس المنظر، تدخل حُسْنة مع غازية.)

(عندما يضاء المسرح تكونان في منتصف الحديث.)

حُسْنة :
بل إني واثقة يا مولاتي
حُبست خاتون ببرج القصر.
غازية : من أمر بذلك؟
حُسْنة : سيف الدين.
غازية : علنًا؟
حُسْنة : ماذا تعنين؟
غازية :
أعني هل قال: «بأمر السلطان»
أو «باسم الحاكم»؟
حُسْنة :
لا أدري يا مولاتي،
لكن الحراس مضوا بالمسكينة دون كلام،
أخذوها بدلًا من جاسوس التتر إلى السجن
(مترددة) ولعلك … أقصد …
غازية (تضحك) :
أعرف تلك الغرفة؟
بل أعرفها خيرًا من كل النزلاء،
مع أني لم أقضِ بها إلا بضعة أشهر!
واهًا لك يا خاتون المسكينة!
هربَت منذ سنين لخيالاتٍ ملتاثة
بعد وفاة أبيها السلطان!
لم تتصور أن يمضي في منتصف العمر
فيتركها نهبًا للجشع وأطماع الأمراء.
حُسْنة : أفلا يهواها سيف الدين؟
غازية : يهواها فيزج بها في السجن؟
حُسْنة :
بل قال سيأخذها معه … أعني يتزوجها،
وتحدث عن مهرٍ أعطاه أباها قبل وفاته.
غازية :
يتزوجها؟ سيف الدين القشقار؟
(تضحك في مرارة) قد كنت أظنكِ ذات دراية.
حُسْنة : لكن مولاتي لم ترضَ ولن ترضى!
غازية :
ماذا تملك خاتون؟
مولاتك لا حول لها،
زارتني يومًا في المحبس.
حُسْنة : مولاتي خاتون؟
غازية :
كانت شاردة اللب،
تحلم بالفارس ذي اللون الأسمر،
رجل من أهل البر.
حُسْنة :
أعرف يا مولاتي،
لكن ما شأنك أنت؟
غازية :
ما شأني حقًّا!
يا حُسْنة! من ألقاني في السجن البارد ألقاها!
لم يكن الحاكمَ في أي الحالَين!
بل أمراء الحاكم … مَن سلبوه السلطة
علم الدين وسيف الدين وغيرهما.
حُسْنة : أعلم أشياءً أخرى عن علم الدين وعنك.
غازية (تضحك) : كان يرى فيَّ حياته!
حُسْنة : أقصد أنك بنت الباشقَردي!
غازية :
ابنة عمه؟
حقًّا؟ قد كان يرى فيَّ الأمل المعقود!
وتصوَّر أني ابنة عمه!
ولهذا ألقاني في السجن … وأنكر!
حُسْنة : هل هذا لغز يا مولاتي؟
غازية :
إني يا حُسْنة مثلك! من أبناء الناس! وكلانا يعرف بعض الأشياء عن الآخر!
وقريبًا أفضي بالسر إليك!
وأحابيل دهاليز القصر الظلماء ستفرخ هذا اليوم،
أعرف كيف ستفرخ … بل وأحس بنوع الأفراخ!
حُسْنة : مولاتي شاعرة لا شك!
غازية :
بل لا أذكر إلا ما أعلم علم يقين
(يدخل شهبندر من وراء ظهر غازية بحيث لا تراه ولكن حُسْنة تراه.)
وأكاد أرى شهبندر يسعى حتى تمضي معه …
حُسْنة (مقاطعة في دهشة) : شهبندر!

(شهبندر يتسمر في مكانه.)

غازية (تستمر دون التفات) :
شغلَته أمور البحر عن الدنيا،
لكن لم تشغله عنك.
حُسْنة (تشير إليه أن اختبئ) : مولاتي تعرف كل الأسرار.
غازية :
أوَهذا سرٌّ يا حُسْنة؟
ها هو شهبندر.

(تلتفت إليه وتواجهه.)

شهبندر (يبلع ريقه) : مولاتي!
غازية : أحسنتَ بأن دبرت الهرب اليوم.
شهبندر : مولاتي … ماذا تحكين؟
غازية :
لا تخشَ ملامًا يا شهبندر
ليس لمثلكما في هذا القصر حياة.
شهبندر :
أنا حقًّا أعددت العدة،
لكن الحال عصيب،
والجاسوس التتري يدبر لهلاك البر.
حُسْنة : يقصد صِمْغار.
غازية :
أعرف من يعني ولسوف أقابله الآن،
أرجو أن ترحل مع حُسْنة … حتى سوقِ القلعة
اسأل عن أهل الصنعة،
وأقم لا تبرح حتى آتي،
انتظرا ساعاتٍ معدودة
مع بعض معارفيَ الخلصاء.
حُسْنة :
من تقصد مولاتي؟
أنا أعرف عددًا منهم
لكني لا أدري إن كان هنالك من يذكرني.
غازية :
في سوق القلعة رجل أرسله السلطان
حتى يتحسس أخبار الناس،
لم يعد البارحة ولا اليوم،
لا أدري ماذا حل به.
شهبندر (في دهشة) : أهو صديق يا مولاتي؟
غازية :
بل أحد عيوني يا شهبندر،
إن جرتِ الأحداث كما أبغي
فلسوف أوافي السوق قُبَيل العصر،
ورجائي أن تنتظرا مهما كان الأمر.
حُسْنة : لكن … مولاتي … لا أفهم.
غازية : هيا يا حُسْنة فالموقف لا يحتمل نقاشًا … هيا.
شهبندر :
مولاتي … هل نخبر هذا الجاسوس بشيء؟
أم نسمع منه الأخبار؟
غازية :
ما أكثر ما تسأل يا شهبندر!
أفلا تصبر عدة ساعات؟
هيا … قلت لكَ!

(يخرج شهبندر من حيث أتى مع حُسْنة.)

غازية (وحدها على المسرح) :
اليوم سيشهد ما لم يشهده التاريخ،
أعرف ما يُحدق بالخطة من أخطار،
فأنا ألَّبتُ المملوكين على السلطان،
وألبت السلطان على المملوكين،
ونسجت بمحبسي المظلم أطراف الخطة
دون حساب لوصول الجاسوس،
أو لوصول القائد صِمْغار،
لن ينجح ثأري من علم الدين
إلا إن وقف التتريُّ معي،
آهٍ يا غازية لقد آن أوان الثأر
أتحالف فيه مع الشيطان؛
كي أضع نهاية هذا الحُكم الظالم.

(يدخل محمود مع حارس.)

غازية (ضاحكة بدلال) : أهلًا بالملك الظافر.
محمود : من مولاتي؟
غازية (إلى الحارس) :
اخرج أنت … (يخرج الحارس)
أقبل يا ملك البرَّين.
محمود :
مولاتي … أنتم تعتقدون بأني صِمْغار،
لكني … وأؤكد لك … لست بصِمْغار.
غازية : تقصد أنك نجار؟
محمود :
نجار يا مولاتي من حي القلعة،
رجل من أهل الصنعة.
غازية (ساخرة) : ولذلك يحتفل الكل بمقدمك الميمون؟
محمود :
كنتم تنتظرون وصول التتري
في زي ابن البلد المصري
فوصلت أنا أطلب أخشابًا.
غازية : فتصورناك التتري؟
محمود :
اسمي محمود يا مولاتي،
والكل يريد محادثتي
ويسر إلي بأسرار الدولة.
غازية :
لكني لن أطلعك على أسرار
سأقص عليك وحسْب … قصة حبسي.
محمود : قصة حبسك يا مولاتي؟
غازية : أسئمت القصر ولمَّا تمكث فيه سويعاتٍ سبعًا؟
محمود :
بل إني رهن المحبس أشتاق العودة،
من لي يا مولاتي بالحرية؟
أشتاق لفرج وعبيد،
أشتاق لمسعود ولأم علية.
غازية (تصفق) :
أحسنتَ التمثيل اليوم،
لا بأس بلهجتك المصرية.
محمود (فجأة تتغير لهجته) :
ولنفرض أني جاسوس يا مولاتي،
ماذا تبغي غازية من جاسوس تتري؟
أوَليس عدو الدولة والإسلام؟
غازية :
بل لستَ عدوًّا لأحد!
إن صرتَ إليَّ وصرتُ إليك
أنقَذْنا هذا الوطن الغالي من ظلم الحكَّام.
محمود :
تتحالف مولاتي مع تتري كي تنقذ أهل البر؟
ماذا في طوق التتري … بل ماذا في طوق أميرة؟
غازية :
أنا لا أتحالف مع تتري يا … صِمْغار،
لكني أبغي أن أطلعك على الوجه الآخر لحياة الناس.
محمود :
أتُراك على علم بحياة الناس إذن؟
أترى تدرين بما يحدث خارج أسوار القصر؟
إنك يا مولاتي مترفة تجدين المأكل والملبس
وعلى الجنبين الخدم يلبون الأمر،
إن يقسُ الزمن عليك ينل من سطوتك الشماء،
أو يعطف يسمُ بعرشك للعلياء،
ماذا يشغلكم إلا أسلاب الغزوات
وسبي الروميات وأحلام الأمراء المهترئة؟
بِعتم للشعب أكاذيب النصر البلهاء
وتركتم من فيه يئن بلا أمس أو غدْ
محرومًا يتساند فيه الفقراء على الفقراء.
غازية (دهشة من حماسه) :
مهلًا مهلًا،
لكأني بك مصري حقًّا!
محمود :
لأكُن من يرضيكم،
فأنا أدري الآن بأن الأمر خطير حقًّا؛
أمراء لا يعنيهم إلا قتل الأمراء،
فاتنة تحلم بالمنقذ،
وأميرة قصر حُبست وتود الثأر،
هل هذا ما يعني الحكم؟
هل هذا معنى السهر على مصلحة أهالي البر؟
غازية : نبراتك يصعب أن تصدر عن تتري.
محمود :
الواقع أن التتر بأعينكم مثل أهالي البر
أغراب عنكم،
تنقضُّون عليهم غفلة … أو تنسونهمُ غفلة
في حي القلعة يا مولاتي حيث أقيم،
بشر يحيَون على هامش دنيا الله،
بل لا يجدون من الدنيا ظل سحابة صيف.
غازية :
إن تك حقًّا محمود النجار
فلماذا جئت إلى القصر؟
بل كيف دخلت ولم يمنعك أحد؟
محمود : الواقع أني لا أكترث لتصديق أو تكذيب.
غازية : أتُراك خدعتَ الناس جميعًا؟
محمود :
أنا لم أخدع أحدًا يا مولاتي،
بل أنتم من خدع الدنيا والناس،
إنا ندفع ثمن الحرب رجالًا ودمًا،
إن تكن الإمرة للأمراء
فجنود الجيش من الشعب الكادح.
غازية : هل يعقل أن يعرف نجار هذا كله؟
محمود :
مولاتي،
الناس على علم بالأحوال،
والشاعر لا يخدع إلا السذج.
غازية : إن كنت إذن محمودًا …
محمود : بل أنا محمودٌ يا مولاتي.
غازية : ولماذا جئت؟
محمود : أطلب بعض الأخشاب.
غازية : لكنك في خطر محدق.
محمود : إن عرف الناس حقيقة أمري؟
غازية :
إن عرفوها قتلوك،
بل لن ينجيك سوى دور الجاسوس التتري.
محمود : أتظاهر أني جاسوس؟
غازية :
اسمع … (تتردد) محمود
أنا لست سليلة مملوك أو سلطان،
لكني مثلك مصرية،
ولقد عُذِّبت وآن أوان الثأر.
محمود :
الثأر من فردٍ ضياع،
أعداء دين الله عند تخومنا يتحفزون،
ضربوا خيامهمُ وطال مقامهم،
وهمُ بنا يتربصون.
غازية : لا شك يا محمود لكن … لستَ تدري ما الخطر.
محمود :
هذا هو الخطر الذي يحيا بمشرقنا
من أربعين سنة،
في كل يوم يعقدون الصلح ثم يمزقونه!
في كل يوم يكسبون الأرض منا
ينشرون بناتهم وبنيَّهم في كل رَبع،
بل إنهم قد خالطوا أهل الديار وصاهروهم
ريثما يأتي أوان قطافهم مثل الثمار الدانية،
لا يا أميرة ليس ثأركِ ذا خطر.
غازية : أنشن الحرب عليهم يا محمود ونحن شِعاب وشَتات؟
محمود :
لا تسليني عما يفعل أهل الدولة،
فأنا ذو هم في حرفتي المكروبة،
ومَرامي أن أخرج من هذا القصر سليمًا ومعافى.
غازية :
تتنكر تنكص تنكث؟
تتخلى عن بلدك في لحظة ضعف؟
محمود :
عجبًا لك يا مولاتي!
هل أولاني أحد شيئًا حتى أتنكر له؟
هل خيرني أحد في شيء حتى أنكص عنه؟
هل أقسمت على شيء حتى أنكث فيه؟
إني لا أتخلى عن بلدي … بل أنفر من حُكم السيف،
الحاكم يا مولاتي عقل وبصيرة … لا سيف مصلت.
غازية :
الحُكم رهين بالسيف القاطع،
يبرق في ليل الوحشة فيحيل البهمة لَأْلاءً كمسيل الشمس.
محمود : ولذا يحكمنا الجند.
غازية : احكم أنت.
محمود :
بل أنا نجار يا مولاتي … وسعيد بحياتي،
عندي آمال لا أملك أن أجعلها تورق،
لكنَّ لدنيا في حي القلعة تاريخًا نحيا به،
وعلى شط النيل زهور وورود لا يعرفها الأمراء،
فلأعد الآن إلى أهلي ولتتماسك أيدينا حتى نجتاز المحنة،
مولاتي … أستودعك الله!
غازية : تهجرنا يا محمود كأنا أغراب عنك؟
محمود : بل أنتم أغراب يا مولاتي.
غازية : أنا مصرية.
محمود (ساخرًا) : حقًّا؟
غازية : الحقَّ أقول.
محمود : هذا شأنك … أستودعكِ الله.
غازية : بل شأنك أيضًا.
محمود (مبتعدًا) : مولاتي.
غازية : محمود.

(وهو على وشك الخروج … يصيح منادٍ يا أهل القصر … قتل السلطان الأعظم! قَتل الجاسوس التتري السلطان الأعظم!)

محمود : ما هذا؟
غازية : اهرب يا محمود اهرب.

(يدخل الجنود بسرعةٍ ويقبضون عليه.)

محمود : ماذا يحدث يا ناس؟
غازية (للجنود) : ماذا حدث؟

(يدخل عز الدين.)

عز الدين :
قُتل السلطان بغرفته العلوية،
ولقد أثبَتنا التهمة وعرفنا الفاعل.

(يدخل سيف الدين.)

سيف الدين :
هذ الجاسوس الخائن قاتل،
وسنقتله ونمثِّل به.

(يدخل علم الدين.)

علم الدين :
هل فر الجاسوس؟ لا … ها هو ذا!
فليُقتل فورًا يا أمراء!
لا وقت لدَينا … نحن بحالة حرب،
فليُقتل فورًا يا صحب.
غازية :
هذا يا أمراء بريء لم يذنب،
بل ليس بجاسوس أو تتري.
سيف الدين : صمتًا يا غازية فقد قُضي الأمر.
محمود :
بل أنا صِمْغار خليفة هولاكو،
ولديَّ عيون في كل مكان،
بل في جيش المتفاخر سيف الدين،
وهي عيون كشفت لي كل بلية،
ولقد أرسلتُ لقُوادي ولقُواتي
وحمامي في الأجواء على متن الريح الغربية،
إني أنذركم … إن مُسَّت في جسدي شعرة
انقضَّ عليكم جيش التتر فأفناكم.
غازية : ماذا تحكي يا محمود؟
علم الدين : إنا في حالة حرب … أقصد أنت أسير في يدنا.
عز الدين : من حق أسير الحرب دفاعٌ عادل.
سيف الدين : ومحاكمة عادلة في كل الأحوال.
علم الدين : نعقدها الآن.
عز الدين : بل الليلة.
سيف الدين :
بل فيما بعد!
فلدَينا الآن أمور تشغلنا؛
إذ إني بعد مبايعتي
لا بد سأنظر فيما آل إليه الحال.
علم الدين (ذهول) : بعد مبايعتك؟
عز الدين (ذهول) : عند مبايعتك؟
سيف الدين :
يا أيها الحراس نفذوا أوامري،
وليُحبس الجاسوس في الديوان حتى نعقد المحاكمة!
(إظلام)
(نهاية الجزء الأول)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤