مقدمة المسرحية

(١) مصادر القصة: من أين استقى الشاعر موضوعه

تحوي هذه المسرحية المرحة حادثين؛ أوَّلهما يتصل بثلاثة أبطال، وهم «هيرو، وكلوديو، ودون جون»، ويكاد هذا العنصر يبدو جادًّا في جملته، لا فكاهة فيه، والآخر مرح كله، ويتصل بشخصيتين بديعتين، وهما «بياتريس» و«بنيديك»، وإلى جانب هذين القسمين، عنصر إضافي ثالث تسري الفكاهة في جميع نواحيه، وهو يدور حول شُرطِي عجيب يُدْعَى «دوجبري»، وصاحب له يُسمَّى «فارجس»، والحراس الذين يعملون بإمرتهما، ويكشفون المكيدة التي كادها الحقد لاتهام «هيرو» العذراء بالخيانة والإثم. ولو حذفنا هذا العنصر الفَكِه من القصة، لفقدت خير ما فيها من متعة، وجُردت من أبدع ما احتوته من فكاهة.

وقد استقى شكسبير موضوع المسرحية من مصدرين هما:
  • (١)

    قصة سان تمبريو دي كاردونا التي حوتها مجموعة قصص كُتبت في اثنين وعشرين جزءًا، وطُبعت باللغة الإيطالية عام ١٥٥٤ لمؤلفها «ماتيوبانديللو» أسقف آجن.

    وكانت قد تُرجمت إلى الفرنسية في عام ١٥٨٢، واشتهرت في عهد شكسبير وأكبر الظن أنه عرفها، أو ظفر بنسخة منها في الإنجليزية، فقد نُقلت إليها في أيامه أو قُبَيْل ظهوره.

    وليس من شك في أن موضوع هذه القصة التي ننقلها للعالم العربي مأخوذ من قصة «سان تمبريو» لتشابه الحوادث فيهما، وإن كانت القصة القديمة قد جرت أحداثها في «ميلانو»، وهذه في مسينا، كما تماثل اسم البطلة في القصتين وهو «ليوناتو وورد» في الرواية الإيطالية كذلك اسم «دون بدرو» ملك أرغونة. ويبدو أن شكسبير حذف شخصيته في القصة القديمة، وهي زوجة ليوناتو، وأم هيرو أو أنه أوردها في بداية الفصلين الأول والثاني ولكن إدارة المسرح أغفلتها ورأت ألاّ ضرورة لها.

    والواقع أن عشْر بطلات في روايات شكسبير جِئنَ فيها بغير أمهات، ونعني منهن «بياتريس» و«هيرو» في قصتنا هذه، وكورديليا وديدمونة وأينوجن وإيزابيلا وميراندا وأوفيليا وبورشيا وروزالند.

    وفيما يلي الحوادث التي استقاها شكسبير من بانديللو:
    • (١)

      طريقة الوساطة في خطبة كلوديو لهيرو.

    • (٢)

      فسخ الخِطْبة في اللحظة الأخيرة والعروسان أمام الهيكل.

    • (٣)

      مخادعة بوراشيو لكلوديو وتضليله.

    • (٤)

      إغماء هيرو وادِّعاء وفاتها.

    • (٥)

      زواجها من جديد.

  • (٢)

    قصة «أريودانت وجنيفره» التي نقلها إلى الإنجليزية السير «هارنجتون» في عام ١٥٩١ من الجزء الخامس من قصص «أريوسطو» وهو الجزء الخاص برواية «أورلاندوفيرويوزو»، وكانت قد ظهرت لها ترجمة قديمة في عام ١٥٦٥، ولكن لا نحسب شكسبير اطَّلع عليها أو استمد منها موضوعه.

    ولم يكن اقتباسه منها كثيرًا، فقد أخذ حكاية اختباء كلوديو في الحديقة ليطَّلع بعينيه على خيانة حبيبته، كما استمد تمثيل مرجريت لدور «هيرو» إفكًا وبهتانًا.

    أما المكيدة وشخصيتا بياتريس وبنيديك، ومحاوراتهما البديعة ومواقفهما الممتعة، وأدوار «دوجبري»، وصاحبه والحراس والمشاهد الفكهة التي حوتها القصة فهي جميعًا من مبتكر الشاعر العبقري ووحي خاطره الخصيب …

(٢) أبطال القصة

يَحسُن قبل أن يبدأ المرء قراءة القصة أن يعرف شيئًا عن شخصيات أبطالها، والصلة بينهم، ومعالم أخلاقهم ومنازعهم حتى تتفتح له فصولها، ويسهُل عليه متابعة مشاهدتها، وما نحسب أحدًا يجد روحًا إلى حديث إنسان، أو سكونًا إلى مجلسه، إذا لم يؤتَ علم شيء عن ماضيه، أو حاضره، أو مكانه من الناس.

ونحن هنا محاولون أن نرسم معالم الأشخاص، في غير استطراد، تاركين القصة ذاتها تتكشف لهم عند التنقُّل بين مشاهدها المتتابعة.

(٣) مدار الأحداث

تدور القصة حول واقعتين غراميتين، يصح أن تُعدَّ كل واحدة منهما منفصلة من الأخرى، وإن اختلطتا وترابطتا؛ لأنهما مختلفتان اختلافًا بعيد المدى، حتى لتستمد كل واقعة من تناقضها والأخرى قوة وتزداد توكيدًا، وليس من شك في أن أهمَّهما شأنًا، لجد موضوعها وخطر أمرها، هي حب كلوديو وهيرو، فهي تبدأ (غرامًا) ثم تكاد تنقلب إلى مأساة قُبيْل أدوارها الختامية؛ وأما الأخرى، وهي غزل يبدأ سخرية، ثم يتطور حتى ليتراءى أشبه بكراهية ويتخلله مجون، ومطارحة بعبث، واستهزاء، ثم ينتهي هو أيضًا بحب وإعلان، بعد مُداراة وكتمان، ثم إلى زفاف وقران.

ولا ريب في أن كلوديو، هو البطل الأول، فلا مَعْدى من إحلاله في الطليعة عند رسم شخصيات الأبطال.

كلوديو:

هو فتى من فلورنسا أصاب حظوة بالغة عند «دون بدرو» أمير أراجون، فهما لا يكادان يفترقان، حتى لقد أَحْفَظَتْ هذه الحظوة أخًا للأمير يدعى «دون جون» وجعلته يعتقد أن هذا الفتى قد قام على أنقاضه. وأكبر الظن أن هذا التوفيق الذي أصابه كلوديو أثار في نفسه شيئًا من الاعتداد بنفسه، حتى بدا شديد المخافة على كرامته، يخشى أن يتأذَّى كبرياؤه من أقل بادر، فلم يكد يوحي «دون جون» بأن هذا قد غدر به وراح يطلب الفتاة لنفسه، حتى اصطنع الاستخفاف بالأمر، ليخفيَ الجرح الذي أدمى كبرياءه قبل أن يمس حبه، وحين عاد هذا الذي ينفس عليه مكانه عند أخيه يحدثه عن خيانة «هيرو» ثار لكرامته، ولم يتريَّث حتى يتأكد الحق. ولكنا لم نلبث أن رأيناه حين حصحص الحق، يعترف بخطئه، ويرتضي أي عقاب يُفرض عليه تكفيرًا واستغفارًا من فعلته.

ويبدو من سياق القصة في فصلها الأول أن حبه للفتاة لم يأتِ فجأة ولكنه نما في نفسه رويدًا، وإن لم ينبعث في حماسة إلى إظهاره لها. كما لم يبدُ كسير الفؤاد حين مضى يستمع للوشاية بها ويصدق قول الواشي؛ وكان المرتقب أن يثور عليه ويطالبه بإثبات قوله، ولكنَّه غضب على الفتاة وأقسم أن ينتقم منها، بل لم يُبدِ شيئًا من الأسى حين تمَّ له ما أراد من الثأر، فقد اكتفى به، وطلب إلى بنيديك أن يطرد بالمجون الهم عن نفسه.

ولكن ذلك كله على غرابته، لا ينفي أنه أحب الفتاة حبَّا بالغًا لم يَحُلْ دون إظهاره غير اعتداده الشديد بنفسه.

هيرو:

رسم شكسبير شخصيتها على النقيض من ابنة عمِّها، فهي تبدو حَيِيَّة منطوية على نفسها. على حين تلوح الأخرى بَرْزَة مستقلة فصيحة ماجنة كأن كلًّا منهما تُبرز بهذا التناقض شخصية صاحبتها. ولكننا نحس دائمًا وجودها، وإن أقلّت من الكلام، ونستشعر وقارها وحشمتها، ولا يقع كلامها على قلَّته قليل الخطر، بل يُكسِبُ الإعجاب به على إيجازه، وهي لا تخلو من ذكاء ومجانة، كما بدأ في تنفيذها حيلة اتُّفق عليها لحمل ابنة عمها على الرضى عن صاحبها الذي سلطت عليه النكات اللاذعة وبادلته السخرية المريرة، وقد شهدناها حين شهَّر خطيبها بها في الكنيسة على رؤوس الأشهاد، تلوذ بالصمت على فرط اضطرابهما للتهمة النكراء التي رُميت بها، فلم تفتح فمها لتدافع عن شرفها إلا قليلًا، حيال غضبة أبيها وثورة نفسه، ولم تظهر عقب إغمائها إلا في المشهد الأخير حين ثبتت براءتها، وفي هذا الموطن رأيناها تصفح عن «كلوديو» من أعماق قلبها، ولا توجِّه إليه كلمة ملام واحدة.

بنيديك:

فتى من المحسوبين على الأمير وأصحاب حظوته، وقد صوره شكسبير نقيضًا لكلوديو، كما بدت هيرو نقيضة لابنة عمها، وإنه ليشُق على المرء تحديد شخصيته مما كان الآخرون في القصة يقولونه عنه؛ فإن نحن سمعنا لِلَذَعَات «بياتريس» وغمزاتها، أسأنا بعض الظن، وإن نحن تدبَّرنا مديح الأمير له، عجبنا لها كيف قست عليه إلى هذا الحد.

ويلوح لنا أن تظاهره بكراهية النساء مرجعه إلى شيء في خليقته أَلِف السكون إليه، وهو «العادة» حتى لقد قال عن نفسه إنه الجبار المشهود له بالقسوة عليهن، وإن كان قد أقام في الواقع فارقًا ظاهرًا بين رأيه الصادق الخالص وبين الفكرة التي أعلنها وادَّعى احترافها، وأشهد الناس عليها، وقد رأيناه يوحي إلينا بكلامه أنه لا يرضى من المرأة التي لا يتردد في الزواج بها بالشيء اليسير من المحاسن ووجوه الفضل، ولكنه يعترف بأنَّ ما يراه فيها ويؤمن به قد يتحول إلى حب إذا اهتدى إلى المرأة المثالية التي يشترطها.

وهو يتلقى نكات بياتريس وغمزاتها راضيًا غير غاضب ويجيب عنها ببراعة ظاهرة، ويعتز بفكاهته وحذقه للنكتة، ولا بأس عنده من أن تأتي على حسابه وتوجَّه إليه، إن جاءت طريفة مليحة ترضيه، وإن كان قد غضب في ذات نفسه لنكتة واحدة رمته بياتريس بها؛ وهي وصفه بأنه «مهذار الأمير»، فقد اعترف أنها أوجعته، وأحدثت أثرًا بالغًا في خاطره.

وقد عَرَّفنا به في مطلع القصة الرسول الذي قدم لينبِئَ القوم بقرب مقدم الأمير، فقد قال عنه إنه قد عاد إلى المعارك مرحًا كما كان أبدًا، وهو رأي وجدنا جميع شخوص القصة يقرون الرسول عليه.

وقد جعلته طبيعته الرقيقة، أو سلامة فطرته، فريسة سهلة لمكايد الأمير وصاحبه، وعرضة لسخرية أصدقائه وشماتتهم به، ولا ريب في أن التضحية التي بذلها حين اعترف بأنه المغلوب المندحر كانت عميقة الأثر في نفسه الشفافة وعزته، ولكن علمه بأن بياتريس تتلوى من الحب له، كان يتغلب على تظاهره بكراهية النساء، فلم يلبث أن صدَّق الحيلة التي احتالها الأمير لإيقاعه في الحبالة، ولم يكن ثمة شك في حبه حين استطاع التغلب على بغضائه للزواج، ولم تكن هي لتحمله على مطالبة صديقه كلوديو بالخروج إلى المبارزة ركونًا منها إلى الحب الذي يشتعل لها في صدره حتى استجاب لها، ونزل على حكمتها.

أما ذكاؤه فقد تجلَّى في عدة مواقفَ في القصة، فهو الأوحد الذي لبث في مشهد القران الذي انتهى بمأساة، وإغماء العروس، ساكنَ الأوصال، مستريبًا بالفرية التي افتُرِيت عليها. بل هو أول من ذهبت به الظنون إلى الشقيِّ الذي دبَّر تلك المكيدة.

ولو أننا فصلنا واقعة حب كلوديو وهيرو من صلب الرواية لما أبقينا منها إلا على مواقف أليمة، ومشاهد لا يستروح الخاطر إليها، ولكن الشاعر العبقري جاء بهذه العلاقة بين بنيديك وصاحبته لتكون تلطيفًا بديعًا، ومزاجًا سائغًا، وتوازنًا بهيجًا، مع العناصر الجديدة التي تتألف القصة منها، حتى لقد تشابها في الاعتداد بالذات، والحرص على الكرامة، والشخصيتين الأخريين وهما كلوديو وحبيبته، وإن كان اعتدادهما يبدو مشبعًا بمجانة بديعة وسخرية فكهة.

بياتريس:

إن أول ما يبدو هنا عند تحليل شخصية بياتريس هو تماثلها العجيب لشخصية «بنيديك»، فهي أبدًا مرحة، خفيفة الظل، راضية بالحياة، وكل منهما مستطرد في مجانة ممتعة على حساب الآخر، متقبل غمزاته، غير ضائق بها، معتز ببراعته في الرد عليها؛ فلم نرَ بنيديك مُتَبرِّمًا إلا بنكتة واحدة منها، وهي قولها عنه — كما أسلفنا — «مهذار الأمير». ولم نشهدها غضبى من نكاته، إلا من غمزته، حين قال إنها «محفوظات» استذكرتها من كتاب «مائة النادرة»، وهما على حد سواء في إظهار النفور من الزواج، وفي التغلب عليه حين سماع أقوال الآخرين عما يكابده صاحبه من آلام الحب وتباريحه.

وهي تحب ابنة عمها «هيرو» أصدق الحب، وتؤمن ببراءتها من التهمة التي رُميت بها، حين صدقها الآخرون حتى أبوها، وتحمل بنيديك على قتل كلوديو عقابًا له على ريبته بابنة عمها.

أما نفورها من الحياة الزوجية، كما نفر منها بنيديك، فلم يكن إلا تظاهرًا ومراءاة، وقد بدت لنا في لهفة خفيفة على القران حين ظفرت به ابنة عمها من قبلها، فقد مضت تزفر قائلة «ألا من زوج، ألا من زوج!»، وهي صيحة هيهات أن تنبعث من قلب للزواج كاره …

دون بدرو:

هو الأمير الذي يدين له «كلوديو» و«بنيديك» بالفضل في وثبتهما إلى الشهرة والمجد، فقد أراد أن يشبع ولوعه بالمرح واللهو فجمع من حوله صاحبيه هذين، ومضى يعنى بهما، ويطلب لهما الخير جاهدًا، حتى لقد تولى بنفسه مفاتحة «هيرو» في أمر الزواج بكلوديو حتى ظفر له بها، وهو الذي أصلح بين بنيديك وبياتريس بتلك الحيلة اللطيفة التي دبَّرها، ولكنه بجانب هذا العنصر الطيب الكريم فيه لا يزال يشارك صاحبه «كلوديو» في سرعة تقلُّبه، وتصديقه لما يقال له، واستسلامه لتضليل المضللين، وقد لقي جزاءه بذلك الاعتراف الصريح الذي أدلى به «بوراشيو» حين قبض الحراس عليه.

ليوناتو:

هو حاكم مسينا، المدينة التي وقعت فيها أحداث القصة، كما يقول المؤلف في بيان «أشخاص الرواية»، ولكن منصبه هذا، أو اشتراكه في الحياة العامة، لا أثر له فيها؛ لأن مواقفه خلال فصولها متصلة بحياته الخاصة، وكل خطره وشأنه أنه والد «هيرو» التي أحبها أشد الحب، حتى لقد رأيناه حين شهَّر بها كلوديو على الملأ، يفقد رباطة جأشه، ويؤثر الموت على الحياة واحتمال هذا العار الذي جلبته على بيته وعشيرته.

وقد رأيناه يشرح مدى حبه لها، ويكشف عن مبلغ اعتزازه إياها، ولئن عبنا عليه ضعف الإيمان ببراءتها، وسرعة تصديقه لما نُسج من الإفك حولها، فلا يزال له العذر، حين رأى ثلاثة شهود كبار يثق بهم يقرون أنها الأثيمة الجانية.

وليس من شك في أن الحفاوة التي لقي بها الأمير وصاحبه تدل على طيب فطرته وكرمه، وبحبوحة نفسه، حتى لا أثر فيها لكبر أو غطرسة أو ازدهاء، فقد راح في معاملته للشرطة والحراس يبدي جانب الرفق، ويصطبر للثرثرة، ويستأني لسماع كلام لا يفهم منه شيئًا، كما كان يتقبل نكات «بنيديك» بالروح ذاتها التي كان هذا يرسلها. وهو يلوح لنا في مختلف مشاهد القصة ومواقفها الرجل الهيِّن الذي رققت الرفاهية من خليقته، على النقيض من كلوديو الذي أفسدته صعدته إلى الشهرة والعبث البعيد.

ولم يتردد هذا الشيخ على ضعف بنيته في مجابهة الوشاة في حق ابنته وتحديهم ومغاضبتهم، وإذا لم يكن هذا التحدي قد ظهر في حرارة اللحظة بل بدا فيما بعد، عقب التروي والتفكير؛ فإن ذلك كله شاهد على شجاعته.

أنطونيو:

هو أخوه، وليس له دور كبير في القصة، فلا يبرز على أحسنه إلا في مطلع الفصل الخامس حين يتحدى الأمير وصاحبه؛ ويُظهِر على تقدمه في السن، شجاعة رائعة، وحماسة متقدة في الدفاع عن شرف ابنة أخيه.

دون جون:

هو شخصية الشرير في القصة، والمسئول عن كل المتاعب التي حلّت بربّ البيت وأهله؛ فحدة المزاج، والكآبة الملازمة، والغيرة الكظيمة، كلها بواعث قوية على ما نرى من نذالته وسوء مسلكه؛ فلا نجد في القصة شيئًا يبرئه من الإثم، أو يكفِّر عن سيئاته، ولعله الحقد الذي كان يأكل قلبه على كلوديو الذي كان يصفه بأنه «محدث النعمة»، وأنه ارتفع على أنقاضه، فلا عجب إذا رأيناه في وسط هذه الطبائع المرحة الفرحة بترفها ونعمائها مناقضًا لها على خط مستقيم، فلم يكن ليبتسم يومًا للحياة، ولا الحياة ابتسمت يومًا له، ولكنه لبث حامضًا، كئيبًا، ضجرًا، مُتبرِّمًا، يجمع من حوله أتباعًا على غراره، وخولًا من أشباهه؛ وهو أبدًا المُقِلُّ من الكلام، المتحفظ، المبدي ضجره وبرمه وبروده لكل إنسان، حتى ليقول عن نفسه إنه ليؤثر أن يكون مستهدفًا للسخرية والامتهان على أن يغتصب من أحد حبَّا، أو ينتزع من قلب ودًّا. وقد استمكن الحقد منه على كلوديو فلم يتردد في تدبير أية حيلة للإساءة إليه حتى لقد أجزل العطاء لمن ارتضى أن يتولى ذلك عنه، كأنما قد وُكِّل بأن يدمِّر سعادة الناس ويخلق لهم المتاعب، ويُرنِّق عيش أصحابه …

بوراشيو وكونراد:

هما تابعا «دون جون» اللذان أعاناه على تدبير المكيدة، أما الأول فهو الذي اقترحها عليه وتولى التنفيذ، واستغل الوصيفة مرجريت الساذجة في تضليل كلوديو، ولكنَّه حين أدرك أن فعلته قد انكشفت لم يتردد في الاعتراف، وترك في نفوسنا أثرًا حسنًا من ناحيته.

وليس لكونراد دور يُذكر في الرواية إلا مجرد الشريك السلبي لبوراشيو، والزميل الذي سمع نبأ المكيدة منه، حين كان الحراس يسترقون السمع عليهما.

مرجريت وأرسولا:

مرجريت صاحبة بوراشيو والمشتركة معه على جهل أو حسن نية، فقد حَمَلها على تمثيل دور «هيرو» أو الظهور ليلًا في الشرفة، لينخدع كلوديو، ويعتقد أن هيرو خائنة.

أما أرسولا فهي الوصيفة التي حذقت دورها في الحيلة التي دُبرت لبياتريس، حتى تقتنع بأن بنيديك يحبها، وهي الحيلة التي أراد بها الأمير دون بدرو أن تثني بياتريس عن غيها، ويعدل بنيديك عن مجونه، ليقرب بينهما، ويدفع بهما إلى مصارحة الآخر بحبه.

دوجبري وفارجس:

شريطان مضحكان يشيعان في أفق القصة مرحًا وبهجة، كلما خيف أن تدنو من الجِد، أو تفقد خفة الروح، وإليهما يرجع الفضل في كشف المكيدة التي دُبرت للقضاء على العذراء «هيرو» وانصراف كلوديو عن القران بها، شفاء لوجدة «دون جون» عليه، أن غلبه في الحظوة عند أخيه.

ولم يكن كشفهما للمكيدة عن ذكاء، فهما غبيان، وإن كان غباؤهما لطيفًا يستريح الخاطر إليه، وإنما وقعا على الحقيقة بمحض المصادفة، وهما يشرفان على العسس في الطريق العام الذي يقع فيه بيت ليوناتو الحاكم.

والواقع أن التحقيق الذي تولياه مع الرجلين اللذين قبضا عليهما — وهما بوراشيو وكونراد صنيعتا «الشرير» «دون جون» — لم يكشف شيئًا يعين على جلاء المكيدة، ولولا اعتراف بوراشيو لكلوديو الأمير في الفصل الخامس لما استطاع هذان الشرطيان إزاحة الستار وحدهما عن جلية الأمر وخافيته.

ولعل أبدع ناحية في هاتين الشخصيتين المضحكتين ولوعهما بإظهار الجد، وتحريف الكلام، والترائي بالعلم، وهما منه خلاء، فإن لأوَّلهما «دوجبري» طريقة ممتعة في التظاهر بالعلم، وهو الجاهل، وحسبان الخطأ هو الصحيح، والإلقاء بالحكمة السائرة، في عبارات من لغته البعيدة من كل معروف ومألوف.

الكاهن:

هو الأخ فرانسس — ولعلَّه من لقَّبه راهب من جماعة الإخوة — أو الفرير لأن كلمة Friar هي وكلمة «فرير» سواء، ولكنَّا آثرنا أن ندعوَه «الكاهن»؛ لأنه هو الذي جيء به ليعقد القران فجرت مأساة التشهير بالعروس وهي أمام الهيكل على عينيه.

ولهذا الكاهن دور كبير الشأن في القصة، فهو رجل أوتي علمًا بخوالج النفوس، ودراسة الشخصيات، فلم يلبث عقب الفضيحة التي حدثت في محضره وأدَّت إلى إغماء العروس، أن ذهب خاطره إلى أنها بريئة مما اتُّهمت به، فوضع خطة لتبديد الريبة، وكشف الحقيقة لعلها رادة كلوديو إلى حبه. وقد نجحت تلك الخطة من بوادرها، لولا موقف التوعد والتحدِّي الذي اتخذه ليوناتو وأخوه أنطونيو عند لقائهما كلوديو والأمير عقب الحادثة التي وقعت في الكنيسة، ولكن هذا الموقف لم يأتِ بالنتيجة التي كان الكاهن يرجوها، وهي شعور كلوديو بالندامة، بل تجاوز ذلك إلى أمر زاد في نجاح الخطة، وهو استجابته لما أريد منه بغير تردد أو اعتراض …

(٤) معالم بارزة في فصول القصة ومشاهدها

تنتظم روايات شكسبير مجموعتين؛ الأولى ظهرت كلها قبل عام ١٥٩٥ وهي «جهد حب ضائع»، و«مهزلة أغلاط»، و«حلم ليلة صيف»، و«سيدان من فيرونا»، و«روميو وچولييت»، و«ريتشارد الثاني والثالث»، و«هنرى السادس» في أجزائها الثلاثة؛ وتشمل الأخرى — وهي الفترة الثانية بعد ذلك التاريخ — «الملك جون»، و«تاجر البندقية»، و«ترويض الشريرة»، و«هنري الرابع» بجزأيها، و«زوجات وندسور المرحات»، و«هنري الخامس»، و«كما تشاءون»، و«الليلة الثانية عشرة»، وهذه القصة التي ننقلها إلى العربية وهي إحدى ثلاث مسرحيات كتبها المؤلف في أرغد أيامه، وأبهج أدوار حياته، وأملأ مراحلها فكاهةً ومرحًا، قبل أن ينتقل إلى النواحي الجادة من حياة الناس، ويرسم مآسيَ عيشهم، ويصور أفاعيل غرائزهم، بعد أن فرغ من رسم صنوف نزقهم، وألوان حماقتهم، وضروب لهوهم في الحياة. فقد وضع في هذا الدور مآسيه الخالدات، يوليوس قيصر، وهملت، وعطيل، والملك لير.

وقد امتازت المسرحيات الثلاث التي أسلفنا ذكرها بسمو الخيال، ولطف الخاطر، واكتمال الفن، وطرافة النكتة، وخفة الظل، وبُعد مطارح المجون.

وسيرى القارئ مبلغ ما ازدحمت به هذه القصة من لمع الفكاهة، وأبدع ألوان المجانة، على قلة عناصر الموضوع فيها وندرة الحوادث خلالها، حتى لتكاد تكون (حوارًا) جميلًا، ومساجلات فكهةً، وإن لم تخلُ جملة من مواقف رائعة، لعل أبدعها وأروعها المشهد الذي بدأ في الكنيسة، حين انبرى العروس يشهِّر على رؤوس الأشهاد بعروسه، ويرميها بالخيانة والعار، وما أعقب هذا التشهير من إغمائها أمام الهيكل، قبيل حفل الزفاف.

فقد يكون مشهد كهذا في رواية مرحة أكثر مما تحتمله الأعصاب، أو يتسق والموضوع الذي تدور القصة حوله، ولكن ما يخفف من أثرها أن النَّظَّارة الذين يشاهدونها، والقراء الذين يطالعونها، يعرفون أن التهمة التي رُميت العروس بها وليدة مكيدة مدبَّرة، ويعلمون أنها بريئة منها كل البراءة، وإنْ جَهَلَ الأمرَ أبطالُها الآخرون، ووقعت التهمة من نفوسهم أسوأ موقع. وفي ذلك يقول «شليجل»: «إن هذا المشهد هو قطعة رائعة بكل معاني الروعة، وإن تأثيرها المسرحي لا يكاد يدانيه شيء، وكان وقعها سيروح محزنًا فاجعًا، لولا حرص شكسبير على التخفيف من حدته، توطئةً لظهور حادث سعيد، والمضي بالقصة إلى نهاية موفقة …»

وناهيك بما في الحوار المستمر بين «بياتريس» و«بنيديك» والتراشق بالنكت المليحة من ثروة مجانة وارتفاع بالغ في آفاق السخرية واللعب بالألفاظ، والافتنان في مختلف ألوان البديع والبيان.

ولا نحسب ما حفلت به مسرحية «كما تشاءون» من حوار بين «أورلندو» و«روزالند» يضارع مثيله في هذه القصة أو يقع قريبًا منه، إلا أن التراشق بالنكات بين بياتريس وبنيديك هنا يبدو لاذعًا موجعًا مليئًا بسخرية، بينما يغلب على مثله في المسرحيات الأخرى طابع المجانة البحت والعبث الخفيف.

فقد صوَّر الشاعر بياتريس وبنيديك خلال قصتنا هذه في صور المتمردَيْن على الحب، المتأبِّيَيْن على فكرة الزواج، الساخرَيْن من الرجال والنساء بالسواء، ومضى يرسم لنا في حذق بالغ كيف دبر أصحابهما لهما مكيدة لطيفة لحمل كل منهما على الإيمان بأن الآخر يُكِنُّ الحب له ويخفى الميل إليه في أعماق صدره، وأغوار جوانحه.

وقد رأينا أصحابهما ينسبون لأنفسهم فضل هذا التحبيب بينهما إلى لطف وسيلتهم وبراعة مكيدتهم، ولكنَّ حرص كل منهما على هذا العبث اللاذع بالآخر كان في ذاته دليلًا على نمو الميل إليه، واستمكان الحب منه، وحين اعترفا به، لم يفارقا المجون لحظة، ولم ينصرفا من السخرية والتهكم، ولم يسكنا إلى الجد غير مرة، عندما وقفا وقفة الدفاع عن البريئة المتهمة.

وليس من شك في أن شكسبير لم يخطئ المرمى، لأن المولعين بالنكتة ينتهون في أغلب الأحيان عند نقطة لا يرتضون اجتيازها، ما لم يشاءوا أن يؤخذوا مأخذ المهاذير المغفلين.

وسيرى القارئ كيف مضى شكسبير في تصوير بياتريس يحدثنا عن مدى اجتماع قُوَى العقل والحيوية وتفاعلهما في مثل تفاعل النار والماء، على حين جعل بنيديك الذي يكره النساء ويجاهر ببغضهن، يتحول ببراعة ظاهرة إلى فكرة الزواج، على أثر سماعه بنبأ حب بياتريس له.

وجاءت شخصية «هيرو» العروس التي اتُهمت ظلمًا متقنة التصوير، متناقضةً أبدع التناقض وشخصية الماجنة اللاذعة بياتريس، وبدت علاقة الفتاتين طبيعية تملك الإعجاب، فقد صوّر المؤلف «هيرو» قليلة الكلام عن نفسها، مستعينة عنه ببلاغتها في ذاتها، وجعل الأخرى تسمو عليها بروحها الجياشة وعقلها الجبار، وإن كانت «هيرو» إلى جانب جمالها ورقتها، قد أوتيت بوصفها بطلة القصة جمالًا روحيًّا منقطع النظير.

وسيتبين القارئ أيضًا أن الشاعر جعل، كلما مالت به القصة إلى ناحية الجد المفرط، يعود فيخفف من حدتها بمشاهد فكهة، ومحاورات طلية، وبخاصة المشهد الذي يتجلى فيه الشرطي المتعالم وأصحابه الذين استعان شكسبير بهم، إلى جانب عنصر الفكاهة في أشخاصهم وتصرفاتهم، على كشف المكيدة التي دبرها الحقود «دون جون» وخادمه «بوراشيو» بأسلوب مفعم مجانة وطريقة لطيفة المدخل على النفوس.
  • (١)
    أشخاص القصة:
    • دون بدرو: أمير أراجون.
    • دون جون: أخ له غير شرعي.
    • كلوديو: فتى نابه من نبلاء فرنسا.
    • بنيديك: فتى نابه من نبلاء بادوا.
    • ليوناتو: حاكم مسينا.
    • أنطونيو: أخوه.
    • بالتازار: أحد موالي دون بدرو.
    • كونراد، بوراشيو: من أتباع دون جون.
    • فرانسس: الراهب.
    • دوجبري: شرطي.
    • فارجس: زميل له.
    • خادم كنيسة.
    • غلام.
    • هيرو: ابنة ليوناتو.
    • بياتريس: ابنة أخيه.
    • مرجريت، أرسولا: وصيفتان لهيرو.
    • رسل وحراس وأتباع.
  • (٢)
    وقائع القصة: في مسينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤