الفصل الرابع عشر

المساومة

فتحول عن الغرفة وتبعه رجاله وفنحاس بين أيديهم وهو يقول: «إذا شاء مولاي أريته أصنافًا أُخَر من الجواري البيض، والسمر، والحمر، والسود، ولكنه رأى أحسن ما عندي.» قال ذلك ترغيبًا له فيما وقع عليه اختياره، وسار بين أيديهم حتى أدخلهم غرفة الاستقبال فجلسوا، فأمر فنحاس بمائدة الشراب، فاعتذر الفضل لأنه لا يرى في الوقت متسعًا لذلك، والتفت إلى فنحاس وقال: «بكم تبيع هؤلاء الجواري الثلاث؟»

فوقف فنحاس وقفة الاحترام وقال: «وهل على ولي العهد شرط أو مساومة؟ إن الجواري جواريه ونحن جميعًا عبيده، سواء دفع مالًا أو لم يدفع.»

فلم يجهل الفضل احتيال فنحاس في ذلك فقال: «نحن جميعًا صنيعة ولي العهد، ولكن البيع والشراء حق واجب.»

قال: «لا بأس من البيع، ولكنني أستحيي أن أحدد ثمنًا؛ فافرضْ ما تراه.»

قال الفضل: «ذلك إليك؛ فاطلب ما تريده.»

قال: «ولكن مثلك يعرف قيمة الأشياء، ومولانا ولي العهد كريم إذا أعجبه أمر فلا يبالي بثمنه، ونحن نقبل منه أن يدفع كما يدفع مولانا أمير المؤمنين.»

قال ذلك وابتسم كأنه يُظهر المزاح أو يخلط بين الجد والهزل، فقال الفضل: «وكم يدفع أمير المؤمنين؟»

قال: «ألم يدفع ثمن الجارية ١٠٠٠٠٠ دينار،١ وهل تلك الجارية أحسن من قرنفلة أو سوسنة؟» وضحك.

فعل ذلك في أول حكمه، ولمَّا أمر وزيره يحيى بن خالد أن يدفع هذا المال اعتذر عن دفعه، فغضب أمير المؤمنين، فأراد يحيى أن يُبيِّن ما يحتمله بيت المال في هذا السبيل، فجعل المال دراهم فبلغت ١٥٠٠٠٠٠ درهم، فعرضها في الرواق الذي يمر به الخليفة حينما يريد الوضوء، فلما رأى ذلك المال استكثره وعلم أنه إسراف.»

فقال فنحاس: «فإذا لم يشأ مولانا ولي العهد أن يدفع كما دفع أبوه، فليدفع كما دفع وزير أبيه.»

فعلم الفضل أنه يشير إلى جعفر البرمكي عدوه، فتذكر ما بينهما من المنافسة، ولكنه تجاهل، ولم يبدُ في وجهه تأثُّر وقال: «ما الذي دفعه؟»

قال: «ألم يدفع ثمن الجارية ٤٠٠٠٠ دينار؟٢ وهل يليق بولي العهد أن يدفع أقل من ذلك؟ وعلى كل حال إني مرسل الجواري إلى قصر ولي العهد والذي يدفعه مقبول.»

فاستاء الفضل من هذه المساومة، وشقَّ عليه أن يجعل الأمين أقل سخاءً من عدوه، والناس يومئذ يكتسبون الأحزاب السياسية بالسخاء. وكان فنحاس يعلم تلك المنافسة؛ إذ كان مطَّلعًا على أسرار الجميع، ولم يقل ما قاله إلا وهو يعلم أن الفضل لا يراجعه حفظًا لكرامة مولاه الأمين؛ لعلمه أنه يرى من حسن السياسة أن يحفظ منزلته بين رجال دولته حتى لا يجدوا عليه ما يصغِّره في أعينهم، وخاصة في تلك الحال، فنجح فنحاس في خطته؛ لأن الفضل أراد أن يُظهر فضْل الأمين فقال: «لو كان جواريك هؤلاء من طبقة الجارية التي ابتاعها الوزير لحقَّ لك هذا الطلب، ومع ذلك فإنني سأجعل ثمن الجواري الثلاث معًا ١٠٠٠٠٠ دينار.»

فقال فنحاس وهو يظهر الزهد في الكسب: «كل ما يدفعه مولانا كرم منه؛ فإننا وما نملك من بعض صنائعه.»

ولم يجهل الفضل تملُّق ذلك اليهودي، ولكنه جاراه وقال: «بارك الله فيك. أرسل الجواري إلى قصر مولانا مع من تثق به لتسلُّم المال.»

قال: «سأرسلهن حالًا. وليس المال مما يستعجل فيه.» فلما قال ذلك تحفَّز الفضل للوقوف، فسبقه رفاقه إلى النهوض، وأسرع أحدهم إلى الخدم في فناء الدار، فأشار إليهم أن يسرعوا في إعداد الركائب، واشتغل الفضل في إجابة فنحاس على عبارات المجاملة والإطراء، وهو في أثناء ذلك يتلثم بطرف عمامته إخفاء لما جاء من أجله.

١  الطبري ١٣٣٢، الجزء الثالث.
٢  ابن خلكان، الجزء الأول، ١٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤