الفصل الخامس عشر

القبض على أبي العتاهية

ولم يكد الفضل يفرغ من ذلك ويخرج إلى باب المنزل حتى سمع جلبة، ثم رأى جماعة من الرجال يتشاجرون وعليهم أردية تغطي أثوابهم كأنهم متنكرون، ولكنه عرف من قلانسهم الطويلة المدعمة بالعيدان من داخلها أنهم من جند الدولة — وأول من ألبس الجند هذا الزي أبو جعفر المنصور١ — ولكن الفضل استغرب تنكُّرهم بالأردية فوق أثوابهم، على أنه ما لبث أن سمع صوتًا ينادي: «إني من رجال الفضل بن الربيع. اتركوني وشأني.»

فلما سمع الفضل اسمه تقدم، فوسَّع له أصحاب القلانس، وكانوا متكأكئين على رجل يوثقونه وهو يحاول التخلص من بين أيديهم، وحالما وقع بصره عليه عرف أنه أبو العتاهية، فاستغرب وقوعه في تلك الورطة، ونظر يمينًا وشمالًا فرأى في أحد جوانب الزقاق امرأة ملثمة تشير إليهم أن يوثقوا الرجل، ولمَّا رأته بالغتْ في التنكر والتستُّر، والرجال يوثقون أبا العتاهية بالوثاق وهو يهددهم بأنه من رجال الفضل، وهم يقولون: «ما لنا وللفضل؟! فما عليك إلا أن تجيب الخليفة.» ووقعت عين الفضل على عين أبي العتاهية، فرآه يشير إليه ويستنجد به، وفي استنجاده معنًى توقع منه خيرًا.

فصاح الفضل بهم: «اتركوا الرجل. مَن الذي أمركم بالقبض عليه؟»

فأجابوه وهم مشتغلون بشد الوثاق: «هذا أمر أمير المؤمنين» ولم يلتفتوا إليه.

فقال لهم: «ومَن يُنبئنا بأن أمير المؤمنين يطلبه، وما شأنكم في ذلك؟»

فتقدَّم أحدهم إليه — وهو عريفهم — ونظر إلى الفضل، فتوسم من زيِّه أنه من كبار أهل بغداد، ولكنه أنكر تلثُّمه وقال: «إننا من جند أمير المؤمنين، وقد أمرنا بالقبض على هذا الرجل.»

قال: «لا أراكم من الجند، وليس عليكم شارة الدولة.»

فابتسم الرجل مظهرًا الاستخفاف بذلك الإنكار، وخلع الرداء عنه وأدار ظهره ليُقرئه ما هو مطرز بين كتفيه، فقرأ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثم أشار العريف إلى خصره، فرأى سيفه معلقًا بمنطقته.

فضحك الفضل وقال: «هذه ثياب قديمة من أيام المنصور؛ لأنه هو الذي أمر رجاله بكتابة هذه العبارة٢ على أثوابهم، وبتعليق السيوف بمناطقهم، فلا يبعد أنكم ابتعتُمْ هذه الأثواب من بعض الوارثين لتنتحلوا الجندية، وإلا فأين اسم أمير المؤمنين الرشيد؟»

فمد الرجل ذراعه فقرأ الفضل على أعلى الكتف اسم الرشيد مطرزًا بالقصب: «هارون بن المهدي أمير المؤمنين.» ثم تحول العريف عن الفضل وهو يهز رأسه، وتوجه نحو رجاله وهم لا يزالون يوثقون أبا العتاهية، وأخذ يستحثهم على الإسراع في شد الوثاق. وكان رجال الفضل واقفين ينتظرون أمره لإنقاذ أبي العتاهية، ولم يريدوا الإقدام على ذلك إلا بإشارة؛ خشية أن يكون قاصدًا التنكُّر لغرض في نفسه.

أما هو فلما رأى استخفاف العريف به ناداه بصوت هادئ يمازجه التهديد قائلًا: «ولكنه يقول لكم إنه من رجال الفضل بن الربيع.»

قال: «ومَن يُنبئنا بصدق قوله؟ وهبْ أنه صادق؛ فنحن مكلَّفون بالقبض عليه.» قال ذلك وهو لا يلتفت وراءه، فصاح به الفضل: «أنا أقول لك أيضًا إنه من رجال الفضل؛ فاتركوه.»

فلما سمعه يُخاطبه بهذه اللهجة، تحوَّل نحوه وتفرَّس في وجهه من وراء اللثام، ثم التفت نحو المرأة التي كانت واقفة هناك، فرآها تنسلُّ من بين الجماهير، فعلم أنها تسعى إلى الفرار، واستدلَّ من ذلك على أن الرجل الذي يخاطبه ممن يخشى بأسهم، على أنه لم يكترث لقوله وعاد إلى رجاله وصاح فيهم: «أوثقوه حالًا.»

وكان فنحاس في أول الأمر واقفًا بجانب الفضل، فساءه ما وقع في منزله من القبض على أبي العتاهية ولم يفهم السبب، وحدثته نفسه أن يتقدم لإنقاذه وهو قادر على ذلك لكثرة من في داره من الرجال، ثم تذكَّر وعده بتخصيص نسبة له من ثمن الجواري، فتوسم بالقبض عليه بابًا للتخلص مما وعده به. هذا إلى أن حيَّان ما لبث أن جاءه وأسرَّ إليه ما كان في الأمس، وما أوصته به الجارية من الاحتفاظ به ريثما تأتي، وأن سيدتها من أهل أمير المؤمنين، فاطمأن فنحاس، وصمَّم على السكوت، ودخل إلى داره يتشاغل بما لا طائل تحته.

أما الفضل فلما سمع تهديد العريف، تقدم خطوتين بقدم ثابتة وهو يقول للرجل: «لا، لا ينبغي أن توثقوه حتى نعرفَ ما هو ذنبه، وإلا فأنتم تتحملون تبعة هذا العمل عند أمير المؤمنين.»

فالتفت العريف نحو الفضل وهو يقول: «ومَن أنت حتى تهددني بأمير المؤمنين؟ امضِ لشأنك.»

فلما سمع رجال الفضل ما في تلك العبارة من الاستخفاف كادوا يهمُّون بالرجل أو يصرِّحون له بالحقيقة، ولكنهم تركوا ذلك للفضل ولبثوا ينتظرون أمره. أما هو، فظل رابط الجأش، وما زاد على أنه أشار إلى رجاله أن يخلصوا أبا العتاهية فهجموا — وكانوا أشداء وأكثرهم من القواد — فعَلتِ الضوضاء وهمَّ الجند بتجريد السيوف، فصاح الفضل فيهم: «لا حاجة بكم إلى السيوف. اتركوا الرجل، فإذا سُئلتم عنه فقولوا: إن الفضل بن الربيع أخذه منكم، فإذا كان أمير المؤمنين أو سواه في حاجة إليه؛ فيطلبه مني.»

فلما سمعوا ذلك التصريح بغتوا وتوقفوا عن الحركة، وجاء العريف إلى الفضل، وقال له بغير لهجة الاستخفاف: «إن الرجل طلبه أمير المؤمنين. فكيف نتركه بعد أن قبضنا عليه؟ وماذا نجيب إذا سُئلنا عنه؟»

قال: «قل لطالبه إنه عندي. قل إنه عند الفضل بن الربيع، أو عند ولي العهد، كما تشاءون.» قال ذلك وهو يهم بإزاحة اللثام.

فلم يبق عند العريف شك أنه بين يدي الفضل، ولكنه نظر إلى مَن كانوا حوله من الرجال، فسمع أحدهم يقول له همسًا: «إنك تخاطب وزيرًا كبيرًا. هذا هو الفضل بعينه.»

فتقدم العريف نحوه وهو يتأدَّب في مشيته وقال: «لماذا لم يقل مولانا ذلك في بادئ الأمر؛ فنحن صادعون بأمره.» ثم أشار إلى رجاله فحلُّوا وثاق أبي العتاهية وتحولوا، فاتجه أبو العتاهية نحو رجال الفضل وقد وقعت عمامته عن رأسه، وانتفش شعره، فظهر قُبح منظره، وجاءوا به إلى الفضل فخر على قدميه وحاول تقبيل طرف ثوبه، فأنهضه الفضل وهو يقول له: «ما الذي أوقعك في هذا المأزق وأنت الشاعر الزاهد؟» وضحك وهو يحسب أن سبب القبض عليه مما يخالف أسباب الزهد.

فقال: «إن السبب يا مولاي سأقصه عليك وهو يهمك.»

فأشار إليه أن يسير معهم، وأمر رجاله بالركوب بعد أن قدموا له فرسه، فركب وركبوا في أثره قاصدين قصر الأمين.

١  العقد الفريد، الجزء الأول.
٢  الأغاني، الجزء التاسع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤