الفصل السادس والعشرون

المغنيات وأبو نواس

ثم دخل عدد من الغلمان يحملون آنية الشراب، وهم في ثياب مصبوغة بألوان قوس قزح، على أحدهم ثوب أحمر، وعلى الآخر ثوب أصفر، والآخر أخضر، وعلى الآخر أحمر وأصفر معًا، أو من عدة ألوان مما يبهر النظر، وكلهم في عنفوان الصبا وغاية الجمال، مع صفاء البشرة، وأكثرهم لا يعرفون اللغة العربية، وإذا تكلموها ظهر للسامع أنها ليست لغتهم؛ لأن بعضهم من الصقالبة، والبعض الآخر من الكرج أو الترك أو الروم، ومعظمهم حديثو الإقامة في بغداد، وأكثرهم خصيان. وقد تفنن قيِّم الغلمان في تزيينهم، كما تفننت قيِّمة الجواري في تزيين الوصيفات اللواتي ذكرناهن؛ فكان على بعضهن قباء كُتب على عاتقه الأيمن هذا البيت:

بدر على غصن نضير
شرق الترائب بالعبير

وعلى عاتقه الأيسر:

خُطَّت صحيفة خَدِّه
من صفحة القمر المنير

ووقف بعض الغلمان بأباريق الشراب، الإبريق في يد أحدهم والكأس بيده الأخرى، والكئوس من البلور؛ بعضها أحمر اللون أو أزرق أو أخضر، وبعضها من الذهب الخالص، وعليه نقوش كتابية أكثرها أشعار في مدح الخمر ووصفها؛ من أمثلتها:

اشرب على منظر أنيق
وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقًا
واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لام في التصابي
إليك خلِّ عن الطريق

وجلس الأمين وصاحباه في انتظار المغنيات، فإذا هم يسمعون ضرب العود على نغمٍ مطرب وصوت رخيم، ثم ظهرت مغنية صفراء ليست من الجمال في شيء؛ لأنهم لم يكونوا يعلِّمون الجواري البيض الغناء بعدُ، ومشت وهي تضرب ضربًا مسكرًا وتغني بصوت رخيم، حتى أقبلت وفي أثرها أربع جوارٍ يحملن العيدان يرقصن على توقيعها. فما سمع الأمين الغناء حتى صاح: «إلَّى بصاحب الشراب.» فجاء رجل هو رئيس السقاة فأخذ يدير أمر الساقين، وأرسل بعض الغلمان إلى الأمين بقدح دفعه إليه فشربه، وأمر للفضل وجعفر فسقاهما، فتناولا القدحين ولم يشربا، وإنما تظاهرا بالشرب مسايرة للأمين. أما الجواري فجلسن على مقعد من الوسائد معدٍّ لهن في أحد جوانب المصطبة، وبعد أن دارت الكئوس وطرب الأمين قال: «أين الحسن بن هانئ؟ أين أبو نواس؟»

فقال رئيس الخصيان: «إنه في دار الضيافة يا مولاي.»

فقال: «إليَّ به الآن.»

فذهب لاستدعائه فأرجعه الأمين قائلًا: «احذر أن يدخل عليَّ بغير ثياب المنادمة.»

فأشار مطيعًا بانحناء الرأس وخرج، وما لبث أن عاد وهو يقول: «إن أبا نواس بالباب.»

فقال وقد أخذته هزة الطرب: «يدخل.»

فدخل أبو نواس، وكان جميل الصورة. وبالرغم من أنه جاوز الأربعين من عمره، فقد كان الجمال لا يزال ظاهرًا في محياه، وغلبت عليه ملامح الأهوازيين؛ لأن أمه منهم، وأرخى لحيته. وكانت خفيفة وقد وخَطها الشيب قليلًا، وكان أزرق العينين تتجلى فيهما الدعابة والذكاء معًا. وعلى رأسه بدل القلنسوة أو العمامة قبعة (طاقية) حمراء اللون، وقد تزمل بثوب من ثياب المنادمة شديد الصفرة يتضوَّع الزعفران منه. فلما أقبل صاح الأمين به: «أهلًا بشاعرنا. إن هذا المجلس لا يحلو بلا شاعر، والشعراء زينة مجالس الغناء.»

فانحنى أبو نواس ووقف، فأشار إليه أن يجلس بجانب الجواري المغنيات، وأشار إلى أحد الغلمان فقدم له وسادة جلس عليها. فتذكر الفضل أبا العتاهية، وأنَّ هذا وقته — وكان قد أسرَّ إليه أمرًا حينما فارقه وخشي أن يكون قد نسيه — فأخذ يفكر فيه وهو يتشاغل بما يراه ويسمعه من أسباب اللهو، ويُظهر التهيب في مجلس ولي العهد وفي نفسه أمور دفعه إليها جاره جعفر بن الهادي. واغتنم جعفر فرصة انشغال الأمين بسماع الغناء وسأل الفضل عن الجواري اللواتي ابتاعهن ومتى يصلن، فأجابه بضم أنامله جميعًا — وهي شارة الانتظار — كأنه يقول: «إنهن يصلن قريبًا.» ثم التفت إلى أبي نواس وقال له: «ألا تلقي من أقوالك شيئًا يُغَنينَه فيطرب ولي العهد؟»

فلما سمع الأمين قوله قال وقد لعبت الخمر برأسه: «لا، لا يقول شيئًا قبل أن يشرب رطلًا.» وأشار إلى الساقي فملأ رطلًا ودفعه إلى أبي نواس فتناوله وشربه دفعة واحدة، وردَّه إلى الساقي وأشار برأسه أن: «هات أيضًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤