الفصل الرابع والأربعون

مجلس المنادمة

فسرَّ السامعون بتلك الأوامر لما سيُشنِّف آذانهم من معجزات الطرب. وكان في قصر الرشيد ثلاثمائة قينة، فيهن العوَّادة والجنكية والمزهرية والطنبورية وغيرها١ من المتقنات للضرب على آلات الطرب، وإن تفاوتن في المنزلة لديه بتفاوت الجمال ودقة الصنعة، غير ألفي جارية لا يُحسنَّ الغناء؛ وهن السراري. فأسرع الغلمان لتدبير ذلك. وكان المنوط بالسراري والقيان مسرور الخادم، وهو غائب، فناب عنه قيِّم الجواري. ثم جاء صاحب الشراب بمائدة الشراب وما تحتاج إليه من الأباريق والأقداح من البلور والذهب والفضة، وعليها النقوش على نحو ما وصفناه في مصطبة الأمين. وأما الأشربة التي تعاطوها في ذلك المجلس فأنواع: الأنبذة المصنوعة من عصير العنب ومنقوع التمر أو التفاح أو المشمش، أو غيرها من الفاكهة اللذيذة، وأشربة من محلول العسل أو الدبس أو غيرهما. فلما انتظمت القيان للغناء دار الساقي بأباريق الشراب على الرشيد، فشرب قليلًا وهو محجوب عن القيان بستارة، وعن الشعراء بستارة أخرى، ومع القيان برصوما وأبو زكار. وكان كلما غنَّت إحداهن صوتًا عرفها وطرب لها وناداها باسمها، ثم صاح بالحاجب فأتى، فقال له: «قل للحسن بن هانئ أن ينشد ما عنده.»

فبلغه أمر الرشيد فقال أبياتًا كان قد هيَّأها فأنشدها إنشادًا على عادة الشعراء في مجالس الخلفاء، فطرب الرشيد وصاح: «وأنت يا ابن أبي حفصة؟»

فقال: «لبيك يا أمير المؤمنين.» وأخذ يُنشد قصيدة نظمها في مدح الرشيد ضمَّنها التعريض بالعلويين، ذكَّرته بما كاد ينساه من هواجسه فصاح فيه: «دع عنك هذا الآن. قل لأبي العتاهية هل هو باقٍ على الزهد في الشعر؟»

فأجاب أبو العتاهية: «إن ما نسمعه يا أمير المؤمنين من أسباب الطرب يرمي الزهد بالمنجنيق.»

فاستلطف الرشيد تعبيره وضحك وهو يقول: «هذا هو الشعر بعينه؛ فقل بيتًا أو بيتين.»

قال: «سمعًا وطاعة، وسأتلو ما يحضرني بعد قليل؛ لأني تركت النظم من زمن طويل.»

وبينما هم في ذلك إذ دخل مسرور، فلما رآه صاح فيه: «ويلك! أين إبراهيم؟»

قال: «هو بالباب يا مولاي. لقد أتيتُ به من أقاصي الأرض.»

قال: «أدخله إليَّ ليكون قريبًا من هؤلاء القيان يعلمهن أو يساعدهن.»

فدخل إبراهيم وسلَّم فأمر له الرشيد بالجلوس وقال له: «نظننا قد أزعجناك لدعوتنا إياك على غير انتظار، ولكننا آثرنا لذتنا على راحتك؛ فاعذرنا.»

فخجل إبراهيم لهذه المجاملة وقال: «نحن عبيد أمير المؤمنين، وإذا دعانا إلى خدمته فقد شرفنا ورفع منزلتنا.»

فقطع الرشيد كلامه وقال: «اسمع الغناء الجديد.» والتفت إلى صاحبة ستارة القيان وقال: «إن إبراهيم؛ أستاذ المغنين، يحب سماع ذلك الغناء الجديد.»

فصاحت الجارية: «غنِّي يا قرنفلة.»

فلما سمع الموصلي اسمها ابتسم وقال: «قرنفلة هنا. إن هذه المغنية نادرة في رخامة الصوت وإتقان الصنعة، وطالما كنت أتمنى دخولها في جملة قيان القصر، وهي من جملة الجواري البيض اللواتي تعلمن الغناء على يديَّ، ومن أكثرهن براعة وإتقانًا.»

قال الرشيد: «إن ولدنا محمدًا أهداها إلينا في هذا اليوم، ولم أر وجهها بعدُ.»

قال: «ووجهها جميل يا مولاي!»

فصاح حسين الخليع من وراء الستار: «نحمد الله لأن أستاذها علَّمها الغناء فقط ولم يعلمها الجمال.»

فضحك الرشيد وأمر الساقي فصبَّ له قدحًا، ولإبراهيم قدحًا، وقال: «إن حسينًا خفيف الروح. اشرب هذا القدح يا إبراهيم.»

فصاح حسين الخليع من الداخل: «جزى الله أمير المؤمنين خيرًا؛ لأنه أنصف بيني وبين مغنِّيه، فأعطاني خفة الروح وأعطاه القدح؛ كأن خفاف الروح لا يشربون لئلا يزدادوا خفة فيطيروا.»

فضحك الرشيد وقال لإبراهيم بصوت منخفض: «قبَّحه الله. رمى حجرًا فأصاب اثنين؛ فقد جعلني من الثقلاء وهو لا يدري.»

فسمع الخليع قوله فاستدرك خطأه وقال: «أستميح عذر أمير المؤمنين؛ فإن منْعَ الشراب عني قد أسكرني فخلطت ورميت القول جزافًا، ولكن صاحب الحاجة يعرف حاجته؛ ولذلك فلا أظن كلامي قد تجاوز إبراهيم خطوة واحدة.»

فضحك إبراهيم وقال: «كن مطمئنًا يا حسين؛ فإني قد حبسته عندي، فاكفف عني.»

١  إعلام الناس، ١١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤