الفصل التاسع والأربعون

الخروج للصيد

عندما رجع الرشيد بعد وداع جعفر، دخل غرفة النوم وهو يفكر فيما مرَّ به ذلك اليوم من الغرائب، فتذكر مجيء إسماعيل في الصباح وما كان من ردِّه، ولم يقضِ له حاجة رعاية لحق جعفر وزيره، وما عرفه بعد ذلك من استبداد هذا الوزير في الأمور، وإطلاقه سراح ذلك العلوي، حتى قام في نفسه أن يقتله، ورأى أنه أساء معاملة إسماعيل وهو يثق بنصائحه وحسن قصده، فأحس بحاجته إلى مجالسته ليُطلعه على ما فعله جعفر، ويبوح له بما نواه من الفتك به؛ لأنه كان شديد الثقة بإخلاصه، ولم يكن يثق بأحد من أهله، أو رجال دولته مثل ثقته به. وقد يتطرق بهما الحديث إلى الاعتذار له عن ردِّه خائبًا. وشعر الرشيد بضيق صدره، فلم يرَ خيرًا من خروجه للصيد يفرج به كربه، فلما أصبح دعا «مسرورًا» خادمه وأمره أن يوصي أصحاب الصيد بالتأهُّب للخروج إلى أرض دجيل — قرب بغداد — إلى أن قال: «وهل تعلم مقرَّ إسماعيل بن يحيى؟»

فقال مسرور: «نعم يا مولاي.»

قال الرشيد: «اذهب إليه وادعه، ولكن لا تزعجه بفظاظتك.»

فقال مسرور: «وإذا سألني عما يريد أمير المؤمنين منه؟»

قال الرشيد: «قل له إني عازم على الصيد، وأحب أن يكون معي.»

فأشار مطيعًا، وخرج إلى الفهادين والبيازرة والحجالين، وأصحاب الصقور والكلاب، وسائر خدم الصيد والقنص. فأمرهم بالخروج إلى أرض دجيل. وكانت لهم عادات وطرق في خروجهم إلى ذلك المكان يعرفونها، ولا يحتاجون فيها إلى ترتيب أو تدريب، وكانوا يتصيدون في أرض «دجيل»؛ وهي بقعة من الأرض، مساحتها عدة فراسخ في مثلها، وقد أحاطوا إحدى جهاتها بسور على هيئة نصف دائرة مبني بالأعمدة المنصوبة. وقد شدَّ بعضها إلى بعض بالأمراس أو الأسلاك على شكل سور منيع، وكانت عادتهم في الصيد أن يُطاردوا الحيوانات التي يريدون صيدها نحو ذلك السور من مقرِّه، فيضربون حولها حلقة من الجهة المفتوحة، ويطاردونها بخيولهم وفهودهم وكلابهم، وهي تفرُّ أمامهم بين الأعشاب والأدغال، فلا يزالون يضيقون عليها حتى يدخلوها وراء ذلك السور، ولا يكون لها مجال للفرار؛ فإذا انحصرت في ذلك الموضع، أقبل الخليفة ومن معه من الخاصة وتأنقوا في القتل، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي.١

وكان من عادة الرشيد إذا خرج للصيد أن يتجوَّل جانبًا من النهار على الجواد في أرباض بغداد، وما يحدق بها من المغارس والضياع، حتى يعلم أن الحيوانات قد حصرت وآنَ أوان صيدها، فيأتي ويباشر قنص بعضها بنفسه، أو يتفرج على البُزاة والصقور والفهود. كيف يستخدمها أصحابها في الصيد مما يطول شرحه. أما في ذلك اليوم، فقد جعل الخروج إلى الصيد حيلةً لأجل مخاطبة إسماعيل، كما قدمنا.

أما إسماعيل، فلما جاءه أمر الرشيد بالحضور إليه ليرافقه في الصيد لبس الثياب الخاصة بذلك، وركب إلى قصر الخلد، وكان الرشيد في انتظاره بموكب الصيد، وهو يختلف عن سواه من مواكب الخلافة. وما أقبل إسماعيل على القصر حتى رأى أصحاب الصيد خارجين بصقورهم وبُزاتهم وفهودهم، وقد ارتدوا الملابس الخفيفة، وفي جملتهم أصحاب اللبابيد. وعادت الضوضاء وتزاحم الناس؛ هذا يلاعب صقره ويحرِّضه على طائر مارٍّ فوق رأسه، فإذا تحفَّز الصقر أمسكه، وذاك يقود فهده بسلسلة من الحديد، وآخَر يستحثُّ كلبه على طلب فريسة يوهمه أنها وراء شجرة هناك، والكلب لا يكترث؛ لأنه لم يشم رائحة الفريسة، وعلا ما يترتب على ذلك من الضوضاء واختلاط الأصوات بين صهيل ونباح وهرير وصرصرة وقعقعة وصلصلة وطقطقة وهدير، فتجاوزهم إسماعيل حتى دخل الباب الثاني من أبواب القصر، فلقيه مسرور وقال له: «لا يترجَّل مولاي؛ لأن أمير المؤمنين خارج بموكبه وقد أمرني بذلك.»

فوقف حتى رأى الرشيد قادمًا على جواده بثيابه الخفيفة والفرسان حوله في موكب الصيد، فلم يتمالك عند ذلك عن الترجل، فابتدره الرشيد قائلًا: «اركبْ يا عماه، واجعل فرسك في محاذاة فرسي.»

فركب وأراد أن يسير متأخرًا عنه تأدبًا، على جاري العادة في مصاحبة الخلفاء، فطلب منه أن يحاذيه، وقال له: «ليس إسماعيل ممن يطالب بمثل هذه التقاليد، وما دعوتك لمرافقتي إلا للاستئناس بك.»

١  الفخري، ٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤