الفصل الثاني والستون

الوداع

أما جعفر فقد كان في غفلة عن كل ذلك وهو يتهيأ للرحيل في الغد، وقد صمم على السفر عاجلًا بعد ما جرى من الحديث بينه وبين إسماعيل؛ مما زاد من مخاوفه. ولم يكن له بد من وداع الخليفة قبل خروجه إلى خراسان على جاري العادة في خروج العمال إلى أعمالهم. وكان قد أعدَّ كل شيء ولم يبق غير الركوب والخروج، فلما عزم على وداع الرشيد نادى خادمه حمدان فجاء، فقال له: «إنك تعلم أننا مسافرون اليوم.»

فقال حمدان: «نعم يا مولاي. فهل أذهب إلى مولاتي العباسة فآتي بها إلى هنا، أو نوافيك إلى النهروان؟»

فاستحسن جعفر سرعة خاطره وتيقظه في خدمته، فابتسم وقال: «بل أرى أن توافياني إلى النهروان، وليس هناك ما يدعو إلى العجلة في الذهاب إليها. والأفضل أن تؤجل ذلك إلى حين عودتي من وداع الخليفة.»

فقال حمدان: «أمرك يا سيدي.»

فلما كان الضحى خرج جعفر في موكبه الحافل، وحوله الفرسان والركابية حتى أقبل على قصر الخلد، فوسعوا له، فدخل الأبواب بالأبهة والعظمة على جاري العادة وهو يقول في نفسه: «هذه آخر مرة أدخل فيها هذه الأبواب للقاء رجل أُداجيه ويُداجيني، فمتى صرتُ إلى عملي في خراسان كنتُ بين أهلي وأعواني، ولا نظننا نلتقي بعد الآن إلا إذا جاءني لحرب.» وما لبث أن وصل إلى دار الخاصة فترجَّل.

وكان الرشيد قد جلس للناس فدخلوا على اختلاف مناصبهم وانصرفوا، حتى دخل جعفر وسلَّم، فرد عليه الرشيد التحية بأحسن منها، ورحَّب به، وضحك في وجهه، وأجلسه في مرتبته — وكانت أقرب المراتب إليه — وأخذ يحدِّثه ويلاطفه ساعةً وهو يظهر البشاشة والاستئناس. وأتوه وهو هناك بكُتب وردت من النواحي فقرأها على الرشيد وأمضاها، ثم نظر إليه وهو يُظهر الامتنان من احتفائه به وقال: «لقد غمرني أمير المؤمنين بنعمه، وأعلى مقامي حتى أسند إليَّ أعظم عمل من أعمال دولته، فوجب عليَّ شكره.»

فضحك الرشيد ومازحه وقال: «إنك أخي، ولو قسمت هذه المملكة بيني وبينك لأنصفتك.»

فتظاهر جعفر بالخجل من هذا الإطراء، وتأدَّب وتلملم في مقعده وقال: «إني من موالي أمير المؤمنين، وكل ما يأتيني منه إنعامٌ وتفضل على مولاه.» ثم قال: «وإن أقصاني أمير المؤمنين عن مجلسه، فإني عبده أبذل دمي في طاعته.»

فقال الرشيد: «بورك فيك. ولا شك أني سأشعر بافتقاري إلى رأيك بعد أن توليت أمور الدولة وتركتني لا أهتم بشيء من أمر نفسي.»

فلما سمع جعفر قوله تذكر أنها نفس العبارة التي قالها لإسماعيل حينما باحثه أمس فوخزه ضميره، وخشي أن يكون كلامه قد بلَغ الرشيد، ولكنه استبعد أن ينقله إسماعيل، ولم يدُر في خلده أن ذلك الغلام كتب به إليه، مع علمه أنهم يتجسسون كلُّ واحدٍ على صاحبه، على أنه لم يُعمل فكرته في ذلك؛ لاعتقاده بقرب النجاة من هذه المخاوف بالخروج إلى خراسان، فأظهر شكرًا لإطراء الرشيد وقال: «مهما بذل العبد في خدمة مولاه فلا منَّة له ولا فضل.»

ومكث جعفر ينتظر أمر الرشيد بانصرافه إلى خراسان؛ لأن التأدب يقضي أن يبدأ الخليفة بذلك، فلما لم يسمع منه شيئًا في هذا الشأن قال: «هل يأذن لي أمير المؤمنين بالانصراف؟» ولم يذكر خراسان؛ فقد تُحمل عبارته على أنه يطلب الانصراف إلى منزله.

فقال الرشيد: «هل تهيَّأت للسفر إلى عملك؟»

قال جعفر: «نعم يا سيدي.»

فقال الرشيد: «وهل تنوي الذهاب في هذا اليوم؟»

قال جعفر: «إذا أمر أمير المؤمنين.»

وكان الرشيد يريد تأخيره بحيلة ريثما يدرك غرضه، فمتى أراد الفتك به كان قريبًا منه؛ لأنه ظل حتى تلك الساعة مترددًا في ذلك الأمر لما يعلمه من أحزاب البرامكة، حتى بني هاشم أنفسهم كان أكثرهم يحبونهم، فعلم أن الفتك بجعفر يقتضي الاحتياط وإعمال الفكرة، فهو ليس كالفتك بالعباسة، فرأى أن يحتال في تأخير سفره، فقال له: «وهل استطلعت ارتفاع نجمك في هذا النهار؟»

قال جعفر: «كلا يا مولاي.» وكانوا شديدي التمسك بالطوالع يعتقدون بالسعد والنحس في النجوم باختلاف الساعات، وكانت منازل الكبراء لا تخلو من أَسْطُرُلاب لإخراج الطالع عند اللزوم، وكان عند الرشيد أَسْطُرُلاب متقن الصنعة ورثه عند جدِّه أبي جعفر المنصور؛ لأنه كان شديد العناية بالتنجيم والمنجمين. وكان الأسطرلاب موضوعًا على رفٍّ من الأبنوس المرصع بالعاج بجانب سرير الرشيد ليستخدمه عند الحاجة، وكان له إلمام بهذه الصناعة، وجعفر أعلم منه، فبادر الرشيد حينئذ إلى الإسطرلاب وأمر الحاجب أن يأتيه ببعض المنجمين، فما لبث أن جاء بأحدهم؛ لأنهم من جملة أرباب الفنون المقيمين في قصر الخلد على عادة الخلفاء في ذلك العصر.

فلما دخل المنجم قال له الرشيد: «كم مضى من النهار؟»

فقال المنجم: «ثلاث ساعات ونصف ساعة.»

قال الرشيد: «خذ الارتفاع.»

فأخذه المنجم وأخبر الرشيد، فجعل الرشيد يحسب له ذلك بنفسه، ونظر إلى نجمه ثم التفت إلى جعفر وقال: «يا أخي، هذه ساعة نحس لا أرى إلا أنه يحدث فيها حدث؛ فالأوفق أن تؤجل سفرك إلى الغد، وهو يوم الجمعة، فتصلي وترحل في سعودك، وتبيت في النهروان، وتبكِّر يوم السبت وتستقبل الطريق في النهار؛ فإنه أصلح من اليوم.»

فشق هذا التأجيل على جعفر، وأخذ الطالع وحسبه لنفسه. وربما رأى غير ما قاله الرشيد، لكنه ليس من آداب مجالسة الخلفاء أن يراجعوهم أو يُخطِّئوهم. ولعل الرشيد أدرك ذلك، فلم يقبل حساب المنجم، فحسب الطالع بنفسه.

فقال جعفر: «صدقت يا أمير المؤمنين؛ إن هذه الساعة ساعة نحس، وما رأيت نجمًا أشد احتراقًا ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم، ورأي أمير المؤمنين صواب.»

ولبث جعفر ينتظر أمر الانصراف على عادة الخلفاء، فتزحزح الرشيد، فقام جعفر وخرج يلتمس قصره، والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه في داخل القصر، وعلى قارعة الطريق، وفي كل مكان، والكل غافلون عن حقيقة حاله وما يحدق بحياته من الخطر. وأكثر ما يشاهده الناس من مظاهر السعادة في أهل الدولة أو أرباب الثروة يقدرونه فوق قدره؛ لأنهم غافلون عما يشوبه من المتاعب والأخطار.

خرج جعفر من قصر الخلد وهو لا يصدق أنه سيستقلَّ بعمله في خراسان، ويعيش آمنًا بين أهله وأعوانه، ومعه زوجته العباسة وابناهما، وينجو من دسائس أهل البلاط وما يهدده من خطر على حياته.

فلما وصل جعفر إلى قصره بالشماسية بعث إلى حمدان، فلما أتى أخبره بتأجيل السفر إلى الغد، وأوصاه أن يهتم بأمر العباسة، فيبقى في الشماسية بعد سفره حتى يخيم الظلام، ثم يمضي إلى قصرها ومعه الركائب يحملها ومَن شاءت نقله معها إلى النهروان، أو يسير بهما إلى ما وراء ذلك لتكون في مأمن. وهو يعلم أنها تحب أن تصطحب عتبة وأرجوان، ولكن حمدان لا يحتاج في مثل هذا إلى توصية لذكائه وإخلاصه. ثم خلع جعفر ثيابه وجلس للراحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤