الفصل التاسع

الهاجس

فأشار بيده على رأسه إشارة الطاعة وخرج، وظلت العباسة وعتبة في انتظاره، ثم أظهرت عتبة أنها تحتاج إلى شيء من حيان، فخرجت للقياه وهو عائد فدعتْه إلى خَلْوةٍ، فخاطبته وفي يدها منديل فيه نقود وضَعَتْه في كفِّه وهي تقول: «أمرتني مولاتي أن أشكرك على الخصوص لعنايتك بنا، وهذا المنديل هو لك هدية منها.» ثم مدت يدها وأخرجت صرة أخرى دفعتها إليه وقالت: «وهذه للمعلم فنحاس.»

فأثنى حيان عليها جهد طاقته، فقطعت كلامه قائلة: «هل أبو العتاهية هنا منذ زمن طويل؟»

فقال: «بل جاءنا الليلة.»

قالت: «اصدقني.»

قال: «صدقتك؛ فإنه جاء لمقابلة المعلم فنحاس في هذه الليلة، وكان المعلم فنحاس قد ذهب إلى فراشه، فدعوته للمبيت عندنا فبات.» قال ذلك بغير حذر ولا تردد فتحققتْ أنه يقول الصدق.

فقالت: «أطلبُ إليك خدمة لا تكلِّفك تعبًا، فهل تقضيها لي؟»

قال: «على الرأس والعين.»

قالت: «أريد أن تستبقي هذا الشاعر عندكم، ولا تدعه يخرج قبل أن أعود في صباح الغد.»

فاستغرب طلبها وقال: «أخشى أن يُطلقه مولاي ولا يطيعني في بقائه.»

قالت: «قل لمولاك إن أمير المؤمنين يريد استبقاءه لأمر يهمه.»

فلما سمع ذكر أمير المؤمنين خفق قلبه؛ لأنه لم يكن يعلم من أمر العباسة سوى أنها امرأة من سراري بغداد استأجرت تلك الغرفة في تلك الليلة لأمر خاص فقال: «سأقول ذلك لمولاي.»

قالت: «احذر أن تستخف بقولي.»

قال: «سمعًا وطاعة.»

فقالت: «فأعدد لنا البغال ريثما نرجع.» وأسرعت إلى سيدتها فرأتها في انتظارها وقد استبطأتها، فسألتها عن سبب غيابها، فقالت: إنها ذهبت تطلب إلى حيان إعداد البغال، فصدقتها ثم خرجتا حتى ركبتا ومضتا.

أما حيان فأخذ يفكر فيما سمعه من تحريض عتبة على الاحتفاظ بأبي العتاهية، فلم يفهم لذلك سببًا معقولًا، وقد خوَّفه ذكْرها أمير المؤمنين، ولكنه عزم على إبلاغ سيده ما سمعه منها في الصباح ليلقى تبعة ذلك عن عاتقه. وكان قد مضى معظم الليل فمضى إلى فراشه.

أما أبو العتاهية فإنه فرَّ من وجه عتبة على تلك الصورة وقد ذُعِر وكاد الدم يجمد في عروقه من البغتة، لكنه ظن أنها لم تعرفه، فوصل إلى فراشه وركبتاه تصطكان، فاستلقى بعد أن أغلق الباب، ولبث صامتًا يتوقع أن يسمع صوتًا، أو يشعر بخفق نعال أو حركة تدله على ما كان من تأثير تلك المقابلة، فمضت برهة وهو يحبس أنفاسه؛ مبالغة في الإصغاء، ويصيخ بسمعه وقد تكاثف الظلام، وشبح عتبة نُصب عينيه. وأخذ يفكِّر فيما عسى أن تكون العاقبة، على أنه تخوف وغلب عليه الحذر. وكانت الحجرة التي بات فيها تُشرف على الزقاق المؤدي إلى باب تلك الدار من نافذة كانت مقفلة، فما لبث أن سمع قرقعة اللُّجُم وجلبة السُّيَّاس، فنهض وتطلَّع من شق في النافذة، فرأى رياشًا وبرَّة قد ركبا ومعهما الغلامان، فتربص ليرى ما يكون من أمر العباسة وجاريتها، فسمع حركة السُّيَّاس في إعداد الركائب ورآهما قد خرجتا على بغلين، وفي ركاب العباسة سائس يده على كفل البغلة، وقد التفَّتْ بعباءة وغطَّت رأسها بما يشبه العمامة إخفاءً لحقيقة حالها، فتحقق من ذهابهما، فاطمأن خاطره وعاد إلى فراشه، وأخذ يفكر فيما جاء من أجله إلى فنحاس، فعزم على أن يبكِّر في الصباح إلى غرفته ويفاتحه في هذا الشأن، ثم ينصرف إلى بيت الأمين أو إلى الفضل بن الربيع ويجيء مع من ينتدبانه لاختيار الجواري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤