عبقرية الجمال١

وصف فتاة

تنظر إلى النساء الجميلات في بعض أوقاتهن فيُخيل إليك أنهن قد نسين ما فيهن من جمال، وأنهن قد خرجن من حلته عرضًا، كما يخرج الملك من طيلسانه ساعة يتبسط فيها بين خاصته وندمانه، أو كما يتنحى صاحب المنصب عن تكاليف منصبه في خلوة من خلواته ليكون رجلًا من سواد الناس، أما هذه الفتاة التي رأيتها فلا تنسى جمالها ولا طاقة لها بأن تنساه، ولا يسعك أن تتخيلها ناسية له أو عارية منه؛ لأن الجمال فيها والجميلة شيء واحد، وحري بها أن لا تنسى جمالها وأن لا تُرى بعيدة عنه؛ إذ كان كل من يراه لا ينساه ولا يسهل عليه بعده، وقد ينسى كل شيء غيره ليذكره.

لها طلعة سماوية المعاني، يدلك كل موقع نظرة من ملامحها على معنى لا يشاركه فيه غيره، وليست كهذه الطلعات المشاعة التي تخفي من ملامحها ما تخفي فلا تنقص من دلالتها شيئًا، وقد تزداد على الإخفاء جمالًا، لها طلعة كاملة تزيدها ملامحها حسنًا وتزيد هي حسن ملامحها، وكأنما تعلم ذلك من نفسها فهي تأمرك أن «تؤمن» بجمالها إيمان العجائز، ولا تقبل منك أن تتقراه وتبحث أسراره وتتأمل مغازيه بينك وبين نفسها! وأحسبها لو لم تر جمال محياها قط في مرآة، لما كانت لها وقفة غير وقفتها هذه، ولا مشية غير مشيتها، ولا مخيلة غير هذه المخيلة التي أراها، ذلك لأنها لا تملك مع جمالها إرادة ولا هوى، فهو الذي يبدو في العيون كما يشاء، ولا شأن لها هي به، ولا سلطان لها عليه، وكذلك تكون عبقرية الجمال، وكذلك بلاغته التي ترتجلها الطبيعة بلا كلفة ولا ابتذال.

وفي النساء جميلات يتهن في جمالهن، كما يتيه في ثياب العارية مستعيرها، فهن لا يوارين عن نظر العارف البصير أن هذا الجمال خلعة عليهن يلبسنها ولا حق لهن فيها، أما هذه الفتاة فلها عزة صاحب الملك في ملكه بين تراث أسلافه وأسلاب يمينه؛ عزة مفاضة على من يلبسها لا تشوبها كلفة، ولا تحيط بها غرابة، ولا يمليها اختيار، وإذا رأيت ملامح الحسان التي كأنما تقول لك: «ما بالك لا تنظر إليَّ، ألست جميلة؟» أو تقول: «انظر إليَّ، انظر؛ فإنني جميلة» فهذه الملامح الواثقة المطمئنة لا يكرثها رأيك، ولا يعنيها نظرك، ولكنها تقول لك وكأنما هي مغضبة: «إنني جميلة على رغم أنفك!» ولا تقول لك ذلك حتى تطل عليك من كبريائها غرارةً طاهرة تمسح غضاضة النفس فلا تأبى أن تجيبها باسمًا: «نعم، أنت جميلة على رغم أنفي!»

وهكذا يكون الإيمان بعبقرية الجمال؛ فهو إيمان على البديهة، لا على الروية والاستدلال.

•••

وجمال المرأة حلة من نسج الطبيعة، ولكنه بعد حلة كسائر الحلل يلبسها أهلها كما يلبسها غير أهلها، فكم من مليحة تحس وأنت تنظر إليها أنك في حل من محو ملاحتها، وأنك إن نزعتها لم تكد تنزع عنها شيئًا من لحمها ودمها! فهي طلاء أو هي برقع أو هي تزويق، ولا يمنعك إلا الحياء أن تصيح بها: «اذهبي فغيري هذه الملابس التي عليك»، أما إذا اتسق الجسم، واعتدل هندامه، ونضجت حلاوته، واستوت أجزاؤه، وانسكب عليها رواؤه، فأي اختيار يبقى للجمال؟ إنه لا مفر له من النزول هناك، إنه من نسج الجسم، وله نصيب في كل موضع منه؛ وليس هو بالخلعة التي تستره ويجاد بها عليه، إنه حلة لا تنفصل عن لابسها؛ لأنها لونه الذي تنضح به طبيعته ونوره الذي تشعه حياته، كاحمرار الوردة، واخضرار الشجرة، ونضرة الفاكهة، ووهج الجمرة المتقدة لا افتراق بينها؛ ولا عذر لمن يجن بغير هذا الجمال.

وكل وجه يتجلى فيه هذا الجمال إنما هو كلمة كبرياء تنطق بها الطبيعة فلا ننفسها عليها، ولا عجب، أو ننفس على الشمس نورها وعلى الزهرة شذاها! فهاتي أيتها الطبيعة الصناع كلماتك وأكثري منها وكرريها ورتليها، إنه لا نهاية لأساليبك الخلابة التي تكررين بها معنى كلمة الكبرياء التي تنطقين بها في وجوه الحسان، وإنا لتصادفنا الطلعة البرزة الفاتنة، فتبهتنا وتملك حواسنا، وتملأ من نفوسنا فجاءة كل فراغ فيها للشوق على الجمال، فنحار كيف اجتمعت هذه الشمائل، ونعجب لمن يقول لنا: إن في العالم غير هذه الصورة شيئًا من الصور يدعى جميلًا، ونحسب أن «المتحف» الذي نحمله في غدواتنا وروحاتنا بين قلوبنا ورءوسنا لا يتسع فيه بعد اليوم محل لغيرها، ثم لا نلبث أن ندير أبصارنا حتى تلقانا ثانيةً وثالثةً ورابعةً، بل ألوف بعد ألوف تروعنا كلهن هذه الروعة، وتذهلنا كلهن هذا الذهول.

وهذا كله من كلمات الطبيعة الخالدة، فيا لها من عجوز ثرثارة!

١  نشرت بالعدد الأول من مجلة المشكاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤