الخيال في رسالة الغفران١

هب أننا عمدنا إلى كتاب من الكتب الجغرافية فغيرنا عناوينه وأسماءه، وجعلنا في موضع كل علم من أعلامه اسمًا من أسماء الأساطير والخرافات، وزعمنا أن هذه الحقائق التي اشتمل عليها الكتاب وصف لعالم من عوالم الجن، أو كوكب من كواكب السماء، أيجوز لنا بعد هذا التبديل أن نعد هذا الكتاب بدعة من بدع القرائح وعملًا من أعمال الخيال؟

وهب أننا تناولنا تاريخ الدولة الرومانية، أو أية دولة من الدول البائدة، فرويناه على المستقبل بدلًا من روايته على الماضي، وأجريناه مجرى التنبوء عما سيكون بدلًا من إجراءه مجرى التاريخ لما قد كان، ونقلنا وقائعه من معاهدها التي حدثت فيها إلى واد من أودية السحر أو فج من فجاج الآخرة، فهل يصبح هذا التاريخ إذن قصيدة من قصائد الملاحم المأثورة أو طرفة من طرف الفنون؟

وعلى هذا النحو يمكننا أن نسأل عن حقيقة رسالة الغفران: هل هي قصة تاريخية أو بدعة فنية؟ وهل العمل الأكبر فيها للخيال أو للدرس والاطلاع؟ وهل كان المعري فيها شاعرًا مبتكرًا أو كان قاصًّا أديبًا وحافظًا يسرد ما قد سمع ويروي عمن سبق؟ والصواب في أمر هذه الرسالة أنها كتاب أدب وتاريخ وثمرة من ثمار الدرس والاطلاع، ليست بالبدعة الفنية، ولا بالتخيل المبتكر، وقد سلك المعري فيها مسلك التلطف في القصص، فهو يورد طائفة من أخبار الشعراء والأدباء ونتفًا من أشعارهم وملحهم، ويضيف إليها حوارًا كان يقع مثله بين النحاة والرواة ممن تقدمه، فيعزوه هو إلى الشعراء أنفسهم، ويجعل أولئك الشعراء مرجعه الذي يفصل له فيما كان من الخلاف على لحن عباراتهم وضبط ألفاظهم ونوادر تراجمهم، فينحلهم آراءه في ذلك الخلاف، ويلقنهم حكمه فيما يحسبه هو صوابًا أو خطأً من أقاويل النقاد وأسانيد الرواة، فهو كان في تلك الرسالة إما مؤديًا لأخبار من سبق ناقلًا لأحاديثهم، أو معلقًا برأيه على تلك الأخبار المؤداة والأحاديث المنقولة، وليس في كل هذا عمل كبير للتخيل والاختراع.

ولم ننس أن المعري نقل كل ما تقدم إلى جنة الخلد، وأنه وصف لنا الجنة وطيباتها، وما أعدَّه الله لأهلها من عيش رخيم ونعيم مقيم وشهوات مطاعة ودعوات مجابة، وذكر لنا كيف ينظر المتقون إلى الطير السابح، فيسقط بين أيديهم مشويًّا مطهيًّا، وكيف يتشوقون إلى الثمر اليانع، فينتفض أمامهم خلقًا سويًّا، فأسهب في هذه الصفات ما أسهب وأجاد فيها ما أجاد، ولكن أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفًا موصوفًا؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودًا للناس مألوفًا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ينتظرونه ويؤمنون به ويصدقون أنهم ملاقوه في ساعة من ساعات الرضوان، كما يصدقون أنهم داخلو بغداد أو مصر إذا شخصوا إليهما، فرسالة الغفران في هذا الباب أقرب إلى الكتب الجغرافية وأوصاف الرحلات المشاهدة منها إلى أفانين الشعر ومخترعات الخيال، وأشبه بالتواريخ المدونة منها بالنبوءات المؤملة والغرائب المستطرفة.

•••

ولم يكن الخيال من ملكات المعري التي اشتهر بها، ولم يكن هو نفسه يحب أن يوصف بالقدرة عليه، بل لعله كان يكره أن يُنسب إلى أهله، ويراه منافيًا للصدق مخالفًا للأمانة في القول، ويحسب المحاسن المتخيلة من باطل الزخرف ولغو الكلام، وكأنه كان يريد أن يبرأ من الخيال حين قال في فاتحة لزومياته «كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة ونزهتها عن الكذب والميط.» وكأنه كان يشير إلى هذا المعنى حين ختم تلك المقدمة بقوله: «إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب واستعين على نظامه بالشبهات، فأما الكائن عظة للسامع، وإيقاظًا للمتوسن، وأمرًا بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب، وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام؛ لأنه يتوخى الصادقة ويطلب من الكلام البرة.

ويُروى عن الأصمعي كلام معناه «أن الشعر باب من أبواب الباطل فإذا أُريد به غير وجهه ضعف.» وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب، وهو من القبائح، وزينوا ما نظموه بالغزل، وصفة النساء، ونعوت الخيل والإبل، وأوصاف الخمر، وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب، واحتلبوا أخلاف الفكر وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يعانون من حث الركائب وقطع المفاوز ومراس الشقاء.»

فالمعري كان ينكر أن يصف شيئًا لا حقيقة له من الحس، ويأبى على الشعراء أن يتقولوا بما لا يعانون، ويتوصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وتزيينه بالغزل والحماسة، ويعتذر من ضعف نظام اللزوميات باجتنابه غواية الزور فيها والتزامه الصدق والبر؛ أي: إنه كان يحتجز مخيلته، ويتهم وسواس قريحته، ويحب أن يخرج صدقه للناس عاريًا من كل زخرف وطلاوة، فكانت ملكة الخيال فيه على قصورها وضعفها مكبوحة لا تنطلق إلى مداها، وكان هو إلى التمحيص والتعمق أميل منه إلى التحليق والتجميل، ولسنا نعني أن نقول: إن الشاعر يدان باعترافه، ويؤخذ بحكمه على ملكاته، فإن هذا يلزمنا أن نصدق كل مغرور في دعواه، وأن نخلط بين حقيقة المرء، وبين ما يراه المرء لنفسه من الحقيقة المحببة إليه، وليس هذا من الصواب، ولا من الإنصاف في شيء، ولكننا أردنا أن نبين ضعف سلطان الخيال على ملكات المعري، وغلبة النزعة الفلسفة فيه على السليقة الفنية؛ وأن نستدل من رأيه في الأخيلة الشعرية على قلة تمكنها من طبعه وسهولة انصرافه عن فتنتها وإفلاته من أوهاقها، وما عهدنا أن يسهل الإفلات منها على ذي قريحة مطبوعة على التخيل.

ومن القصد في الحكم أن نقول هنا: إن رسالة الغفران لم تخل من آثار الخيال، ولم تعطل كل العطل من حلية الشاعرية، وهذا من البديهيات، وإلا فكيف كان يتأتى أن تخلو من خيال وأن تعطل من شاعرية؟ وكيف كان يتهيأ للمعري أن يتوخى الصدق الحسي في الرسالة، وأن يفصل بين الخيال والحقيقة في رواية هذه الغيبيات، ولو تنبه لذلك جهده وحاوله بكل ما أوتي من قدرة؟ فأقل ما في الأمر أنه رجل كفيف نشأ على أن يستعين بالتصور الوهمي على إدراك الصور المرئية، فلا بد له من قدر من التخيل تكسبه إياه المعالجة إن لم يكن قد طُبع عليه طبعًا، وأنه مارس الشعر والتوصيف، ولن تخلو الممارسة من فائدتها في تنمية الملكات وإذكاء الخواطر، وأنه يتحدث بأمور يختلف تصورها باختلاف متصوريها؛ لأنها من الغيبيات التي لم تسمعها أذن ولم يلم بها نظر، فسبيله — سواء أراده أم لم يرده — أن يمزج بالوصف شيئًا من هواجس نفسه ويغشيه بمسحة من صبغة فكره؛ فيكون له فيه فضل فوق فضل النقل والرواية.

وهذا ما صنعه المعري في هذه الرسالة، فهي رحلة قديمة كما قلنا، ولكنه أعادها علينا، كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها، كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة، فقد أعارها هواه وأشربها روحه، فهشت لها جوانحه، وتمنى فأعانه التمني على التخيل، ولا عجب أن يشغل المعري قلبه بمتع الجنات، أو يتشاغل بها بعد إذ حرمته الدنيا متعها، وحرَّم هو على نفسه ما بقي منها، فإن اللحم والدم لا ينسيان حظهما من الحياة نسية واحدة! ولا بد من يقظة للنفس في بعض أوقاتها التي تخلو بها إلى شياطينها وتنفرد بغرائزها ونزعاتها، وما حرم المعري طيبات هذه الدنيا إلا لقلة مؤاتاتها، وأنفته من أن يتبذل في طلبها، ويخل بوقاره واحتشامه في الأخذ بأسبابها والتصدي لشئونها، على أنه كم من لحظة قال فيها لنفسه:

أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة
فتحمل شيئًا من همومي وأحزاني!

أو قال في إخلاص وأسف:

تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
مقل من الأهلين يسر وأسرة
كفى حزنًا ما بين مشت وإقلال!

قبل أن يفيء إلى حلمه فيقول:

وهيهات لو حلت لما كنت شاربًا
مخففة في الحلم كفة ميزاني

أو يقول:

لو كانت الخمر حلًّا ما سمحت بها
لنفسي الدهر لا سرًّا ولا علنا

فأما والخمر التي يشتهيها في رسالة الغفران خمر الجنان التي أعدها الله للصالحين من عباده، فلا حرج عليه أن يصف مجالسها، ويتحدث بمنادماتها ولا هو واجد — إن تمناها — من يلومه على هذا التمني أو يلجئه إلى مثل ذلك الاستدراك السريع!

•••

إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شيق ونسق طريف في النقد والرواية، وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعري إليها — اللهم إلا إذا استثنينا محاورات لوسيان في الأولمب والهاوية — وفذلكة جامعة لاشتات من نكات النحو واللغة، ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران، أما أن ينظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء، أو القصص التي يخترعونها اختراعًا، أو ينظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور وإلباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقًّا، وليس في قولنا هذا غبن للمعري، أو بخس لرسالة الغفران، كلا ولا هو مما يُغضب المعري أن يقال هذا القول في رسالته.

١  البلاغ في ٢٣ أكتوبر سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤