ملكة السخر عند المعري١

مِمَّ يَسْخَرُ الإنسان؟ إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوى الناس فيبتسم، وينظر إلى لجاجهم في الطمع وإعناتهم أنفسهم في غير طائل فيبتسم؛ وهذا هو العبث وذاك هو الغرور.

فالعبث والغرور بابان من أبواب السخر، بل هما جماع أبوابه كافةًّ، وكل ما أضحك من أعمال الناس، فإنما هو لون من ألوان الغرور، أو ضرب من ضروب العبث، وكثيرًا ما يلتقيان، فإن الغرور هو تجاوز الإنسان قدره والعبث هو السعي في غير جدوى، ولا يكون هذا في أكثر الأحيان إلا عن اغترار من المرء بنفسه وتعد منه لطوره.

والناس يعلمون ذلك بالبداهة، فهم يعلمون أن الغرور والعبث مادة الضحك وجرثومته التي يتفرع منها كل مضحك من الأعمال والأقوال، ويجربون ذلك كل يوم في مداعباتهم لصغارهم وامتحانهم لقوة أطفالهم، يقبض الرجل كفه لابنه الصغير على غير شيء، فيأخذه بأن يفتحها ويعده بكل ما يجده فيها إذا هو قوي على فتحها، فيجاهد الطفل في ذلك ما يجاهد؛ يقوم ويقعد، ويشتد ويحتد، ويلتوي ويعتدل، ويرفع أصبعًا بعد أصبع فإذا الذي رفعه قد عاد فأطبق مرة أخرى، ويعييه الجهد فيركن إلى الملق والخديعة، وهو في كل هذا يحسب نفسه قادرًا على أن يغلب أباه عنوةً وقسرًا، أو يغلبه خديعةً ومكرًا؛ وهذا هو الغرور.

ثم تلين له تلك القبضة فيفتحها، فإذا هي خاوية، وإذا بذلك العناء الذي أجهده وبهره قد ذهب سدى؛ وهذا هو العبث، ومن هذا وذاك تضحكنا الطفولة وتعجبنا غرارتها وكبرياؤها ونتخذها تسلية ولهوًا، ولكن هل يضحكنا من الكبار شيء غير هذا؟ وهل مهازل الحياة ومساخر التمثيل إلا صورة مكبرة من هذه اللعبة الصبيانية، وسذاجة مركبة من هذه السذاجة البسيطة؟

•••

وإذا كان هذا معدن السخر وأصل الدعابة، فما أجدر رجلًا كصاحب رسالة الغفران أن يكون ساخرًا؟ بل ما أجدره أن لا يكون له عمل في الحياة غير السخر؟ إنه رجل استخف بالحياة جمعاء، وهانت عليه الدنيا بما وسعت، فما من دعوى من دعاوي الناس تتنزه عن الغرور في اعتقاده، وما من غاية من غايات الناس لا تنتهي في تقديره إلى عبث فارغ وخديعة ظاهرة، كلهم مغرور وكلهم عابث وكلهم متعلق من الأقدار بمثل تلك القبضة التي يعييه أن يفض أصبعًا منها، حتى إذا فضها أو خطر في وهمه أنه فضها لم يجد ثم شيئًا، أو وجدها ملأى بما يشبه الفراغ سخية بما ليس يختلف عن الحرمان، وكلهم محتقب عدة لا تنجح، ومتقلد سلاحًا لا يصيب:

ورب كمي يحمل السيف صارمًا
إلى الحرب والأقدار تلهو وتسخر

لا بل هبه وصل إلى الحرب بسيفه الصارم، وقاتل وظفر وسلم فماذا عساه يغنم؟ ألعله الثناء على الأفواه؟ أو لعله عرش مملكة؟ إن كان ذاك وقلَّ أن يكون، فلعمر أبي العلاء ما قصارى الثناء والسمعة:

وما يبالي الميت في لحده
بذمه شيع أو حمده؟

وما العروش والدول، وما الملوك والأقيال؟ فلكم غبر على هذه الأرض من جيل، وكم زال فيها من مجد أثيل وملك عريض طويل:

وكم نزل القيل عن منبر
فعاد إلى عنصر في الثرى
وأخرج من ملكه عاريًا
وخلف مملكة بالعرا

ماذا مضى من قبلنا؟ ماذا يأتي بعدنا؟ ما نحن؟ ماذا يبلغ من عقبى سعينا وغاية تدبيرنا، وأي شيء يختلف على توالي الأعصر من سنة الدهر وأطوار الحوادث، التي لا بداية لها ولا نهاية؟

نزول كما زال آباؤنا
ويبقى الزمان على ما ترى
نهار يضيء وليل يجيء
ونجم يغور ونجم يرى

وهذه الأنجم الغائرة الطالعة ما شأنها في ذلك الفضاء، وما نهاية دورانها، وماذا يلحق بها في أجواز سمائها؟ أتسري أم تقف؟ أتخبو أم تظل هكذا مضطرمة على المدى؟ أيعفيها ذلك الناعب القابع في كسر داره من قضائها الحتم؟ أيشفع لها عنده سناؤها ووضاءتها ونظامها وأبدية آفاقها في شيء مما سبق به حكم الفناء؟ لا عفو ولا شفاعة، إنها لفانية وإن أجلها لمنظور، وإنه ليشرف على ساحة الأكوان؛ فإذا هي أشلاء وأنقاض مطمورة بأنقاض، أشلاء كواكب لا أشلاء جسوم، وأنقاض عوالم لا أنقاض أطلال ورسوم، وقد يشك ولكن شك من يهز كتفيه كأن الأمر لا يعنيه، ولا يبالي على أي وجه يصير، فهل تطفأ الشمس أو لا تطفأ؟ يجوز، نعم:

يجوز أن تطفأ الشمس التي وقدت
من قبل عاد وأذكى نارها الملك
فإن خبت في طوال الدهر جمرتها
فلا محالة من أن ينقض الفلك

وقد يجزم ويبرم، فإذا هو جزم لا فكاك منه، وإبرام تحس فيه صرامة القضاء:

زحل أشرف الكواكب دارًا
من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثَان الد
هر مطفٍ وإن علت في اتِّقاد
والثريا رهينة فافتراق الشـ
ـمل حتى تعد في الأفراد

فدنيا كهذه الدنيا التي يلحظها المعري أي شيء فيها يستحق العناء، وأي عناء فيها يجل عن السخر؟ أي خطر لمهمة من المهام بين مصارع أكوان ومشاهد آباد وأزمان؟ أليس من ينشد ملكًا أو ثراءً في هذه المدرجة العاثرة كذلك الهالك الذي يفتقد حليته أو ساعته في السفينة الهاوية إلى قاع اليم؟ كلاهما مضحك! بل ما من شيء إلا وهو مضحك في هذا الكون العامر بالخراب الثابت على التداعي والزوال! وهل نسينا أن القبر يضحك من تزاحم الأضداد؟ فهكذا تتشابه الأمور فإذا الهزل كالجد، وإذا الحلم كالعيان:

وشبيه صوت النعيِّ إذا قيـ
ـس بصوت البشير في كل واد

لا بل هو كل شيء ككل شيء، هو العلم كالجهل، والحق كالباطل، والهدى كالضلال:

وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقًّا فالنجاسة كالطهر

فعلام إذن يرعج الإنسان نفسه، وبأي شيء يحفل، وما اجتهاده في التدبير والتقدير وتغيير ما كان بما سيكون؟ ألا إننا لنسعد ونشقى عبثًا، ونسعى ونسكن عبثًا، ونرجو ونقنط عبثًا، ونبكي ونضحك عبثًا، ومن وراء ذلك كله هاتف يهتف بنا في غير رفق ولا رحمة:

تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدِّرون فتضحك الأقدار

نعم تضحك الأقدار وحق لها أن تضحك، ولئن ضحكت الأقدار لقد سمعنا من خلل ضحكاتها العالية رواعد قهقهتها التي تغمر الأرض والسماء جميعًا، تهاتف ذلك الشيخ الساخر المتنكب عن طريق الدنيا العابرة في زاوية من زوايا المعرة.

•••

ففي المعري ملكة السخر التي في الأقدار، وهو يضحك حين تضحك، ويسخر مما تسخر هي منه؛ لأنه ينظر بعينها، ويقرأ خطوطها الغامضة في كتابه، ويطل معها على ساحة واحدة.

فالسخر هو ملكة المعري حقًّا، لا التجميل ولا الخيال. وإنه لمن سخر الأيام أن يكون المعري أو يكون المتشائمون عامة من أطبع الناس على السخر، وأفطنهم إلى مواطن الضحك، فقد يلوح أن ذلك من التناقض الغريب والتماجن المكذوب، أيكون أقرب الناس إلى الشكوى أقربهم إلى الضحك والسخرية؟ هذا عجيب، ولكنه مع ذلك هو الحقيقة المطردة والقياس المستقيم.

إن المتشائمين مستخفون بالدنيا، وما السخر وما الاستخفاف؟ فلعلهما بعدُ ابنا عمومة إن لم يكونا أخوين شقيقين أو توءمين، ومن استخف بشيء فقد سخر منه؛ أو كان كالساخر منه في وجهة النظر إليه.

والمتشائمون يستخفون بالدنيا؛ لأنهم لا يرون فيها نعيمًا يؤبه له، ولا وطرًا يستحق أن يُسعى إليه، وإنما يعتريهم ذلك من دقة الإحساس، وتفزز الخاطر، وشدة تبريح الألم بنفوسهم إذا مسها طائف منه ولو من بعيد، وناهيك بما يعتريهم من عذاب التناقض بين الفكر والإحساس؛ بين فكر يرى أعظم الأشياء أهون من أن يكون لها شأن خطير؛ وإحساس يجعل لكل همسة من همسات الحياة شأنًا، بل شئونًا خطيرة.

فلذلك — أي لدقة إحساسهم — تنغص عليهم لذاتهم وتنتابهم الأحزان والأشجان وتغلب عليهم الكآبة والقنوط، ولذلك — أي لدقة إحساسهم أيضًا — يفطنون إلى دخائل النفس الخفية، ويستمعون إلى دبيب الوساوس المتنكرة، فتنفضح لهم المضحكات والمغامز، ويتراءى قبلهم وحدهم نفاق الطوايا وذبذبة الضمائر، فإن بكوا فحيث يجهل الناس البكاء، وإن ضحكوا فحيث يغفل الناس عن أسباب الضحك، وهذا أيضًا باب من أبواب الشقاء؛ إذ لا تجد في الأشقياء أشد شقاءً ممن يبتلى بجهل الناس إياه فلا يشاطرونه ألمًا ولا سرورًا، ولا يفقهون سرًّا لبشاشة منه أو عبوس، وكأنما هو إذ يمشي بينهم هائم في صحراء بلقع لا نجي فيها ولا معين، أو كأنما هو بينهم سجين غريب اللسان بين أيدي زبانية موكلين بتعذيبه وإيجاعه، وما ظنك بمن يضاف عليه ألم الوحدة إلى آلام المصائب اللازبة والمحن المتراكبة؟

•••

وكم من شقاء غير هذا تجره على دقاق الإحساس من المتشائمين ملكة السخر وسرعة الفطنة إلى المضحك من أخلاق الناس! فمن هذا الشقاء الكثير حذرهم من الضحك ونصبهم الناصب في توقي السخرية والبعد عن الجليل والدقيق من شبهاتها، فهم يحذرون السخرية؛ لأنهم يشحذون سلاحها؛ وهم يغلون في الفرق من مظانها؛ لأنهم يعرفون مناشئها، وفي ذلك بلاء لهم وأي بلاء.

ولا يبعد أن يكون هذا الخوف أول ما وسوس للمعري فجنح به إلى اجتناب الناس ولزوم داره، فقد كان الرجل شديد الاحتفاظ برصانته وإبائه، وكان عظيم الإكبار لصفة الوقار، خصها بالذكر في رثائه لأبيه فقال:

ويا ليت شعري هل يخف وقاره
إذا صار أُحدٌ في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادرًا
مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني

هذا وهو قد رثى أباه في شرخ الصبا وأوائل الشباب؛ أي في سن الخفة والطيش وأوان العجلة والرعونة.

ولقد كان مع عزلته في داره إذا أراد أن يأكل انتحى جانبًا من الدار مخافة أن يبدو من أكله بعض ما يُعاب أو يُزدرى، وكان يشتهي الخمر فلا يثنيه عنها إلا أنها تحل عقال العقل، وتطلق اللسان بالهذر، وكان يخشى أن يطول عمره، وأكبر ما يخافه من طول العمر أن يهرم فيخرف فيعود أضحوكة لمن رآه وفي ذلك يقول:

وما أتوقى والخطوب كثيرة
من الدهر إلا أن يحل بي الهتر

ومن كان هذا حذره من الضحك وخجله من السخرية، فلن تطيب له عشرة الناس، ولن يستريح منهم إلى مودة أو حفاوة، ولا شك أن الصبر على العزلة أولى به وأروح له وأهون عليه من اختلاط يعرضه لضحكة مؤذية أو لمزة جارحة؛ وهذا أيضًا من جنايات السخر على التشاؤم، ولكنهما كما قلنا رفيقان بينهما كثير من وشائج الرحم وأواصر المعرفة.

١  البلاغ في ٢٩ أكتوبر سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤