الأدب كما يفهمه الجيل (٢)١

إذن لماذا نقرأ فنون الأدب، إن كنا لا نقرؤها لنلهو، ولا لنزجي بها ساعات الفراغ المضيعة كما بينا في المقال السابق، فقد يخطر لسائل أن يسأل: ولماذا يقرأ المرأ الآداب إذن؟! وجوابنا على هذا السؤال أنه يقرؤها ليحيا، وليوسع على نفسه من الحياة، وليست الحياة لهوًا ولا تزجية فراغ.

ما الحياة وما الأدب؟! شيئان كلا نسيجهما من مادة واحدة، فالحياة هي شعور تتملاه في نفسك وتتأمل آثاره في الكون وفي نفوس غيرك، والأدب هو ذلك الشعور ممثلًا في القالب الذي يلائمه من الكلام، وما احتاج الناس من قبل إلى من يثبت لهم أن الأدب لا يكون بغير حياة؛ ولكنهم يحسبون أنهم بحاجة إلى من يثبت لهم أن الحاجة لا تكون بغير أدب، مع أن الأمرين بمنزلة واحدة من الحقيقة، فإنه لكل حياة أدب، ولكل أدب حياة، والمقياس الذي يُقاس به كلاهما واحد لا يختلف في دلائله، وإن كان يختلف في وسائله.

أترى الحياة توجد بغير عطف! أترى العطف يوجد بغير تعبير! أترى يستوي التعبير الصادق الجميل، والتعبير الكاذب الشائه! أسئلة لها جواب واحد بديهي معلوم، وذلك الجواب مرادف لقولك: إن الحياة لا تكون بغير أدب يلائمها، وإن مقياس الأدب كما قلنا هو مقياس الحياة.

مثل لنفسك أمة كملت عليها نعمة الحياة العالية، وظفرت منها بأوفر ثروة من الشعور النبيل المجيد، فيها من تعتلج بنفوسهم الحياة، فتدفعهم إلى طلاب العزة والسيادة؛ وفيها من تروعه مظاهر الكون، فيتعمق في أسرار الفلسفة والعلوم؛ وفيها من تطوح به الرغبة والإقدام إلى مجاهل الأرض وأطراف البحار، وفيها من تشوقه فتنة الطبيعة، فينبض قلبه على نبض قلبها، ويترع نفسه من نشوة خمرها، وفيها من يجيد العمل، ومن يجيد القول، ومن لا يقصر عن الغاية في منزع من منازع العيش، ومن يستحق في كل ميدان من ميادين السعي إكليل الغار الذي يستحقه المجاهد الظافر في ميدان التضحية والفخار، مثل لنفسك أمة يتسع أفق حياتها لجميع هذه العظائم، ثم انظر كيف يسعك أن تتخيل هذا العالم المكتظ بالشعور الدافق والسرائر المتيقظة ضائعًا بغير تعبير؛ أو كيف يكون تعبيره لغوًا لا يصلح إلا لمسايرة البطالة، وتسهيل قضاء الفراغ؟ ألا ترى أنك لا يسعك أن تتخيل لهذه الأمة أدبًا غير الأدب الذي تبعثه الحياة العالية وتتخلله وتدب في ألفاظه ومعانيه؟ وأن أدبًا كهذا ليتناوله القارئ، وكأنما يتناول قطعًا من الحياة يجريها في أجزاء نفسه، كما يجري الماء والشمس في عروق الشجر وجذوره.

وكثيرًا ما رأينا أناسًا يظنون أنهم فهموا طبيعة الرقي في الأمم، وعرفوا مواضع الداء منها فتسمعهم يقولون: ما للأمم وللأحاديث والأحلام؟ إن الأمم تحتاج إلى العلوم والصناعات، ولا حاجة بها إلى الآداب ولا الفنون، وهم لا يقولون ذلك إلا لأن غاية ما علموه عن الآداب والفنون أنها أحاديث وأحلام، وأن الأمم بالبداهة لا ترقى بالأحاديث والأحلام! فخليق بهؤلاء أن يتدبروا ما قدمناه ويفقهوه، ويعلموا أن حظ الأمة من الشعر والغناء والأدب، ومن الأحاديث والأحلام أيضًا، إنما يكون على قدر حظها من الحياة، وأننا قد نستطيع أن نتخيل أمة قوية مجيدة بغير علوم ولا صناعات، ولكننا لا نستطيع أن نتخيل أمة قوية الطباع والأخلاق بغير آداب؛ وأنه لا فلاح لأمة لا تصحح فيها مقاييس الآداب، ولا ينظر فيها إليها النظر الصائب القويم؛ لأن الأمم التي تضل مقاييس آدابها تضل مقاييس حياتها، والأمم التي لا تعرف الشعور مكتوبًا مصورًا لا تعرفه محسوسًا عاملًا؛ وأن ليس قصارك إذا صححت للأمة مقياس كتابتها وشعرها أن تهبها كلمات وأوراقًا، وإنما أنت في الحقيقة تهبها شعورًا قويمًا ومجدًا صميمًا، تهبها دمًا في عروقها، ونورًا في ضمائرها ونفوسها.

وربما سمعنا من هؤلاء ومن غيرهم من ينعي على الأدب اختلاف ضوابطه وتشعب مقاييسه، وأنه لا حدود له كحدود العلم المقررة؛ تميز في كل حالة من الحالات تمييزًا قاطعًا بين صحيحه وفاسده، وبين جيده ورديئه، فقد تجتمع صفة الجودة والبلاغة لألف قصيدة في موضوع واحد، ثم لا يكون بينها من التشابه شيء كثير، بل قد يكون فيها تناقض محسوس في أشياء عدة — وهذا صحيح — فإن مقاييس الأدب من السعة بحيث تأذن لكثير من الاختلاف والتشعب، ولكن هذا الذي ينعونه عليها هو مزيتها لا عيبها، وفضيلتها لا نقيصتها؛ لأنه آت من اتساع مجالها، وتجدد حقائقها، ومشابهتها للحياة في أنها نامية متحركة مضطربة متحولة؛ فلا تثبت على وصف، ولا تنحصر في حد؛ وما كانت مقاييس العلم مضبوطة مقررة، إلا لأنها محصورة مجردة من اللحم والدم، فإذا عرفت القضية الهندسية مرة، فقد عرفتها على حقيقتها الأخيرة المقيدة التي لا تتغير أبدًا، وأحطت بجميع جوانبها؛ لأن جوانبها قابلة لأن يحاط بها، أما الحقائق النفسية فليست على هذا النمط؛ لأنها قد تتراءى لك في كل مرة بلون جديد وصورة متغيرة، وإليك غريزة الحب مثلًا؛ أليست هي من الغرائز المركبة في كل نفس؟ بلى، ولكن كم ذا بينها من التغاير في القوى والدوافع، والأغراض والأطوار، والمعاني التي لا يسبر غورها، ولا يستقصى آخر مداها؟! فمن ذلك أن الناس لا يتساوون في حبهم لأحبائهم؛ وأن الإنسان الفرد لا يكون على حال سواء في حبه لجميع الأحباء؛ وهو مع ذلك لا يكون في حبه للحبيب الواحد على حال سواء في جميع الأوقات وليس هذا نهاية ما هنالك من أسباب الاختلاف الشاسع في تصوير غريزة الحب، كلا فإنه بعد ذلك كله يبقى اختلاف الناس في اللغات واللهجات والأساليب وطرائق التفكير، وهي اختلافات لا نهاية لتقلباتها وألوانها في القائلين والسامعين، ومن أين لحقيقة تلم بها وتتداولها كل هذه الأدوار والغير أن تنحصر في وضع واحد كأوضاع القوالب المصنوعة والحقائق الآلية؟ ذلك ما لا يكون ولا يحسن أن يكون، فلا جرم تختلف مقاييس الآداب، وتتشعب مداخل حدودها، ولا يعاب عليها هذا الاختلاف؛ لأنه آت من عنصر الحياة الذي فيها.

على أنه لا يصح أن يفهم من ذلك أنها فوضى بلا قانون رشيد ولا قسطاس مستقيم، وإلا لكانت الحياة نفسها فوضى بلا قوانين ولا أصول، وهي ليست كذلك.

•••

ولسنا نريد أن نقف هنا.

نريد أن نقول ما هو أكثر من ذلك، وهو أن في الآداب عنصرًا أسمى من عنصر هذه الحياة الطبيعية المحدودة — فيها عنصر الخلود الذي لا يتاح للفرد في وجوده القصير — وبيان ذلك أن كل حياة تخلق على هذه الأرض تؤتمن على قوتين عظيمتين إحداهما تحفظها، والأخرى تعلو بها عن نفسها، وقد نقول بعبارة أخرى: إن إحدى هاتين القوتين مادية تتمشى مع «الضرورة» وتخضع لها، والثانية روحية تتكبر على الضرورة، وتنزع إلى «الحرية» ومناط هذه القوة الأخيرة في النفس هو الأشواق المجهولة، وآمال الخيال اللدنية، والمثل العليا التي لا تظهر في شيء مما يعالجه الناس ظهورها في مبتكرات الآداب والفنون، فالآداب بهذا العنصر فيها تشرف وتسمو على تلك العلوم والصناعات التي تقوم للضرورة المادية مقام الخدم المطيعة والعبيد المسخرة؛ إذ إنه ما زال في فطرة الناس أن يخجلوا من تحكم الضرورة فيهم ولو كانت شائعة بين جميع المخلوقات، ويجاهدوا بما في طوقهم من قوة للتغلب عليها والتباهي بالإفلات من قيودها، ومن شواهد ذلك عد أقوام من أهل الفطرة أكل الطعام عورة تُستر، وهرب الناس جميعهم من الفقر وميلهم إلى مداراته أو الاستخفاف بأحكامه، وكراهتهم أن يفاجئوا في أثناء خضوعهم لشهوة من الشهوات الاضطرارية المسلطة على المخلوقات عامة، ومن شواهده أنهم من الناحية الأخرى يهللون تهليل الطرب والابتهاج لما يقرءونه في الشعر والقصص من وقائع البطولة التي يتمرد فيها جبابرة الخيال على سلطان الأقدار، ويهزءون من آصار الطبيعة وقوانينها القاهرة، وتراهم يبتهجون ويغتبطون بما يشهدونه على المسارح من الروايات التي تتغلب فيها السجايا المنزهة على المطامع الضيقة الخسيسة التي تدين بالتسليم لأقرب أوامر الضرورة ونواهيها، ويستريحون إلى ما تترجاه قرائح الشعراء والحالمين من عصور العدل والفضيلة والكمال والانطلاق من ربقة الحاجات المعيشية، ويهللون لهذه الأمور ويعجبون بها مع علمهم أنها لا تكون كما يرجون في عالم الوقائع الملموسة، غير أنهم قد أيقنوا بالإلهام أنها هي قائد الإنسانية الذي صحبها خطوة بعد خطوة في معارج الحياة، فتقدمت وراءه من حمأة الحشرات المستقذرة إلى هذا الأوج المتسامي صعدًا إلى السماء، وجعلت الحياة فنًّا يخيل إلى الإنسان أن يخلقه باختياره، كما يخلق بدائع الصور، والكون متحفًا أبديًّا يقاس بمقاييس الحرية والجمال، بعد أن كانت الحياة قضاء محتومًا، وكان الكون سجنًا لا فكاك لأسيره من أغلاله وحراسه.

ففي الأدب كل ما في الحياة من حاضر ومغيب، ومن فرائض وآمال، ومن شعور بالضرورة في الطبيعة إلى تطلع لحرية المثل العليا، وواجب على الذين يفهمون عظمة الحياة من أبناء هذا الجيل أن يحسنوا فهم هذه الحقيقة؛ ليعلموا أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز في العقل أن يكون لها غير أدب واحد؛ وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحياة والحرية.

•••

يقول قائل: وما بالنا ننكر الهزل في الأدب إذن؟ إن كان في الأدب كل ما في الحياة فكيف ننفي الهزل من الأدب وهو عارض من عوارض الحياة التي لا تُفارقها؟ وقد فتحنا الباب لهذا السؤال لظننا أنه خاطر ورد على أذهان كثيرين ممن قرءوا مقالنا الأول، ونحن نقول لهم: إنهم ذهبوا غير المذهب الذي عنيناه ونسوا أننا إنما أردنا أن نصحح النظرة إلى الأدب، ولم نرد سرد موضوعاته، ولا المقارنة بينها، وعليهم أن يذكروا أنهم لا ينظرون إلى الحياة نظرة هازلة لاشتمالها على الهزل في بعض الأحيان، فكذلك يجب أن لا ينظروا إلى الأدب هذه النظرة لاشتماله على المهازل والجلائل، وعلى أننا نعود فنقول: إن الاشتغال بالهزل غير الاشتغال بتمثيله، فإن في تمثيل الهزل حظًّا وافرًا من الجد، كما أن في تصوير القبح حظًّا وافرًا من الجمال.

١  نشرت بالعدد الثالث من مجلة المشكاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤