توت عنخ آمون ينتقم!١

جاءتنا أخبار انتقام الملك توت من أوروبا لا من مصر، وبالغ العيافون والمتكهنون في التخويف من صولة مليكنا النازل عن عرشه الثاوي في غيابة رمسه الذي تركه وزراؤه وتفرق عنه جنده، وضاع في التراب كل ما كان في أيام ملكه من عدة وسطوة، فإذا هو بعد ثلاثة آلاف سنة ونيف من موته أقوى مما كان حيًّا، وإذا هو البعوضة التي قتلت كارنارفون، والطاعون الذي طعن جاي جولد، والسكتة التي أودت بعالم الأشعة المشهور، والوسواس الذي داخل حفار «بيبان الملوك» فصيره ضحكة للعالمين، وحدثونا عن كثير غير ذلك مما نزل بناقلي الجثث وفاتحي قبور الموتى من الطوفانات والحرائق والنكبات والبوائق، فإذا الفراعنة أعجوبة من العجائب لا هم من الآدميين، ولا هم من الآلهة الأقدمين؛ لأنهم قوم يملكون في عالم الموت ما لم يملكوه في عالم الحياة، ويسخرون الطبيعة من حضيض الحفائر والقبور وما كان لهم عليها من سلطان وهم على عروشهم يصرفون الأمر بالسحر والبأس والحيلة أجمعين!

وقال حكيم هندي: إن الفراعنة يبطشون بطراق قبورهم هذه البطشات بقوة «اليوجا» التي ركبها الله في الجهاز العصبي وجعلها وديعة فيه تدخر وتخزن بعد هلاك صاحبها بآلاف السنين، ونعى على الأوروبيين جهلهم بهذه القوة واجتراءهم على غصبها وهم عزل من قوة مثلها لما بهم من فقر في الروح واضطراب في الأعصاب.

فما هذا اليوجا وما هذا البطش الذي يزعمونه لأرواح الفراعنة، وماذا وراء هذه الميتات من الأسرار، وهل لها من علة غير ما نعرف من علل الموت الجاري على جميع الناس؟

أما الرأي الصحيح فيما نعتقد فهو أن موت هؤلاء ومن سبقهم من المنقبين في الآثار لا يختلف عن موت الآخرين في شيء، وليس في كل ما رووا عنه من الحوادث التي من هذا القبيل حادثة واحدة تخرج بنا عن سنن الطبيعة، وتلجئنا إلى سبب من عالم السحر والطلاسم، فما أخذ علماء الآثار وطلابها عهدًا عن الموت أن لا يقترب منهم وهم يشتغلون بالحفر والتنقيب حتى يقال — إذا ماتوا وهم يحفرون وينقبون: إن الذي أصابهم موت غريب، ليس كالموت الدارج المعروف، ولا كان الذين قضوا منهم كل من قضى من بني آدم في مصر وأوروبا من الباحثين والمنقبين حتى يقال: إن التنقيب في الآثار هو وحده جريمة يُعاقب عليها بالهلاك، وأما غيره من التنقيبات، فحلال مباح لا خوف فيه ولا عقاب، فلا حاجة إلى الفروض والأوهام وليس في الأمر من خفاء ولا غرابة، ولو أننا حصرنا الوفيات في الدنيا من لدن عرف قبر «توت عنخ آمون» إلى اليوم، لأمكننا أن نستخرج منها أوهامًا كثيرة ونعزز بها أو ببعضها فروضًا لا تخطر الآن على البال، ولسقنا منها أدلة على أشياء أوضح وأقرب إلى الإقناع واسترعاء النظر مما يُساق عن صرعى الملك توت وغيره من الموتى المتهمين بجنايات القتل وسلب العقل والكياسة!

ولكن يجب أن نفهم مع هذا أن الذين يبحثون هذه المباحث ويخوضون في هذه المجاهل، ليسوا على بكرة أبيهم من البله الغافلين، أو من الدجالين المنافقين. لا! ليس كل أولئك ممن يقولون ما لا يعتقدون، أو ممن يعتقدون اعتقادهم جزافًا، ويختلقون الأوهام اختلاقًا، فإن منهم الفضلاء الذين لا شك في طهارة نفوسهم ورجاحة عقلوهم، ومنهم العلماء الذين تبنى على تحقيقاتهم في العلوم قواعد لا يعتريها الوهن، ونتائج تلمسها الأيدي، واختراعات تتداولها كل يوم، ولا يعزب عن بالنا أن الميدان الذي يحومون في نواحيه ميدان واسع رغيب لا يقبل الحصر، ولا يخضع للحتم والتحكم، وليس من المستطاع إيصاده آخر الدهر في وجوه المغامرين من طلب المعرفة؛ لأنه ميدان السؤال عن اللغز الأكبر لغز الإنسان والكون، فلا النفي الجازم فيه بمأمون، ولا اليقين الحق فيه بميسور، ولا التعب الذي ينال الضاربين في أرجائه بضائع، وقصاراك بين يديه أن تطيل الصبر وتمنع التحيز، وتوقن أن هناك شيئًا يبحث عنه، وأن الوسائل على ذلك الشيء كثيرة لا تزال تعالج وتهذب حتى تتهيأ للغاية ويتيسر الفصل بها بين الزيف والصحيح.

والعلم نعم المذهب لهذه المباحث، فهو سيفيدها ولا يضرها ويزيد الرغبة في استكناهها ولا ينقصها، ولقد استفادت إلى الآن فوائد جمة من تقدم التاريخ وحده فضلًا عن تقدم العلوم الطبيعية وتوافر مواد المقارنات بين اللغات والأديان، فقد كان طلاب علم الغيب وأسرار القوى الطبيعية في القرون الوسطى يحسبون أن الأقدمين قد عرفوا من كنه الغيوب ما لم نعرف، واخترقوا الحجب ووصلوا إلى خالق الكون بالذات، فاستمدوا منه القوة على قلب النواميس وتسخير العناصر وتغيير مجرى الحوادث بحروف يتلونها وصلوات يرتلونها، فأصبحوا بذلك من أصحاب الخوارق والمعجزات، وجعلوا الكشف فنًّا يدرسه المريدون، والتأله رياضة يمارسها التلاميذ، وكان أصحاب هذه الدعوات إذا سئلوا أين ذهبت هذه الأسرار والكرامات قالوا: هي في أسفار الهنود القدماء، أو أدراج الهياكل المصرية، أو مأثورات الفرس والكلدان وأمم أخرى من القرون البائدة، وزعموا أن بين الأحياء من ورث هذه العلوم عن أهلها وضن بها على غير مستحقيها، فلما ظهرت أسرار الهند ومصر وفارس والعراق القديم واحدة بعد أخرى، وفسرت كتبهم وعرفت عقائدهم وبان للناس عجزهم عن سبر الحقائق وحيرتهم التي تشبه حيرتنا في أصول المسائل وإقرارهم بالجهل على أنفسهم، بغت الدعاة بتلك الدعوة القديمة وبهتوا وعظم عليهم الأمر فتضعضعوا، لكنهم كابروا ولم يذعنوا للخيبة بعد ما تأصل في نفوسهم ورسخ في أخلادهم من الآمال والعقائد، فجعلوا يتأولون الكلام ويحيلون على الأمم العريقة في القدم التي لا تزال مشهورة بالسحر والعبادة، ثم استقروا بعلوم الغيب ومعجزات الرياضة الروحية في بلاد التبت وحصروا ميراثها في الموبذان الأعظم أو «اللاما» ومن اجتباهم من أتباعه، وكان هذا عزاءهم، وظل كذلك إلى أن فتح الإنجليز بلاد التبت واجتاحتها حملة صغيرة من جيش الهند منذ عشرين سنة، فاندك هذا الملجأ الأخير وانكشف للناس دخيلة السحر المزعوم، قال أحد هؤلاء المؤمنين بالسحر القديم للشاعر البلجيكي الكبير موريس مترلنك: «إن هؤلاء القوم لا يدرون ما يصنعون! إنهم يستهدفون لبلاء لا قبل لهم به … وسيجدون أمامهم الحول الذي يسحق مائة ألف رجل وفيل كما يسحق الفأر الميت، وستكون أمور لم تسمع بها أذن بشر ولن يستطيعوا وصولًا إلى ذلك البيت الأمين.»

ثم انظر ماذا حدث بعد هذا الإنذار كما ورد في كتاب مترلنك «السر الأكبر» قال:

… وبعد مفاوضات سياسية طويلة وضح منها عجز الصينيين وغباؤهم وسخف عقولهم وسوء نيتهم، وأسفرت عن حيل صبيانية من جانب زمرة الموابذة وأخلفت فيهم الظنون أيما إخلاف، تقدمت كتيبة الكرنل يونجهسباند — ومعظمها من قبائل السيخ والجوركا — لافتتاح البلاد، وكان على المهاجمين في تلك البلاد الكالحة فوق تلك السفوح المكللة بالثلوج بين تلك البطاح القاحلة الخراب أن يقتحموا مصاعب لا تُطاق ويجتازوا دروبًا ضيقة يكفي لصد المغيرين عليها ثلة من المقاتلة لو وجدت من يحسن قيادتها، فمضت الكتيبة تلقاها جماعات من جنود الموبذان الأعظم على جانب عظيم من الشجاعة، ولكن تنقصهم الدربة والمهارة، وكانوا على أشد ما يكون من الغيرة والحمية الدينية التي بثها فيهم الكهان بما قرءوا عليهم من الدعوات وحاطوهم به من الصلوات، ولكن لا سلاح لهم غير البنادق العتيقة والمدافع الرديئة، ثم اقتربت الكتيبة الإنجليزية من «الحسا» فراح الموابذة القانطون يصبون عليها لعناتهم خمسة أيام متواليات ويرمونها بقذائف الصلوات، ويبتهلون إلى الله أن ينصرهم على المغيرين والله لا يُجيب، وفي اليوم التاسع من شهر أغسطس دخل الكرنل يونجهسباند عاصمة التبت عنوة، واحتل قدس الأقداس بيت الله المطهر وكعبة الحبر الأعظم «البوتالا». أما الناسوت الثالث عشر للذات الإلهية والحبر الأعظم للديانة البوذية والأب الروحي لستمائة مليون من الأرواح البشرية فماذا صنع؟ فر من بيته المطهر في جبن مخجل وعجلة مخزية.

ولم تكن بلاد التبت أول بلاد فتحها الغرباء فاعتدوا على شعائرها وأباحوا ذمارها وسخروا من آلهتها وكهانها، فإن ما حدث في التبت قد حدث مثله مرارًا، في مصر والهند وفلسطين، بل في كل بلاد قديمة أو حديثة، فما سمعنا أن قوة من تلك القوى الخفية شمرت للنضح عن أوطانها والثأر ممن أهانوا أحياءها، وأقلقوا مضاجع أمواتها، وأضعفوا اليقين بأربابها، أو سمعنا من هذه الأقاويل ما لا يقبله عقل، ولا يقوم على صحته برهان، فإن كانت القوى التي يقولون عنها تغار على قبر أعظم من غيرتها على قطر كامل بكل ما فيه من قبور ومدائن ومن موتى وأحياء، فذلك آخر يحتاج إلى تفسير.

•••

أما اليوجا التي ذكرها الحكيم الهندي فمعناها الاتصال — أي اتصال الذات الشخصية بالذات الكونية — وهي مظهر قوة الخلق في الإنسان، وهذه إحدى قواه الثلاث في عرف المتصوفة المحدثين؛ وهي قوة الإرادة، وقوة المعرفة، وقوة الخلق أو العمل.

والمتصوفة يقولون: إن الفكر الإنساني — وهو نفحة من الفكر الإلهي — قادر على أن يحصر نفسه في غرض من الأغراض، فيخلق لصاحبه القدرة أو الملكة التي يريدها، وفي وسع الإنسان بممارسة «اليوجا» أو الاتصال أي بالرياضة الروحية أن يذكر ما مر به في آلاف السنين الأولى ويستعيد أعماره الكثيرة على هذه الأرض، فيشرف على الماضي كله، ويذكر ما لا يذكره الذين حجبتهم عن الحقائق كثافة المادة، ذلك أن الإنسان يعيش على هذه الأرض مرارًا ويموت مرارًا، والروح الإلهية فيه باقية تخلع ثوبًا وتلبس ثوبًا أوسع منه كلما ارتقت درجة بعد درجة في معارج الاستكمال، فهي كالطفل الذي يبدل الأثواب حينًا بعد حين كلما طال جسمه وقصر عنه ثوبه، ولا يزال الإنسان في ولادة وحياة وموت حتى يصل بواسطة «كارما» أي الفعل والانفعال المستمرين في أدوار الحياة المتسلسلة إلى مرتبة الكمال الروحي، فلا تعود به حاجة إلى التجسد ولن يضيره أو يتسلط عليه حكم الجسد إذا هو لبسه بعد ذلك باختياره؛ لأنه قد نسخ آية المادية وصفى المادة التي أعطيها، فاستصفى منها قوة روحية على قدره، وأبطل ما فيها من القيود المعرقلة لحركات الروح.

والمتصوفة يذهبون إلى أبعد من هذا كثيرًا في وصف العوالم التي يجوز بها الإنسان والأجساد التي يلبسها وينضيها، ويسهبون في بيان الحكمة المقصودة من هذا التناسخ الذي تجرب به روحه في حلقات الخلق مبتدئة بالمادة الغليظة، ومنتهية بالذات الإلهية، وأقوى ما يوجه إليهم من الاعتراض على أقوالهم في هذا الموضوع سؤال من يسألونهم: كيف يؤثر الروح في الجسم، أو كيف يؤثر الجسم في الروح وكلاهما من جوهر غير جوهر الآخر؟ أيؤثر الروح في الجسم أم يؤثر الجسم في الروح، أم لا يؤثر أحدهما في الآخر؟ فإن كان نعم فبماذا وكيف؟ وإن كان لا فما جدوى هذا الامتزاج المضني الذي هو منتهٍ — لا محالة — إلى افتراق يذر كلا منهما على ما كان عليه قبل الامتزاج؟ على أن أسئلة هؤلاء السائلين لا تصلح إلا للاعتراض على الذين يعتقدون أن المادة غير الروح في العنصر، أما الذين يقولون: إن الروح والمادة من عنصر واحد على كيفيات متغايرة ودرجات متفاوتة كتفاوت الكثافة والحركة في الأجسام، فليس عليهم من بأس من ذلك الاعتراض.

ولكننا نمسك عن الاسترسال ونحيل القارئ على كتبهم ومجلاتهم التي نشطت في هذه الأيام وتكاثر المقبلون على مطالعتها والتأمل فيها بعد الحرب الكبرى، ونجتزئ بأن نقول: إن أمرًا واحدًا من هذه الأمور لا نشك فيه البتة، وهو أن الإنسان ابن هذا الكون باطنه وظاهره على السواء، فلن يكون اتصاله به مقصورًا على الحواس الظاهرة، ولا على العقل الذي يستقي علمه منها، ولن يكون كل علمه محدودًا بما يرد عليه من الخارج؛ لأنه هو أيضًا جزء من الكون الظاهر والباطن، وفيه من أصول حقائق الخلق مثل ما في ذلك الكون، فهو قادر على أن يعرف من الحقائق فوق ما يعرف بالحس، وهذه القدرة التي لا توجد في الناس كلهم بمقدار واحد هي التي يسميها فلاسفة ما وراء الطبيعة «علم الكينونة» أو «الأنتولوجي» أي علم ما هو كائن بذاته Ontology.

والإنسان مستودع قوى لا علم لنا الآن إلا بالقليل منها، وناهيك بقوة الجهاز العصبي التي نشهد منها العجائب في هذه الأيام ويُحكى لنا عن أصحابها من قراءة الأفكار ونقل الإحساسات وضبط وظائف الجسد ما يدهش العقول، وما هي هذه القوة؟ سمها كهرباء، أو سمها سحرًا، أو سمها وحيًا وإلهامًا، فأنت وما تشاء، ولكن كن على يقين أن العلم لا يعرف من كنه الكهرباء أكثر مما يعرف من كنه السحر والوحي والإلهام، وإنك لن تنتهي في هذه المعضلة الأبدية من استفهام إلا إلى استفهام.

ويقول المتصوفة لمن يُنكر عليهم الحس الباطن احتجاجًا بما يعرض له من الخطأ والإيهام أحيانًا: ألا تضل العين؟ ألا تغلط الأذن؟ أفننكر إذن وجود البصر والسمع؛ لأن أداة الحس بهما تخطئ في بعض الأحايين، أو في أكثر الأحايين، والحق أن الخطأ جدير بهذه المعضلة الكبرى؛ فإنها أكبر من أن يُطلب فيها صواب كصواب النحل في هندسة خلاياه، والعنكبوت في نسج خيوطه، والنمل في تنظيم بيوته، والإنسان في تصفيف أرقامه! إن الكون لا حد له ولا مقياس له من خارجه، فليعذر الباحث الذي لا يهاب سره ولا يجبن عن مجاهله، وليكن في قلوبنا وعقولنا أمجد فخرًا وأشرف قدرًا ممن يقول: لا يعنيني، وهو لا يعرف ما يعنيه.

١  البلاغ ٣ مارس سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤