في معرض الصور١

لو قلنا: إن الحياة بغير الروح الفنية عبث لما قلنا شيئًا جديدًا عند الذين خبروا الفنون وتذوقوا معاني الحياة، وعرفوا ولو شيئًا قليلًا مما يحب منها وما تستحق أن تعشقها النفوس من أجله، ولكننا نغرب غاية الإغراب في رأي أولئك الذين يعيشون في الدنيا ولا يشعرون، أو يوجدون ولا يعيشون، ممن لهم أبصار ولكن لا ينظرون بها، ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها، ولهم قلوب ولكن لا يفقهون بها، ولهم كل ما للناس من حظوظ العيش ومشاهد الدنيا ولكنهم كالغرباء عنها أو كالمحجوبين من النظر إليها بحجاب من تلك الحجب السحرية التي يروون في الأساطير أنها تسلب الناظر نظره فلا يرى ما تحت عينيه، ولا يتناول ما بين يديه، فإن هؤلاء الناس يحسبون الفنون الجميلة نافلة من النوافل التي تغتفر إن شئت، كما تغتفر بعض الملاهي التي فيها لبعض الناس لذة، ولكن الشيء الذي لا يُعقل عندهم ولا هو قابل لأن يعقل أن تكون هذه الفنون شيئًا ذا خطر في حياة أمة ناهضة!

والحقيقة أن الإنسان لا يحيا الحياة الكاملة، إلا إذا أشبع حسه مما يحدق به، وملأ نفسه من تصور ما تقع عليه الحواس، هذه هي الحياة؛ وهذه أيضًا هي الروح الفنية التي يحرمها كثيرون وهم قادرون على إيقاظها في نفوسهم لو أتيحت لهم الفرصة الهادية.

وليس من الممكن أن يُخلق الناس كافة على مشرب واحد في حب الفن والإعجاب به والالتفات إلى المظاهر الفنية من هذه الحياة، ولكن ليس من البعيد الصعب على التذليل أن يراضوا بالتربية والمران حتى يعتادوا النظر إلى الحياة بهذه العين، فينالوا من محاسنها وعجائبها القسط الذي تسعه نفوسهم وقرائحهم، ويزول عنهم ذلك الاعتقاد القديم الملائم لعصور الظلم والإكراه الذي كان يخيل إليهم هذه الدنيا كأنها سجن لا فكاك منه، إلا بإذن من سجانه، فهم يصبرون عليه ويعتذرون من حبهم له، ولا يخطر لهم أن الأولى بالاعتذار هو اجتواؤهم لذلك السجن وجهلهم بما فيه من سرور يمسكهم بلا قيد لو أفلتوا من تلك القيود، فالآن وقد شغفنا بالحرية، وأغلينا اسمها، وجعلنا الهتاف لها تكبيرة جديدة في جهادنا، لا يجمل بنا أن تكون هذه نظرتنا إلى الدنيا، وأن يكون الإكراه أساس علاقتنا بها، وإنما الذي يجمل بنا أن نفهمه أن قيود الضرورة هي مسبار ما في النفوس من جوهر الحرية الصحيحة، كما أن القيود التي تثقل بها أعضاء البهلوان الماهر هي مسبار مهارته وقدرته على الخطران والوثب واللعب، أما الوسيلة التي نفهم بها هذه الحقيقة النفيسة، فهي الفن الجميل أو الملكة التي يدرك بها الفن الجميل، فانظر إلى بيت الشعر وتصرف الشاعر فيه! إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهو قيود شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها حين يخطر بين كل هذه السدود خطرة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل، وهكذا فلتكن وعلى هذا المعنى فلنفهم ضروراتها وقوانينها، فما الضرورات والقوانين إلا القالب الذي تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها ليكون لها حيز محدود في هذا الوجود، ولتسلم من العدم المطلق الذي تصير بها الفوضى إليه، وإلا فتصور عالمًا لا موانع فيه ولا أثقال، ثم انظر ماذا لعله يكون؟ إنه لا يكون إلا فضاءً بغير فاصل، أو هيولى بغير تكوين.

وسبيلنا بعد إذ عرفنا هذا، أن نرزح بقيود الحياة ونخضع لها، أو أن نحملها معنا ونتعلم الجري بها، كأنها لا تعوقنا عن مرامنا، فأما إن رزحنا بها وخضعنا لها، فقد جعلنا القيد هو الغرض والغاية، ونسينا بذلك غرض الحياة الأسمى وغايتها القصوى، وأما إن جنحنا إلى الأخرى، فلنعم أن عصا السحر التي تلمس قيود الضرورة فتردها للنفس حلية تزدان بها وتومئ إلى الوقر الجاثم فإذا هو مطية يخف بها الخاطر إلى أبعد أجوائه، هي ملكة الفن الجميل.

والمظنون بين الأكثرين من الناس أن الفنون الجميلة عمل عقيم خال من المنافع المحسوسة، وما نشأ هذا الظن إلا عن جهل بمصادر الأعمال ودوافع الحركة في النفوس، أما الذي تثبته المشاهدة وتؤيده الخبرة، فهو أن العامل لا يجود عمله ولا يحذق في صناعته، إلا بقدر ما عنده من براعة الحس والتصور التي هي جزء من براعة الفن الجميل، فلا صناعة ولا تجارة ولا زراعة ولا علم ولا عمل من أعمال هذه الحياة يمكن أن يتم على الوجه الأمثل في يد صانع لا ذوق في سليقته للجمال، ولا قدرة له على تناول الأشياء كما تتناولها يد الفنان، وقد كنت أقرأ منذ أيام فصلًا عن «التلون الواقي في الحيوانات» للعالم الإنجليزي راي لانكستر، فوجدته يشكر للمصور الأمريكي «أبوت ثاير» يدًا على العلم أسداها إلى علماء التاريخ الطبيعي بما نبههم إليه من طبائع التلوين والتظليل والتوافق بين الألوان في بعض الطيور، فقلت في نفسي: كم من أمثال هذه الحقائق كان يسرع للعلماء ظهورها لو رُزقوا من حذاقة العين الفنية ما رزقه «أبوت ثاير» وزملاؤه في كل فن جميل، وكم من دقائق في الصناعات النافعة كانت تبرز للمخترعين لو طبعوا على دقة الحس التي طُبع عليها رجال الفنون! على أن فضل الملكة الفنية على كل فرع من فروع العلوم والصناعات أوضح من أن يزيده الإيضاح.

١  من مقال نشر في البلاغ يوم الاثنين ١٧ مارس سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤