التمثيل في مصر١

جاءني الخطاب التالي من صاحب الإمضاء، أحذف منه ما يخصني، وأثبت منه ما يخص القراء:

… أذكرك أنك أهملت أو تغافلت عن البحث في فن من الفنون الجميلة — ذلك الفن هو التمثيل الذي بدأ ينمو ويسير في طريق التقدم هذه الأيام، فهلا أعاره سيدي الأستاذ شيئًا من عنايته.

حسين عزيز

وقد آثرت أن أجيب الأديب صاحب الخطاب على صفحات النيل فأقول: إنني سكتُّ عن التمثيل ولم أهمله ولا بخست قدره؛ وما يظن بي أن أغمطه وأنكر أثره وأنا من المعجبين به والمعنيين بنجاحه، ومن أحرص الناس على شهود رواية صادقة توحيها العبقرية إلى القلم وتبرزها العبقرية على الملعب، ولكن ماذا يفيد التمثيل من كتابتي فيه؟ وماذا في وسعي من مسعدة له قد بخلت بها عليه؟ حسبي عالم الأدب! حسبي عالم السياسة! إن هذا كذاك بحر غدار كُتب علينا أن نسبح فيه طائعين أو كارهين؛ وللتمثيل ولا ريب سباحون قد سبروا أغواره وشطآنه وخبروا ديدانه وحيتانه، فهم أولى منا بالسبح فيه، وأدرى منا بظواهره وخوافيه.

على أنه إذا كان لا بد من إبداء رأيي في تمثيل مصر قلت: إنه مقتلة للوقت، بل مذبحة طائشة يذهب فيها دم هذا البريء المظلوم جبارًا، ليلًا ونهارًا؛ وما من حسيبٍ ولا رقيب.

ولست آمل أن أرى شيئًا من التمثيل الصحيح في بلدنا هذا في غير معاهد الصور المتحركة وجوقات أوروبا التي تنزل بمصر آنةً بعد أخرى، ومن رأى «ميجوكين» يمثل في رواية كين و«فيدت» يمثل في رواية «الضريح الهندي» أو «نلسون» فقل لي بالله كيف يجرؤ بعد ذلك على أن يلصق اسم التمثيل بهذه المساخر التي يعرضونها هنا وما هي إلا محاكاة فردية لهذه الصناعة؛ وما هي إلا تمثيل للتمثيل؟

وعساك تسألني: أما من رجاء؟

فأقول: نعم! لا يأس مع الحياة …

ولكن الأمل ضعيف والشقة طويلة وأجر الصبر غير مضمون؛ لأن التمثيل — بل الفنون على بكرة أبيها — مبتلاة بداء العصر العضال، وأعني به داء «الأنانية»؛ فإن شفي العصر من دائه شفي التمثيل بشفائه، وإلا فليسدلوا عليه الستار، أو فليرفعوه ولكن على الخزي والصغار.

فالناس اليوم لا يحبون أن يتعظوا بغابرٍ ولا بحاضر، ولا يريدون أن يبكوا، ولا أن يحلموا، ولا أن يستحثوا مواطن الشعور والتطلع من نفوسهم، ومواضع الفكر والتأمل من رءوسهم، هذه أشياء يحبها من يحب غيره، ومن يسخو على الإنسانية بجانبٍ من وقته وحصة من ذات نفسه، أما الأنانية فلا تبالي بغير ساعتها، ولا تنظر إلى ما وراء لذتها، هذه بضعة قروش للضياع من يبيعني بها ضحكًا سخيفًا، ونظرات وضيعة إلى اللحوم البشرية التي يعرضونها على المسارح عارية أو شبه عارية، ضحكًا سخيفًا ونظرات وضيعة بهذا الشرط! أما إن أعطيتني ضحكًا رشيدًا ونظرات شريفة، فخذ بضاعتك وانصرف.

هكذا تنادي الأنانية، وهكذا تجد من يلبيها قبل أن يرتد إليها طرفها، فإذا التمثيل مجون وإذا الممثلون — أو الممثلات بالأحرى — سلعة مبذولة في سوق الرقيق!

إن الأمر اليوم يا صاحبي للملك ديموس٢ الأول والأخير لا لي ولا لك في الآداب والفنون، وهل تدري ما هو هذا الملك ديموس؟

الملك ديموس هذا هو مستبد قاهر يدعون إليه كثيرًا ويثنون عليه كثيرًا، ولكنه بعد كل ما يُقال من مدح لسياسته وثناءٍ على حكومته عُتل أحمق مأفون الرأي بليد الطبع قذر العينين والأظافر، قد يستحق الصفع أحيانًا، ولكنه لا يجد الكف الغليظة التي تملأ خده العريض الطويل؛ فلذلك لا يصفعه أحد، أو هم يصفعونه بكفٍ غير الكف التي تصلح له، فيعتد الصفع مزاحًا رشيقًا وتربيتًا رقيقًا.

الملك ديموس لا يحب الوعاظ والأنبياء؛ ولا يألف الفلاسفة والعلماء، ولكنه يحب المهرجين والمسخاء، ويألف المتزلفين والأدعياء؛ وفي عهد حكمه السعيد كثر هؤلاء الندماء الأماثل وانتشروا، وظهرت البركة في صفوفهم فامتلأ بهم بلاطه العامر وانفسح لهم عقله الضيق، وما أوسع العقول الضيقة لصنوف الجهالة والحماقة، وما أحفلها بضروب السماجة والصفاقة! إن عقلًا واحدًا منها ليسع من ولائد الغباوة أضعاف ما تسعه عقول الفلاسفة أجمعين من ولائد الفطنة والنبوغ.

ولا يخطر ببالك أننا نحن المصريين — دون غيرنا — الذين نشكو هذه الدولة المحدثة ونتأذى بهذه الحاشية الحافلة، لا لا، إنك إذن لا تقدر الملك الكبير قدره ولا تعرف له حقه، ولا تعلم ما آتاه الله من بأسٍ عظيم وملكٍ عميم ونظامٍ عادلٍ رحيم، فاعلم أن هذا الملك الذي استأثر بالأمر كله في هذا العصر يحكم على غيرنا كما يحكم علينا، ويقضي في الغرب والشرق ما هو قاضٍ بيننا، لا راد لكلمته، ولا معقب لحكمه، وإن خامرك ريب في ذلك فانظر إلى الصور المتحركة والكتب المطبوعة كم منها للفن والأدب، وكم منها للمطاردات والمجازفات والشرطيات والغزليات؟ وانظر إلى فطاحل الممثلين الذين عبدوا صناعتهم وعلوا بها إلى مراتب الإلهام كم يمثلون للصبيان والسكارى، وكم يمثلون لعشاق الفنون ورواد الجمال وطلاب المعاني؟ ألا ترى إلى أولئك المردة الجبارين كيف يخرجهم الملك القدير في ثياب الأقزام ليضحك من قلانسهم، ويطرب لرنين أجراسهم؟ ألا ترى كيف يسخرون من أنفسهم قبل أن يسخر الملك المهذار من شقائهم؟

ثم لا تنس أن الآداب والأدباء قد لحقهم في عهد هذه الدولة ما لحق التمثيل والممثلين، فالنطاق واسع والبلاء جامع شائع، وكما نظرت إلى التمثيل، فانظر إلى آثار الأدب في هذا العصر كم كتابًا منها لأمثال شو وبرجسون إلى جانب الألوف التي يمج بها ذلك الجيش الزاخر من الثراثرة والأفاكين؟ وانظر إلى كتب الفحول أنفسهم كم عدد الصالح المنتقى منها إلى جانب الهراء الغث الذي تمليه عليهم العجلة، وتدفعهم إليه الحاجة؟ نادر معدود وركام غير محدود.

والملك ديموس يتسلى!

ألا فليحيى الملك ديموس إذن، ولا نقول «فليسقط» فإنه لا يستطيع السقوط!

١  نشرت بإحدى المجلات الأسبوعية.
٢  ديموس: أي الشعب باليونانية، ومنها الديموقراطية؛ أي حكم الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤