دواء لنفوس الشبان١

جواب عن سؤال

أيها الأستاذ الجليل «العقاد»

عرفتك ضاربًا على أوتار القلوب لذا أتيتك طارحًا على بساط بحثك سؤالًا الإجابة عنه بغية الناس جميعًا، فهل لك يا قدامة عصرنا وسبحان زماننا أن تجيبني عنه على صفحات النيل وهو: كيف السبيل إلى مداواة نفوس شبابنا؟

محمود علي قراعة
منشية البكري، مصر الجديدة

لست أعرف ما الداء الذي يريد الأديب صاحب السؤال مداواته في نفوس الشبان، فإن أدواء النفوس كثيرة، والذي منها في نفوس شبابنا لا يحصر في مقالٍ واحد، ولو أنني ادعيت لنفسي علم هذا الطب لوجب عليَّ في جواب هذا السؤال أن أنقل كتاب العلاج النفسي كله بجميع أدوائه وأدويته! ولكن هذا الكتاب لم يزل متفرقًا في النفوس، ولم يسبق لأحد أن جمعه في جلدٍ واحد، فيجب عليَّ إذن أن أبتدعه وأحصي فيه ما تبتلى به النفوس من مرض وما يظهر عليها من عرض وما يوصف له من علاج، وهذا شرحٌ يطول وعناء غير مجزي ولا مفيد؛ لأن أول ما ينبغي أن نعلمه من طب النفوس أنها لا تعرف أدواءها ولا تسعى في علاجها ولا تشكو منها كما يشكو الجسم من آلامه وأسقامه، فربما كان أصعب أدواء النفوس وأعضلها على المداواة أنها تعتقد السلامة من الأمراض على قدر ابتلائها بها، فكلما اشتدت عللها وعظمت آفاتها اشتدت في البعد عن الأطباء وعظم اغترارها بقوتها واعتدادها بسلامتها، فإذا أنا استخرت الله وتوفرت على تأليف ذلك الكتاب، بل تلك الموسوعة الكبرى، فأكبر ظني أنني لا أبيع منه نسخةً واحدة ولا تنتفع «الصيدليات» النفسية من ورائه بدرهمٍ واحد، فضلًا عن إفشاء سر الصناعة وفتح الباب للدجالين والعرافين وضاربي الحصا وفارشي الرمل في هذا الطب الجديد!

•••

لكنك قد تعالج الداء في كل نفس بتذكرة واحدة إذا كانت له صفة الوباء الشامل المتفشي الذي لا تسلم نفس من جرثومته في درجة من درجاته، فهل في أدواء النفوس التي تعتري نفوس شبابنا ما له هذه الصفة، أعني صفة الوباء الشامل؟

أقول نعم! وذلك الوباء الشامل هو الهزل، وأزيدك بيانًا فأقول: إن داء الشبان جميعًا هو استخفافهم بالأمور، وإنهم لا يأخذون الحياة مأخذ الجد، ولا ينفذون منها إلى صميم، فهم عابثون حتى في جدهم، هازلون حتى في همومهم وأكدارهم، قانعون من الحياة بغلافها دون لبابها، وبأعراضها دون جواهرها، فلو التمست لهم هيئة تمثلهم أصدق تمثيل لأحلتك على نواويس الموميات التي يصورون على أغطيتها صورة الميت المدرج فيها، ولجعلت الشاب المصري المصاب بهذا الوباء هو هذه الصورة التي على الغطاء لا الجثة التي من ورائها، ولا الروح التي كانت حياة هذه الجثة؛ فهو صورة فيها كل ما راقك من ألوان الحياة وأشكالها ولكنها بغير حراك.

إذا تعلم الشاب المصري، فشارة العلم هي التي يريدها، لا لذة العلم ولا تهذيبه، وإذا طلب «الوظيفة» فإنما يطلب كساءها المترائي للعيون، لا العمل الذي ينفع به أمته ويظهر به مقدرته؛ وإذا سعى للتقدم والرفعة، فليست قوة النفس التي تزج به في هذه المزالق، ولكنها هي الغيرة من ظهور غيره بهذا المظهر الذي يعجب الأنظار ويطن في الأسماع، وإذا تجمل فلكي يراه الناس لا شعورًا ببهجة الجمال ولا استمتاعًا بما فيه من أريحية وسرور، وإذا قال أو عمل أو سكت أو سكن فإنما هو في كل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته تلك الصورة المرسومة على غطاء الناووس التي تنبئك عن جثة ميتة وعن روح ذاهبة لا تحتوي من الحياة إلا قالب الأشكال والألوان.

وأحسب أن الداء داء الأمة، لا داء الشبان وحدهم، الداء وباء شامل لنفوس الجميع والهزل في كل شيء هو ذلك الوباء، فإن أجد الجد لا يتنزه في نفوسنا عن الهزل المضحك والعبث الماجن واللعب السخيف، وأي شيء أجد من بكاء الحزين على ميته؟ أيمكن أن يمتزج هذا الشعور بالتصنع والمباهاة، أو يحتاج الإنسان إلى من يعلمه البكاء على موتاه، ويمثل له لوعة الفراق ووحشة الحداد؟ لا! ولكن تعال فانظر إلى النائحة في المناحة وهي تتصنع البكاء للباكيات وهن يقبلن هذا التصنع المضحك في هذا المقام المحزن، وقل لي أمناحةٌ هذه أم مهزلة، وحقيقة هي أم تقليد؟ ودع هذا وانظر إلى تصنع الأفراح ونقلهم شوار العروس على عشرين مركبة، وهو ينقل في مركبتين اثنتين وقل لي: من يخدع هؤلاء بهذا التصنع المكشوف؟ ودع هذا وأصغ إلى ذلك البائع الذي يصيح على الملأ «العبد اللاوي شيلة جمل» وهو يحمل منها أربعًا على يديه وقل لي: ما معني هذه المبالغة البلهاء إلا عبادة الظواهر وتأليه القشور وازدراء الحقائق والاصطلاح على الكذب الصبياني في وضح النهار؟ فنحن جميعًا صرعى الظواهر، بل صرعى ظواهر الظواهر، بل صرعى ما هو أشد من ذلك إمعانًا في الظهور والتدله بالأعراض والقشور.

•••

هذا هو الداء، هذا هو الوباء فما هو الدواء وكيف السبيل إلى الشفاء؟

سأذكر لك وصفة غريبة، ولكني أناشدك الجد أن لا تستغربها، وأن لا تكون هازلًا في الاستماع إليها، فإني جاد كل الجد فيما أقول، سأدلك على علاج هذا اللعب السخيف وهو اللعب الصحيح.

نعم! اللعب الصحيح هو دواء هذه الأمة من دائها وترياقها من وبائها، ولكننا لا نعرف ذلك؛ لأننا نقضي على الأمور بظواهرها، وظواهر اللعب لا تشف عما وراءها من الخطر والوقار، ولا تهول الأعين المأخوذة بسحر الخوف والاضطرار.

واللعب في الحقيقة (ونعني به إعطاء النفس حقها من نشاط الرياضة ومتعة السرور والجمال) هو غاية الحياة العليا التي تؤدي إليها جميع مساعي العظمة وجهود القدرة، أمام هذه التكاليف التي نسميها جدًّا، فما هي إلا الثمن الذي نشتري به اللعب والتجربة التي نستحق بها جائزته.

ثم ما هي جائزة الحياة الكبرى؟ أترى أنها السيادة؟ إذن فاعلم أنها لعب الألعاب ورياضة الرياضات؛ لأنها من نوع المسابقة والمطاردة، لا من نوع السعي في طلاب القوت والخضوع لأحكام الضرورات.

فعلِّموا الشبان رياضة النفس والجسد تعلموهم معنى الحياة، وتصدفوا بهم عن ظواهرها وقشورها، علموهم الرياضة البدنية والفنون الجميلة، تنشط أبدانهم ونفوسهم فلا تلذ لهم غثاثة الظواهر وتفاهة القشور، علموهم الغناء والموسيقى والتصوير والتمثيل، وما في هذه الفنون من فتنةٍ وسحر يعلموا أن الحياة في غنى عن التمويه والطلاء؛ لأنها جميلة بذاتها، لا بما يصبغ به إهابها، محببة إلى النفس بصفاتها، لا بما تغطي به قوالبها وأشكالها، علموهم هذا تعلموهم معاني الحياة وتخرجوا بهم عن ألفاظها، ومتى بلغنا من الحياة إلى معانيها، فاللعب والجد هنالك سواء، والشغف بالظواهر من نوع الشغف بحقائق الأشياء.

١  نشر في إحدى المجلات الأسبوعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤