الراحة١

أبونا آدم رجل سبط القامة، عريض الألواح، جثل الشعر، في لون بشرته أدمة، وعلى محياه سيماء الطيبة والسلامة، ولنظراته دلائل الأمانة والجهامة، ولم أدركه أنا ولكني صادفته في المنام، وعرَّفني به وحي الدم، والدم كما يقولون جذاب، والعرق دساس، فلما صادفته ذكرت موجدة طالما وجدتها عليه كلما راجعت سيرته في الجنة فقلت له: يا أبانا يغفر الله لك! ما أقل ميراثك وأكثر وُرَّاثك! أقطعوك الجنة بما رحبت فلا صنتها عليك ولا حفظتها لبنيك من بعدك، ثم خرجت منها فما تزودت من ألطافها وأطايبها ولا احتقبت من تحفها وعجائبها، عزاء لأبنائك الضارسين بالحصرم الذي أكلتَ، والمنغصين بالثمرة التي جنيتَ، تركتهم في ظلمات الحياة يعمهون، وعلى وجه الأرضين والبحار يخبطون فلا يهتدون، فهلا إذ كنت في الفردوس كان لك بطيباته المحللة غناءً عن تلك الشجرة الممنوعة! وهلا إذ أكلت منها تذكرت بنيك فقطفت لهم من ثمار الفردوس ما يتنسمون منه رائحة الدار التي كنت فيها، ثم أورثتهم الحنين إليها؟

وكان مطرقًا وكأنما هجت في نفسه ذكرى منسية فاغرورقت عيناه بالدمع ورأيته يغالب نشيجه ويتنهد؛ ثم مد إليَّ يده وقال: قدك يا بني قدك!٢ ولا تعجل باللوم على أبيك، فوالله ما الزلة في الأولى والآخرة إلا زلة أمكم حواء سامحها الله، وما نسيتكم علم الله يوم الخروج، يوم المعصية والحرمان، أواه! وما كان أحلى تلك المعصية ثم ما كان أمرَّ ذلك الحرمان، كنت أمشي في ذلك اليوم وأتلفَّت أسفًا على ما أودع ووجلًا مما أنا قادمٌ عليه، وكانت حواء تمشي إلى جانبي ذاهلة مستعبرة، والنساء يا بني يفعلن الأفاعيل، وهن لا يملكن فيها غير الذهول والبكاء، فبينا أنا أمشي وأتعثر، وأبطئ الخطوة أستزيد بها الدقائق في الدار التي كان لنا فيها مقام الأبد لولا ما فرطنا؛ إذ عاينت على قدى٣ خطوات جوهرًا وهاجًا قد صفت حوله الطير وحفت به الأملاك، وهم ساهون عنه غير مقبلين عليه، ذلك جوهر الراحة يا بني، ومن آفته أن من يحرزه لا يحس به ولا يُقدر قيمته، فأوضعت إليه فالتقطته ولم يشعر بي أحد.

قلت: وأين ذلك الجوهر يا أبتاه! أهو معك الآن؟ قال: مهلًا، إني خشيت أن أُظهر حواء عليه فترزأنا فيه كما قد رزأتنا في النعيم كله، فسترته بيدي وهبطت إلى الأرض، فما كادت تمسها قدمي حتى أسرعت فخبأته في حرزٍ حريز وقضيت وا أسفاه ولم أطلع أحدًا من أبنائي على موضعه، وهذا سر لا إخالكم وقفتم عليه، فلا غرو أن قام منكم في الزمن الأخير من ينتسب إلى القردة دوني، ولا بدع أن تيأسوا من الجنة وتولوا بوجوهكم عنها!

قلت: بل قد وقفوا عليه، ولا أدري من أين؟ ودروا أنك التقطت جوهرًا من الجنة وأنه جوهر الراحة، فطفقوا يبحثون عنه في اليقظة والمنام ويتذرعون إليه بالحرب والسلام، وكلما ظنوا أنهم ثقفوه٤ إذا هم أبعد ما كانوا عنه، إذا التمسوه في المجد فهناك البوار والعطب، وإذا ابتغوه في الأمل لم ينقض لهم أرب حتى يجد لهم أرب، وإذا أراغوه٥ في اللهو فعاقبته الندم، أو نشدوه في البطالة ففي البطالة السأم، تائهين على غير هدى ضاربين في مناكب الأرض سدى، يبدءون ويعيدون، ويعيدون ويبدءون، وهيهات ما يوعدون، أفلا كفيتهم الآن هذا النصب، وعوضتهم عما تجشموه من الكرب في سالف الحقب؟

قال: لا تطمعوا أن تجدوه حيث أنتم كادحون، فإنما قد دفنته تحت التراب، في مكانٍ لا يراه من ينظر السماء ولا يرى السماء من ينزل إليه، ولكنكم متى حللتم جوف الأرض واطرحتم كل أملٍ لكم في ظهرها، فهنالك الراحة السرمدية!

١  من مقالات «الشذور» التي نشرت في سنة ١٩١٤.
٢  قدك: أي حسبك.
٣  أي مسافة.
٤  وجدوه.
٥  أراغ الشيء: طلبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤