الفصل الأول

هزَّة مقدمة لزلزال

كانت الساعة العاشرة والنصف حين سمع دولة الغازي مصطفى باشا كمال دويَّ رصاصة لدى بوابة صرحه. فاستغرب الأمر جدًّا؛ لأنه يعهد أنه لا أحد يجسر أن يحرك ساكنًا تحت ظل سؤدده. فمن يجسر أن يطلق طلقًا ناريًّا لدى داره. هل من ثائر أو نذير بثورة؟

الرجل العظيم من حسب حساب كل صغيرة. فهبَّ الغازي من مكانه وخرج إلى رحبة الدار يسأل: ما الخبر؟ فقال الخدم: إن الحارس الداخلي يا مولاي خرج يستجلي الخبر.

وفي لحظة ظهر يقول: مولاي، جاء رجل مجنون يصر على مقابلة دولتكم في هذه الدقيقة، ولمَّا كان ميعاد المقابلات للأشخاص المجهولين قد فات رده الحارس، فأصرَّ، فردَّه ثانيةً، وأخيرًا رام أن يدخل عنوةً وقهرًا، فأطلق الحارس مسدسه تهويلًا له فولَّى.

– أين هو. ألا يزال هنا؟

– أظنه ما زال واقفًا في آخر الشارع.

– أما ذكر من هو؟

– قدَّم بطاقة باسم مجهول.

– استدعه حالًا وقل له أني أود أن أراه. أسرع!

بعد دقائق عاد الحارس يقود شابًا في شرخ الشباب، عالي الجبين وضاح المحيا، حديد الباصرة حداق الحدقة، طويل القامة أنيق الملبس.

ثم أومأ الغازي مصطفى باشا كمال إلى الحارس فخرج، وبقي الشاب وحده لديه. فقال الغازي: ماذا تريد هنا في آخر السهرة؟

– جئت بمهمة إليك.

– من أنت أولًا وما اسمك؟

– اسمي رجاء الدين أفندي موظف في السفارة الروسية.

فاستغرب الغازي وقال: عجبًا! لا أتوقع رسولًا من السفارة الروسية في مثل هذه الحال، ولا أعتاد أن يأتي إليَّ مندوب من السفارة بهذه الكيفية وفي مثل هذا الوقت. فلا ريب أنك …

فقاطعه رجاء الدين أفندي قائلًا: مهلًا يا فخامة الغازي، لا أسهلَ من إثبات شخصيتي. وضرب الشاب يده في جيبه واستخرج بعض أوراق. ومن غير أن يتناولها الغازي قال: ولكن لماذا لم تقل للحارس إنك مندوب من السفارة الروسية؟! قدمت له بطاقة باسم غير معروف عندنا، فهو معذور فيما فعل.

– كلا يا صاحب الدولة، إنه غير معذور؛ فقد رجوته أن يقدم بطاقتي للحارس الداخلي فأبى. فرجوته أن يسمح لي بمقابلة الحارس الداخلي كي أتفاهم معه فلم يسمح. فحاولت أن أدخل لمقابلة الحارس الداخلي عنوة فتهددني بإطلاق الرصاص.

– ولكن بطاقتك لا تدل على وظيفتك.

– ليس هذا شغله. كان عليه أن يقدمها لدولتكم وأنتم تفهمون.

– كيف أفهم وأنا لا أعرف هذا الاسم؟

– أما خاطب سعادة السفير حضرتكم بالتلفون منذ بُرهة؟

– كلا.

– عجبًا! لقد أخبرني سعادته أنه سيخاطب دولتكم تلفونيًّا وينبئكم بتشرفي!

– لم يفعل. وَهَبْهُ فعل، فماذا كان يضرك لو قدمت بطاقة تدل على وظيفتك؟

– إني مأمور بزيارة سرية لدولتكم، وأستغرب أن سعادة السفير لم يتلفن لدولتكم.

عند ذلك رن جرس التلفون، فتقدم الغازي إلى السماعة ووضعها على أذنه، فإذا سفير روسيا يخاطبه وسخط على مصلحة التلفون لأنها لم تلبه. ثم أخبره أن مندوبًا من قِبَله سيصل إليه ويبسط له أمرًا.

فقال الغازي: لقد وصل والحمد لله بالسلامة ونجا من خطر.

– عجبًا! ماذا جرى؟

– حدث سوء تفاهم بينه وبين الحارس، وسيروي لك ما حدث.

فقال السفير: وهو سيروي لك الآن ماذا حدث.

عند ذلك خاطب مصطفى باشا مركز التلفون ووبَّخ الإدارة، وكان عذرها أن عطلًا حدث كالعادة.

فتمرمر الغازي لنفسه وقال: يالله! متى نستطيع أن نتقن أعمالنا كالإفرنج! إن هذا الشرق عليل، عليل، عليل، يجب أن نُطلِّقه.

ثم انفرد الغازي بمندوب السفارة الروسية في مكتبه الخاص، ونظر إلى رجاء الدين أفندي كأنه يسأله ماذا يريد أن يقول. فقال رجاء الدين: إن سعادة السفير يرجو من دولتكم الرفق بوليد بك، فهو أخفُّ جرمًا من سواه.

فنظر فيه الغازي مستغربًا كلامه وقال: أهذا ما لَقَّنَكَهُ سعادة السفير؟

– نعم يا سيدي، هل فيه ما يسوءك؟

– كلا، وإنما لا أعرف من هو وليد بك.

– عجبًا! ألا تعرف وليد بك صاحب جريدة توحيد أفكار في الآستانة؟

– لعلِّي لا أعرفه، وإنما أعرف أن صاحب توحيد أفكار يسمى وليد بك.

– حسنًا. هو الذي يرجو السفير منك أن ترفق به؛ لأن ذنبه أخفُّ من ذنوب آخرين.

فتململ الغازي وقال: إلى الآن لم أزل غير فاهم ما تقول.

– عجبًا! أما أمرت بالقبض على وليد بك؟

– كلا، لماذا نقبض عليه؟

– أوَلا أمرت بالقبض على سواه من الصحفيين في الآستانة؟

– لا. لا.

– إذن لقد تأخرتم دولتكم عن القبض عليهم، ولا بد أن تفعلوا غدًا.

– ولكن لا أدري لماذا نقبض عليهم.

– الله! أما بلغتْ إلى دولتكم رسالة علي أغا خان، النبيل الهندي؟

فاختلج الغازي مصطفى باشا مضطربًا، وجعل عقرب القلق يلسع صدره، فقال: رسالة أغا خان الهندي؟ لا أعرف شيئًا عن رسالة لأغا خان، فما هي هذه الرسالة؟

فتمايل رجاء الدين أفندي في خيلاء وقال: وي وي! رسالة أغا خان الموجهة إليكم وفيها يطلب منكم إعادة السلطة والنفوذ للخليفة، وإلَّا تضعضعت صولة الدولة التركية.

فانتفض الغازي وقال: ولهذا جئت من قبل سعادة السفير؟

– نعم، سل سعادته، إني لست حائدًا عن موضوع المهمة التي وكل إليَّ سعادته قضاءها.

– إن الحديث الذي ترويه يا هذا أشبه عندي بالتخيلات الشعرية منه بالحقائق.

فضحك رجاء الدين أفندي وقال: إذن لم تزَل الصولة في الآستانة كما كانت يا مولاي، فلماذا لا تقيمون دولتكم في الآستانة.

فامتعض مصطفى باشا كمال من هذا الغمز وقال: لا تخرج عن دائرة مهمتك، قل ما تريد أن تقوله باختصار وصراحة.

فأجاب: أريد أن أقول لدولتكم: إن جرائد الآستانة تنشر الرسائل الواردة عليكم قبل وصولها إليكم. فنفوذ الدولة لا يكون في أنقرة بل في الآستانة. فحبذا أن تنقلوا العاصمة إلى الآستانة لكي تنقل السفارة معكم؛ لأني ضجرت من العيشة في أنقرة وميداني في الآستانة. عذرًا يا دولة الغازي، كلامي الأخير هذا خارج عن دائرة مهمتي، وجُلُّ ما أريد أن أقوله لدولتكم: إن رسالة أغا خان المرسلة إليكم نشرتها صحف الآستانة اليوم، وبعضها علقت عليها تعليقات لا تسركم. فلا بد أن تقبضوا على تلك الأقلام التي علقت عليها. ولا بد أن يكون وليد بك من جملة المغضوب عليهم الضالين. فأرجو بلسان سعادة السفير أن ترأفوا به لأنه أقل إثمًا وأسلمُ نيَّةً من سائر الصحفيين. وسعادة السفير يود أن تتغاضوا عنه إكرامًا لخاطره.

أما الغازي مصطفى باشا كمال فلم يكن يسمع الكلام الأخير جيدًا؛ لأن باله اشتغل قلقًا لهذا الخبر الغريب، وقال: ويحك يا هذا، إن كان كلامك هذا إفكًا فالويل لك! كيف عرفت كل هذا وكيف تثبته؟ هذا مستحيل.

فتبسم رجاء الدين وهو لا يتقلقل من مكانه، كأنه صاحب الصولة والدولة ومصطفى كمال الصعلوك أمامه، وقال: أمَّا كيف عرفت كل هذا فقد جاء تفصيله من قنصلنا في الآستانة إلى السفارة هنا في تلغراف جفري سري، وأمَّا إثبات هذا الكلام فعلى دولتكم يا سيدي، على دولتكم أن تتحققوا إن كان إفكًا أو حقيقة. ولو شئت يا مولاي التحقيق الدقيق لرأيت أن الرفيقينِ شيشرين وتروتسكي عرفا برسالة أغا خان الهندي لكم قبل أن يكتبها.

فازداد الغازي تأثرًا ودهشةً وقال: مهلًا يا هذا، إني مشغول على التلفون بضع دقائق.

ولكن قبل أن ينهض الغازي من مكانه وافى الحارسُ الداخلي بتلغراف، ففضه الغازي. وما وقعت عينه على الإمضاء إلا ضرب بيده على المكتب، فصاح: تبًّا له من بارد بليد. جعلناه حاكم الآستانة لكي …

ثم أمسك عن الكلام؛ إذ فطن أنه لا يزال مع شخص غريب لا يليق أن يطعن برجال حكومته أمامه، ولكن رجاء الدين تناول الحديث معتذرًا عن حاكم الآستانة وقال: عذرًا يا صاحب الدولة، ليست مصلحة التلغراف أحسن حالًا من مصلحة التلفون، راجع التاريخ.

وكان الغازي يقرأ التلغراف وهو ينتفض غضبًا، ثم طواه وقال: لقد ثبت ما تقول يا رجاء الدين أفندي. وسيعلم الذين … أبلغ سعادة السفير أن خاطره عزيز عندي.

وكان كلام مصطفى باشا كمال الأخير يدل على أنه خاتمة الحديث، فقال له رجاء الدين: إن سعادة السفير لا يزال يترقب بفروغ صبرٍ الأدلة الواضحة على تنفيذ وعودكم.

فنظر إليه الغازي مستفهمًا وقال: أي وعود؟

فقال رجاء الدين مبتسمًا: الوعود المقدسة المختصة بالفائدة من محالفة الجمهورية التركية لحكومات السوفيات.

– اسمح لي الآن. إن لي شغلًا مع …

– عفوًا يا دولة الغازي. أعلم أن لكم شغلًا الآن مع عصمت باشا وغيره. ولكن شغلكم معنا أهم.

فقال مصطفى باشا كأنه يريد أن يختصر الحديث: نعم. نعم. أنا عالم أن شغلي معكم أهم. سلم على سعادة السفير وقل له أن يرجئ الموضوع إلى جلسة خاصة بيني وبينه.

– عفوًا يا دولة الباشا، إن كل أشغالك التي تشغلك بعد هذه الدقيقة تتوقف على معلوماتي التي لا تعلم منها شيئًا بعد، والتي لا تأتيك بتلغراف من حاكم الآستانة ولا يقدر أن يفيدك إياها أحد. فمهلًا، تسلَّح قبل أن تُناضل. أنا الجبخانة يا باشا، فخذ مني السلاح والذخيرة!

فازداد الغازي دهشة لحديث هذا الرجل الذي لا يعرفه أكثر من كاتب في السفارة، وقال: هل عندك أخبار أخرى مهمة؟

– من غير شك، وإلا لما جئت أنا إليك، بل كان السفير يجتمع بك وكفى، فمهلًا، إن شغلك مع عصمت باشا وشكري بك ومظهر مفيد بك ومحمد أمين بك وإحسان بك وغيرهم يمكن تأجيله. وأما حديثك معي فلا يؤجل دقيقة.

– حسنًا. تفضل قل ما عندك.

– قبل كل شيء أرجو أن تجيب على سؤالي الأول، وهو: متى تنفذون الوعود المقدسة التي وعدتموها، وأعني بها: متى تتبلشفون تمامًا!

فتجهم مصطفى باشا وقال: هل أنت مفوَّض بهذا الحديث!

– نعم، السفير يتحاشى أن يجتمع بكم كثيرًا حتى لا يجعل سببًا لاتهام أعدائكم لكم. ولكنه يود أن يعلم متى تنفذون وعودكم.

– يالله! أما كفاه أننا فصلنا الدين عن السياسة، وألغينا التعلم الديني أو حصرناه بفئة رجال الدين الذين جعلناهم تحت سلطتنا، وألغينا المحاكم الشرعية، ورفعنا الحجاب عن المرأة، ومنعنا تعدد الزوجات. أما كفى كل هذا؟

– فعلتم كل ذلك، ولكنكم لم تعلنوه، كأنكم تهابون مغبة إعلانه. فمتى تعلنونه؟

– تدريجيًّا. أمَا أعلنَّا نزع السلطة الزمنية من الخليفة!

– ولكن العالم الإسلامي لا يزال يتطلع إلى منصة السلطة التركية كالركن المتين أو الحمى المنيع. ولهذا ترى أغا خان وأمثاله لا يزالون يشدُّون إزر الخليفة ويطالبون برد السلطة الزمنية له. والخليفة بما له من أمثال هذه المؤازرة يكيد المكايد ويدس الدسائس وينقب تحت أساس جمهوريتكم حتى يقلبها رأسًا على عقب.

فانتفض مصطفى باشا كمال وازبأرَّ شعر رأسه، وقال: ويحك! ماذا تقول؟

– أقول: إن مؤامرة عظيمة تدبَّر لأجل هدم الجمهورية، وستسمعون دولتكم خبرها في حينها.

– أخبرني الآن ماذا تعرفه عنها، من هم القائمون بها!

– ليس الآن يا باشا، ليس الآن، بل حين أستوفي معلوماتي، وإنما أقول لك: إن فريد باشا الدماد زنبلكها.

– والسلطان وحيد الدين؟

فوجم رجاء الدين عن الكلام، ثم قال: يكفي الآن يا دولة الباشا أن تعلم أن هناك مؤامرة، وحين تنضج تطَّلِع عليها جيدًا، فلا تتعب نفسك كثيرًا في البحث عن ذويها، لا تكسر البيضة قبل أن ينضج الجنين، وإلا فلا تستطيع أن تقتل «الكتكوت» ولا «الفرخة» ولا الديك، فمهلًا، وإنما يجب أن تقتل الديك أخيرًا وإلا …

– لا تكلمني ألغازًا.

– بل أكلمك بصراحة يا دولة الباشا، يجب أن تقطع الرأس.

– أجل، أنا عالم أننا سنضطر إلى خلع الخليفة الحالي عبد المجيد.

فضحك رجاء الدين وقال: لا لا. هذا وحده لا يكفي.

– وسننفي كل من يشد أزره أو يلتف حوله.

– لا لا. كل هذا لا يفيد شيئًا يا دولة الباشا؛ تخلعون خليفة فيأتي خليفة آخر.

– إذن!

– يجب إلغاء الخلافة برمَّتها، كما ألغى لنين البطركية بتاتًا وكما ألغت فرنسا الدين والإكليريكية والرهبنات.

فاختلج مصطفى كمال، وقال: ويحك يا هذا! إن الخلافة رأس ثلاث مائة مليون مسلم. فهل تريدون أن أقطع رأس ثلاث مائة مليون مسلم! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

– نحن قطعنا رأس مائة وثمانين مليون أرثوذكسي، وسنقطع رءوسًا أخرى. وإلا فكيف يتحرر العالم من قيود التقاليد القديمة لكي يستطيع أن يرتدي رداء المدينة الجديدة.

فبهت مصطفى كمال. قال: هل أنت أرثوذكسي؟

– كلا، بل أنا تركي مسلم. ولكني الآن موظف بلشفي. فبأمر سيدي السفير البلشفي أتكلم، وباسم البلشفية أقول.

فكان لفظ البلشفية يَعْبُر في مسمعي مصطفى كمال الجبار كعبور كهرباء السمك الرعَّاد في بدن فريسته.

وبعد بهته هنيهة قال: إن سفيرك يطلب مني أن أحمل نقمة ثلاثمائة مليون مسلم على رأسي.

– لا بأس يا باشا، إن لنين حمل نقمة ألف وخمسمائة مليون آدمي على رأسه. سمعًا يا سيدي الباشا، إذا لم تستطع أن تحمل نقمة فريق من الناس، فكيف تتوقع لقب إمبراطور تركيا وتركستان؟

فانتفض مصطفى كمال وقال: ويلك، لا تجربني أيها الشيطان. من قال لك: إني أتوقع …

– التاج الطوراني؟ أجل، إذا لم تتوقعه فهو يتوقعك. إن نابليون لم يكن يتوقع أن يأخذ التاج من يد البابا ويضعه على رأسه، يا نابليون طورانيا العظمى.

فحملق فيه مصطفى كمال وقال: تبًّا لك من رجيم مجرب. كيف تظن أني أتشبه بنابليون.

وكان رجاء الدين لا يزال في برودته يجاوب مبتسمًا، فقال: ما أنا ظننت يا سيدي الباشا. وإنما كل الأتراك، بل كل العالم يقول عنك الآن: إنك نابليون الأناضول. فإذا ألغيت الخلافة شرعوا يقولون عنك نابليون طورانيا. فلا تُضِع هذه الفرصة. إن أبواب سراي طولمة بغجة العظيمة وسائر سرايات الآستانة مفتوحة لجلالتكم وجلالة الإمبراطورة لطيفة هانم عقيلتكم.

فسخط به مصطفى باشا كمال وقال: ويحك يا وقح، ما هذا الكلام الذي تتطاول به؟

وهمَّ مصطفى باشا أن يضربه، فرفع رجاء الدين يده كأنه يرد الضربة وقال: حاذر يا باشا أن ترفع يدك عليَّ، فكأنك ترفعها على لنين. لا تنسَ أني موظف في سفارة روسيا.

فارتدَّ مصطفى باشا كمال واجمًا وامتلك عنان خلقه، ثم قال: ولكنك تماديت في الحديث معي كأنك تمازحني.

– كلا يا مولاي، لست أمازحك. وإنما أريك المستقبل في مرآة جلية واضحة. فإن لم تشأ أن تنظره فلا تَلُمْ إلا نفسك. الخليفة يُخلَع والخلافة تُلغَى، وإلا فالجمهورية التركية تُنسَف نسفًا والحلم الطوراني يذهب وهمًا بعد أن كان حقيقة.

وهمَّ رجاء الدين أفندي أن ينهض لكي يخرج، فأمسك به مصطفى باشا قائلًا: مهلًا.

– أظن أنه حان الوقت يا مولاي لاجتماعكم بعصمت باشا وغيره من الأعوان.

– مهلًا. أود أن أسألك أمورًا.

– تفضل يا سيدي سل، إني في خدمتك بكل إخلاص.

– تقول إنك تركي. وما الذي قذف بك إلى حضن السفارة الروسية؟

– وماذا يمنع هذا يا مولاي؟ يقول المثل: «حيث تُرزَق الزقْ.»

– ليس ما يمنع ذلك يا صاح. وإنما رجل مثلك تحتاج إليه الجمهورية أكثر من روسيا.

– لا بأس! أستطيع أن أخدم الجمهورية وأنا في سفارة روسيا أكثر مما كنت خارجها، ولا سيما لأن مصلحة الجمهورية تتفق مع سياسة الحكومة الروسية البلشفية.

– كيف تستطيع أن تخدم الجمهورية؟

– بما يتسنى لي من الاطلاع على خفايا أعدائها وأسرارهم.

– كيف يتسنى لك ذلك؟

فضحك رجاء الدين وقال: أوه! إني أعرف كل أعداء الجمهورية. ومعظمهم في قصور الأمراء. وأعرف الأمراء واحدًا واحدًا. وأعرف أصل كل واحد وفصله.

– لعلك كنت متصلًا بهم جميعًا.

– بل كنت متصلًا ببعضهم. كنت سكرتيرًا مدة عام للداماد فريد باشا، وكاتبًا في دائرة البرنس برهان الدين أفندي، وبعد حين مديرًا لأشغال البرنسس خديجة هانم بنت السلطان مراد. وأخيرًا كنت سكرتيرًا للبرنس سناء الدين. وأعرف جميع الأمراء.

– ولكن هذا يستلزم أن تكون في الآستانة يا صاح.

فابتسم رجاء الدين وقال: أقْدر أن أكون حيث أشاء متى أشاء يا سيدي.

– وإنما إذا كنت تجد أقل صعوبة أو عرقلة، فإني أسهل لك كل سبيل.

– إن السبيل سهل يا سيدي بإذن الله. أستودعكم الله الآن يا صاحب الجلالة الإمبراطور العتيد. إن طورانيا وضعت فيكم كل آمالها. فحققوا هذه الآمال. أظن جرس التلفون … لعل عصمت باشا يريد أن يخاطبكم الآن. وداعًا!

– إلى ملتقًى قريب يا رجاء الدين أفندي، أود أن أراك من حين إلى آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤