الفصل الثاني عشر

جنية البحر

ودام السكوت نحو عشر دقائق كأن السجين الأول لم يعد يستطيع الكلام لشدة تأثره. وأما السجين الثاني الذي لا يطيق الصبر على قصة مبتورة فقال: ما فهمنا كيف انتهت المسألة؟

فتنهد الأول وقال: لا تسل كيف انتهت المسألة، بل كيف ابتدأت؟ جئت أستشفي من حب فوقعت في حب آخر. بل قل: جئت أموت في الحب فولدت ثانية. كأن الحب لا يعتقني من عبوديتي له.

فاعتدل الثاني في مكانه وقال: إن حكايتك لذيذة جدًّا يا صاحبي. فهات أخبرني ما هو الحب الآخر؟ يظهر أنك موجود في جو مشبع بالحب.

– نعم. لقد أصبحت أعتقد أن الأرواح تتقمص مرتقية. فقد انتقلت من عالم حب عادي إلى عالم حب أرقى. فاسمع الحكاية الثانية وادهش واستغرب.

– هات. لقد كدت أستلذ السجن معك يا صاحبي. ليتهم يبقوننا معًا في سجن واحد. هات قل لي يا أمير العشاق!

فاعتدل الأول وقال: بعد ذلك الخطاب الأخير انتظرت منها كلمة عطف فلم ترد على خطابي. فعدت إلى الملعب وحاولت أن أسترق نظرة منها لي فما استطعت. انتظرت خارج الملعب عسى أن تشير إشارة عطف فخاب المؤمل أيضًا. ومضت في أوتوموبيلها مع رجل عظيم فذبت وجدًا وعدت إلى منزلي في منتهى اليأس وشعرت أن منزلي لا يسعني. بل شعرت أن العالم كله ضاق بي. خرجت من المنزل الساعة الثانية بعد نصف الليل وأنا أتخيلها إلى جنب ذلك العظيم في الأتوموبيل، فخيل لي أن السماء أطبقت على الأرض.

تمشيت على غير هدى كمن يهرب من لهيب حريقة، فإذا بي أشعر أن اللهيب في بدني. أريد إطفاء هذا اللهيب. ما وجدت نفسي إلا على شاطئ البحر. فخطر لي أن أطلب فرجًا من هذا الكرب عند نبتون إله البحر، وأن ألتمس مطفئًا لهذا اللهيب في اللجة. أي نعم، أي نعم. البحر خير مدفن للقلوب الملوعة. لعل عِشرة جنيات البحر تلطف هذا الهياج الغرامي! ولعل رقصهن يسلي الفؤاد فيهدئ روعه. أي نعم إلى عشرة جنيات البحر!

ما زلت أتمشى على الشاطئ إلى أن بلغت إلى بعض الصخور حيث المياه عميقة عند الشاطئ، فقلت: لا ريب أن هنا مرتع جنيات البحر. إليك أيتها الجنيات التي كنت معبودة أسيا الصغرى. إليك قربانًا على مذبحك. كلي جسده وسري روحه.

وما ترددت في أن ألقيت بنفسي إلى الماء الذي يصادم تلك الصخور. ما أزعجني حينئذٍ سوى برد الماء إذ كان الفصل فصل برد. على أني ما لبثت أن أحسست بشيء يتخبط أمامي وقد صدمني صدمة خفيفة. فارتددت مذعورًا. فما ارتددت حتى رأيت الاختباط قد ازداد أمامي. ثم ظهر شبه رأس من وراء الموجة، فقلت لنفسي مرتعبًا: لقد صح ما ظننته خرافة تاريخية. هذه جنية البحر.

عند ذلك حدث الاختباط ثالثة، فإذا بي أرى مثل ملابس تخفق مع الموجة على بدن. الله! ما هذا؟ ظهر القمر قليلًا من وراء الغيم، واتضح لي ما رأيت بعض الاتضاح، شبح في الماء، أهذه جنية البحر؟

لا أدري كيف أني شعرت بدافع يدفعني إلى هذا الشبح المختبط الذي يظهر لحظة ثم يغوص؟ فوثبت إليه. فإذا بي أقبض بكفي على كف. ثم شعرت بكف أخرى تقبض على ذراعي. وإذا بجسم كأجسام البشر قد ارتفع فكدت أغوص تحته. ثم سمعت مثل صرخة خافتة. الله أكبر! أهكذا تكون الجنيات؟! لماذا لا تخطفني إلى قعر اليم؟

ما عتمت أن انتفضت نفضة حتى أفلت من تينك الكفين وابتعدت. تالله، إن الجنِّيَّة في ضيق. وثبت وثبة أخرى نحوها وقبضت على ذراعها وقذفت بنفسي قذفة شديدة إلى جهة الصخور. فإذا البدن يرتفع قليلًا كأن العمق أقل. ثم جذبت الذراع قليلًا ووثبت وثبة أخرى نحو الصخور، وأمسكت بنتوء فيها وجذبت نفسي إليه حتى اقتربت بذلك البدن إليه. ثم تمكنت من الصعود إلى ذلك الصخر وأصعدت ذلك البدن، فإذا هو بدن امرأة. يالله! هل جنيات البحر كالبشر؟ وهذه الملابس المبتلة، إنها من نسيج البشر. غريب! أصعدت الجنية إلى الصخر تمامًا وهي واهية القوى لا تكاد تستطيع حراكًا. وإنما استغربت أمرًا وهو أني رأيت سلسلة تقيد القدمين ومعها قطعة من الحديد مرتبطة بالسلسلة. الله، ما هي جنية! إن هي إلا بشر كريم.

وكان الثاني يسمع مبهوتًا، فاختلج وقال: امرأة هي؟ لا ريب أنها مرأة.

– نعم، إنها مرأة بنت حواء. وأول ما خطر لي حينئذٍ أنها أغرقت نفسها عمدًا وكان الحديد والسلسة لأجل تثقيلها حتى لا تعوم. والظاهر أنها كانت تنتفض في القعر فتظهر فوق الموج. ثم تغوص. فأسرعت ورفعت ساقيها إلى فوق وأفرغت ما دخل من الماء إلى صدرها، واجتهدت في الحال بإعادة التنفس إليها.

عاد التنفس في الحال. وجعلت أدلك صدرها حتى أرد لها شيئًا من الحرارة. فتحركت ثم جلست. فقلت لها: يجب أن نذهب حالًا من هنا.

فما أجابت بكلمة قط، وإنما شعرت أنها لا تسطيع النهوض. فما ترددت أن احتملتها على منكبي ومشيت بها وأنا لا أحسب حسابًا للعواقب. في وقت قصير جدًّا وصلت إلى بيتي. ليس عندي أحد في البيت. دخلت إليه بها، وألقيتها على المقعد ونزعت بعض ملابسها، وألقيت عليها لحافًا وحِرامًا من الصوف، ثم أوقدت النار، وجئتها بكأسٍ من الكنياك ممزوج بالماء، وكنت أجرعها كل هنيهة جرعة، وأفرك يديها وذراعيها وقدميها، حتى دفئت قليلًا وصارت تستطيع أن تتحرك. فجئتها بدثارٍ من الصوف وبقميصٍ من الفلانلا وألقيتهما إلى جنبها، وقلت لها: قومي إني أتركك وحدك هنا ريثما تبدلين ملابسك. فتركتها ودخلت إلى مخدعي وجعلت أبدل ملابسي المبتلة. إلى أن انتهيت. فكلمتها من وراء الباب فلم تجب. ففهمت أنها لا تزال في حالة ونًى. فدخلت وكانت الغرفة قد دفئت جيدًا، فجرعتها جرعة من الكنياك. وتأملت ذلك الوجه تحت النور فإذا بي أرى ملاكًا. إذا قلت لك: إني كنت أرى وجه ملاك فلك أن تتصور ما تشاء من لطف الملائكة وأخلاقها. شعرت أن كل عواطفي الطيبة تجسمت فيَّ في تلك الساعة، وكل طبائعي الشريرة انتفَت. أصبحت قديسًا بكل معنى الكلمة. ركعت لديها وهي لا تزال في سباتها ولكنها تتنفس تنفسًا طبيعيًّا مطمئنًا. جثوت لديها وحدثتني نفسي أن أقبلها، فجزعت من هذه الفكرة وقلت: ويحك يا إنسان، لا تدنس طهارة الملائكة. فارتددت ثم قلت: أقبل يدها! كلا. لا فرق بين اليد والوجه. إذن أقبل رجلها! لا، لا. لا فرق بين الرجل واليد. فبقيت جاثيًا أتأمل ذلك البهاء الغريب العجيب. ثم تنهدت وتململت وفتحت عينيها قليلًا، وتنهدت ثم جعلت تبكي.

وكان الثاني يسمع مدهوشًا وهو يترنح كل هنيهة بعد أخرى في مكانه ويختلج لكل كلمة يسمعها، فقال: ويحك يا هذا! هل أنت مختلق حكاية أو تروي حقيقة؟

فتمرمر الأول وقال: أبعد كل هذا الذي رويته لك تقول لي إني مختلق حكاية؟ قبحًا لك، هل تحسبني مازحًا في أقدس أخباري وحوادثي؟

– عفوًا وعذرًا يا صاحبي. إن ما تقوله غريبٌ جدًّا، يكاد يتوهمه الإنسان رواية تخيلية.

فاستأنف الأول الكلام وقال: جعلت تبكي بكاءً مرًّا، فقلت لها: ثقي يا سيدتي أنك في مكانٍ أمينٍ وفي منزلٍ حصينٍ، ليس منزلك أكثر تحصنًا منه، وأنت فيه صاحبة الأمر والنهي المطلقين. فلا توجسي شرًّا.

فقالت بصوت خافت: ويلاه. أين أنا الآن؟

فأجبت: في منزل عبدك هذا. ومنذ هذه الدقيقة أصبح المنزل تحت أمرك وصاحبه خادمك الطائع، والمنزل أمين وليس أحد يعرف أنك هنا سواي.

فتململت وقالت: من جاء بي إلى هنا؟

فقلت: عبدك الجاثي أمامك.

– لماذا جئت بي إلى هنا؟

– لم أعرف أين تريدين أن تذهبي يا سيدتي فكنت آخذك.

فظهر عليها التمرمر وقالت: ولكن لماذا جئت بي؟ لماذا؟

– مولاتي! ماذا كنت تنتظرين مني أن أفعل؟

– أين كنت أنت؟

– أنا كنت هناك أيضًا.

– ماذا كنت تفعل؟

– الأقدار ساقتني إلى هناك ثم وجدتك تتخبطين في الماء فانتشلتك.

فتأففت وقالت: من قال لك أن تنتشلني؟

– العواطف الإنسانية يا سيدتي.

فقالت متألمة: آه. ويلاه! ما الذي جاء بك في تلك الساعة إلى هناك؟

فاستغربت أمرها كل الاستغراب، وقلت لها: هل أسأت السلوك؟

– نعم. لقد تعرضت لما لا يعنيك.

فصحت: ويلي، ويلي! ما خطر لي أني أجني بهذا التعرض عليك يا سيدتي. فسامحيني!

– يجب أن تردني إلى حيث وجدتني.

فانتفضْتُ وقلت: ويلاه! أما أنت بشر؟

– نعم، أنا امرأة من البشر وحرة فيما أفعل، وأريد أن أعيش في قعر البحر. لقد أسأت لي إساءة عظيمة يا هذا. يجب أن تدعني الآن حرة.

وحاولَت أن تنهض فخانتها قوتها. فقلت لها: لا تقدرين أن تخرجي الآن.

فقالت ساخطة: شرعت تتعرض لحريتي منذ الآن.

– كلا، لا أعارضك يا سيدتي. وإنما تمهلي ريثما تستطيعين الخروج.

– أنت تأخذني كما جئت بي.

– إني سأفعل يا سيدتي كما تقولين، وإنما أوشك الصبح أن يأتي فقد يصادفنا أحد فيسلمنا للبوليس.

فتململت وقالت: أف. أف! لقد أسأت إليَّ يا هذا إساءة عظيمة. والآن تقيم العقبات في سبيل عودتي.

– أعترف أني أسأت إليك يا سيدتي وقد حدث الذنب. فأمهليني إلى الليلة التالية فأنفِّذ أمرك هذا حين لا خوف من أن يرانا أحد.

فتململت تململًا شديدًا وسكتت هنيهة، ثم قالت: ما الذي ذهب بك إلى تلك الصخور في وسط هذا الليل؟

– ذهب بي ما ذهب بك.

– ماذا كنت تفعل هناك؟

– كنت أفعل مثلما كنت تفعلين. كنت أختبط مثلك في الماء مقدِّمًا نفسي قربانًا لآلهة البحر أو جنياته. ثم اشتبهت بأن الشبح الذي يختبط بشر لا جن، فجاهدت حتى رفعتك إلى البر. فوجدت قدميك مثقلتين بحديدة وسلسلة. ففهمت أنهما مثقلان عمدًا لكي تغرقي. وبالطبع أول ما لاح لي أن شخصًا أو أشخاصًا فعلوا كذلك بك عمدًا لكي يغرقوك.

– يالله! أما رأيت يدي مطلقتين. لو كان ذلك فعل آخرين يريدون أن يجنوا عليَّ جناية لكان أقل ما يفعلونه أنهم يوثقونني جيدًا ويثقلون جسمي.

فقلت: إذن أنت تتعمدين إغراق نفسك؟

– طبعًا.

– هل كان أحد هناك؟

– يستحيل أن يكون أحد غيري هناك؛ لأني قصدت إلى حيث لا يكون أحد. أين السلسة والحديد؟

– ما زالا على الصخور.

– إذن دعني أذهب إلى هناك.

– قلت لك يا سيدتي السبب في عدم صواب خروجك من هنا في آخر الليل. فأنت حرة. لا أستطيع أن أعارضك.

فسكتت هنيهة، ثم قالت: إذن رأيك أن أبقى هنا إلى الليلة الآتية، وهل تكتم كل شيء؟!

– قلت لك: إني مأمورك الأمين.

وكانت قد انتعشت واستعادت جانبًا من قوتها، وصار صوتها أفصح لفظًا وجعلت مقلتاها تضطربان في وقبيهما، وبدأ يظهر شيء من اضطرابها وقلقلها.

ثم قالت: إذن قم وامض إلى الصخرة وعد بالسلسلة والحديد. لا أريد أن يعثر عليهما أحد.

– حسنًا. وإنما أرجو أن تعديني بألا تفارقي هذا المنزل في غيابي.

– طبعًا، لا أخرج منه. لقد اتفقنا على أن أؤجل رحلتي النهائية إلى البحر إلى منتصف الليلة القادمة.

– حسنًا. وأنا ذاهب معك الليلة القادمة.

– لماذا؟

– لكي أنجز عملي. ويسرني أن أجد رفيقة تقدم نفسها معي قربانًا لآلهة البحر.

– حسنًا. إذن أسرع الآن وعد بالسلسلة والحديدة، وأنا أنتظرك هنا وأكون ضيفتك غدًا فقط.

– في دقائق معدودة أعود. هنا جنبك قميص صوف ودثار وجوارب، وإن كنت تحتاجين إلى شيء آخر فقد تجدين في الغرفة الأخرى.

وخرجت وأوصدت الباب بالمفتاح وأنا خائف أن تمكر عليَّ وتأتي بنفسها أمرًا إدًّا. فأسرعت إلى الصخرة ثم عدت بالسلسلة والحديدة، وفي نحو ١٥ دقيقة كنت في البيت ثانية. فإذا هي قد خلعت ملابسها وتدثرت بالدثار الذي تركته لها، وجعلت تجفف ملابسها أمام الموقد. وكانت أمائر الأسى بادية على وجهها كأن غمًّا مخيمًا فوق صدرها.

وكان السجين الثاني يسمع ويختلج حسب حوادث الحكاية، فقال: أما سألتها: من هي وما اسمها؟ وبنت من؟ ولماذا؟

فقال الأول متبرمًا: أو هل تظنها يا غبي تجيب على هذه الأسئلة؟ وما الفائدة من سؤال ليس له إلا جواب واحد وهو «ليس ذلك من شأنك» مثلًا. ولذلك كنت أحاورها محاورة في الخطاب حتى أستخرج منها أسرارها باختيارها لا باضطرارها. فقلت لها: أظنك تأخذين الآن كأسًا من اللبن.

وناولتها الكأس ثم قدتها بيدها إلى المقعد، وجلست على كرسي لديها وقلت: بعد قليل تأخذين إذا شئت كأسًا أخرى مع صفار البيض فيشدِّد فؤادك.

فقالت: وما حاجة الراحل إلى جنيات البحر بالطعام البشري؟

– لكي تقويك في الطريق إلى البحر.

ثم تنبهت إلى أمر فسألتني: هل يكون خادمك هنا في النهار؟

– ثقي أني سأدفع له أجرته في الباب وأقول له: إني مسافر ولن أعود.

– بل قل له أن يعود غدًا. فلماذا تتركه؟

– أما اتفقنا على السفر معًا إلى دار جنيات البحر؟

– لا لا. افتكرت أنه لا يليق بي أن تُرَى جثتي مع جثة شخص آخر، ولا سيما إذ لا علاقة لي بهذا الشخص.

– صدقت. لا يليق. إذن أعدك أني أدعهم يرون جثتي في شاطئ آخر بعيد.

– ولماذا تفرط بنفسك وما زلت في شرخ شبابك؟

– ولماذا أنت يا سيدتي تفرطين بشبابك وأنت في الدور الملائكي السامي؟

فتململت وقالت: هذه مسألة أرجو أن تتحاشاها. ثم هل تعرفني من قبل؟

– كلا يا سيدتي. وما زلت لا أعرفك.

– حسنًا. أودُّ ألا تبحث عن هويتي بتاتًا.

– لا أبحث. ثقي أني لا أخالف لك أمرًا.

– في أي حيٍّ نحن الآن؟

– في حي كذا.

فقال الثاني على الفور: في أي حي منزلك؟

فقال الأول: هذا السؤال مثل قولك: ما اسمك ومنزلك وصفتك … إلخ.

فقال الثاني: عذرًا يا سيدي. لقد وقع مني هذا السؤال سهوًا بسبب تسلسل الحديث. إن حكايتك يا سيدي مؤثرة، ثم ماذا؟

– فقالت: أخاف أن يعرف بي الجيران.

فقلت لها: لا أعرف أحدًا منهم ولا يعرفني أحد. وإذا شئت فننتقل من هنا بعدئذٍ.

– متى بعدئذٍ؟ في النهار لن أخرج من هنا. وفي الليل إلى الصخور.

فقلت: صدقت. لم يبقَ من العمر إلا يوم.

فقالت: ولكني مستغربة لماذا تريد أن تغرق نفسك؟

– عندي سبب يوجب الانتحار يا سيدتي.

– أينتحر شاب مثلك مستقل حر يستطيع أن يفعل ما يشاء؟

فقلت متوسمًا حسن المستقبل: هل أستطيع أن أجبر شخصًا على أن يحبني؟

– إذن قصتك قصة حب.

– وهل ينتحر الرجل لغير الحب يا سيدتي.

– ولماذا تجبر شخصًا على حبك؟

– لأني أحبه.

– ولماذا تحب من لا يحبك؟

– ليس هذا في اليد يا سيدتي. الحب سلطان لا يقدر أن يعصاه إنسان.

– وهل إذا لم تحبك من تحبها تنتحر لأجلها؟

– لا. لست أنتحر لأجلها بل أنتحر لأني جربت كل علاج لكي أنساها أو أبغضها أو أشفى من حبها فلم أجد علاجًا ناجعًا غير الانتحار.

– إذن ما زلت تحبها حتى الآن.

– كلاَّ يا سيدتي. بل بقيت أحبها إلى أن رميت بنفسي في البحر، ثم عدت منه فإذا بي شفيت من حبها.

– حسنًا. إذن لماذا تزمع أن تغرق نفسك الليلة القادمة في البحر؟

– لأني أصبت بحب آخر أصعب من الحب الأول.

فأغضت نظرها وابتسمت، ثم قالت: هذه مداعبة في الحديث يا صاح.

فقلت لها: أقسم بالله العلي العظيم إني مغرق نفسي في البحر الليلة القادمة إذا كنت أنت ترمين بنفسك فيه.

فقالت: تظلم نفسك بلا سبب. لا أعرفك ولا تعرفني. فلا شأن لك بي.

– لست أدعي أن لي بك شأنًا يا سيدتي. إن تعرضت لك بأمرٍ كان لك عليَّ حق المجني عليه على الجاني.

– إذن لماذا تنتحر إذا أنا انتحرت؟

– ألست حرًّا يا سيدتي بحياتي؟

فسكتت برهة. ثم قالت: هل كانت حبيبتك تعلم أنك تنتحر بسببها؟

– نعم.

– عجبًا. ولماذا لم تحبك؟

– لسبب ليس مني … دعينا من ذكر الأسباب. أحمد الله أني شفيت من حبها.

•••

انقضى الليل وجاء الصباح، وضيفتي انتعشت تمامًا واهتمت بطعامها اللطيف، وبذلت جهدي في تلطيف ثورتها النفسية ما استطعت إذ كان قلقها عظيمًا واضطرابها شديدًا. حاولت أن أتحقق ما بها فلم أستطع أن أفهم شيئًا. تحايلت عليها حتى أعلم من هي فلم تبح بشيء عن شخصيتها. وإنما ظواهرها تدل على أنها ذات نبل وأدب وعلم أيضًا. لم يوجد معها شيء يدل على شخصيتها أو منزلتها سوى خاتم في إصبعها ثمين وسوارين نفيسين. ملابسها اعتيادية الزي وإنما هي ثمينة المادة. حيرني أمرها.

فقال الثاني: كم عمرها بالتقريب؟

– شابة وأرجح أنها عذراء. وقد قضت كل النهار وهي تتضجر لطوله. وكانت تسخط كلما لاح في بالها أنها لم تنته من مهمتها أمس. وأخيرًا قلت: لماذا تخسرين حياتك يا سيدتي مجانًا؟ ومهما كان من تبذلين حياتك بأجله عظيمًا فحياتك أثمن. ومهما كان السبب الذي حملك على الانتحار قويًّا عظيمًا فيمكنك أن تتحايديه.

فحاولت الابتسام في إبان غمها وقالت: عجبًا! لماذا لم تقل لنفسك هذا القول؟

– أقول لك الحق، لقد كنت على ضلال وقد عدت إلى رشدي الآن. لقد كان الحب قبلًا يزين لي أن حياتي قد أصبحت عبئًا على نفسي وأني ما دمت حيًّا فأنا معذب بسبب هذا الحب. أما الآن فصرت أرى أن الحب مهما كان عذابًا فهو عذب ومهما كان شقاءً فهو سعادة. فلذلك صرت أود أن أعيش لأشقى بالحب.

فتململت وقالت: إن مسألتي تختلف عن مسألتك يا سيدي. إن حياتي أصبحت مرَّة لخلوها من الحب.

– غيِّري مجرى حياتك وحوليها إلى مجرى الحب وعيشي سعيدة، إذ لا سعادة إلا بالحب.

فانتفضت وجعلت تنتحب وتقول: يستحيل. يستحيل! هل تظنني أعود إلى قومي وناسي وأعيش سعيدة بعد هذه الغيبة الوحيدة التي غبتها عنهم في كل حياتي. آه، لا أدري ماذا هم فاعلون الآن؟ لا ريب أنهم أقاموا الدنيا وأقعدوها بالبحث عني آه، متي ينتهي هذا النهار وأفارق هذه الحياة فلا أعود أشعر ولا أعلم بما يكون بعدي؟

وهنا شعرت أني قد ملكت ناصية الأمل، فقلت لها: لكل كربة فرج، ولكل أزمة حل يا سيدتي. وأزمتك سهلة الحل جدًّا.

فنظرت فيَّ نظرة المتضرع، كأنها تؤمل أن تجد فرجًا لكربها في رأيي، وقالت: كيف؟

فقلت: إنك يا سيدتي حاولت الانتحار لكي تهربي من مصيبة أو أزمة أو شقاء، وصرت تستصعبين أن تعودي لقومك وأهلك.

– نعم، فقد اشتدت أزمتي بعد أن حُلْتَ أنت دون انتحاري.

– لا أنكر ذلك، وأشعر باشتداد أزمتك. فأنت قد فارقت أهلك خلسة لكي تنتحري، فاعتبري أن الانتحار قد تمَّ وأنك غرقت، ولم تعودي أنت فلانة بنت فلان، بل أنت شخص آخر. أنكري شخصيتك القديمة وانتحلي شخصية جديدة، كما فعلت صديقتي التي حملني جفاؤها على الانتحار.

فأمسكت عِنان نفسها وكفت عن البكاء، وقالت كأنها ترعوي: لكن الذين يعرفونني إذا رأوني.

– تقدرين أن تعيشي في جهة لا يعرفك فيها أحد. وتغيرين كل شيء في أزيائك. اجعلي النقاب كثيفًا قليلًا، شعرك فاتح فأكثري سواده أو اجعليه ذهبيًّا. على أنك لا تضطرين أن تفعلي شيئًا من كل هذا إذا عشت بعيدة عن قومك.

وكانت تسمع الكلام مفكرة كأن الفكرة وجدت في ضميرها اقتناعًا. ثم قالت: ولكن أهلي يظلون يبحثون عني؛ لأنهم لا يجدون لي جثة لكي يقتنعوا أني انتحرت.

فقلت: أوهو … هذه مسألة بسيطة جدًّا جدًّا. ندعهم يعثرون عند الصخور على ملابسك وعلى السلسلة والحديد المثقل لبدنك. وإذا وجدوا الملابس ممزقة قالوا أن حوتًا أخذ جثتها وأكلها وبقيت بقايا ملابسها.

فقالت على الفور: فكرة حسنة، ولكن … وتوقفت عن الكلام، فاستأنفت أنا قائلًا: إذن في منتصف الليل آخذ ملابسك وأمزقها بعض التمزيق، والسلسلة والحديد وأبعثرها كلها في البحر على بعد من تلك الصخور. من تاريخ الغد تصبحين في يقين ذويك ومعارفك فريسة الجنيات وروحك في الأبدية. وأما أنت كما أراك الآن فتصبحين شخصًا جديدًا بِاسْمٍ جديدٍ وحياةٍ جديدةٍ. وتعودين إلى الحياة البشرية حرة تفعلين ما تشائين. فقد تجدين السعادة التي تنشدينها. لماذا تموتين مجانًا بلا ثمن وليس من يحسب هذه التضحية لك؟

ففكرت هنية ثم قالت: ويحك يا هذا! إنك تقترح عليَّ مشروعًا هائلًا يحتاج إلى عصب أقوى من أعصابي، بل إلى قلب أقوى من قلبي.

فبادرتها بالرد حالًا قائلًا: لا تنسي يا سيدتي أني وضعت نفسي تحت سلطانك بلا مكافأة ولا تمنين. فما يحتاجه مشروعك هذا من الأعمال الرجلية أسرُّ بأن أعمله ولا أقبل أي ثمن له. فلك أن تختاري المنزل الذي تريدينه وأنا أقوم بجميع النفقات.

فصاحت: يستحيل. يستحيل. لا أسكن مع رجلٍ ولا مع أحدٍ قط.

– حلمك يا سيدتي. لست أقول: إنك تسكنين معي أو مع غيري. تسكنين وحدك وتنفقين من يدك.

فقالت: شكرًا لهذه العواطف، ولكني لا أدري لماذا تفعل هذه المكرمة مجانًا؟

– لست أفعلها مجانًا يا سيدتي. إن لذتي بمجرد فعلها وحده خير مكافأة لي.

فقال السجين الثاني: لله درك من داهية في سياسة الحب!

فقال الأول: بالطبع يا صاح. لا أقدر أن أكسب فتاة طاهرة كهذه ما لم أكسب قلبها أولًا. ولا أقدر أن أكسب قلبها إلا من طريق التضحية لأجلها. بعد مناقشة طويلة بهذا الموضوع سلمت بتنفيذه كما اقترحته. وفي منتصف الليل كنت في البحر عند الصخور أسبح مبعثرًا بعض ملابسها الممزقة هنا وهنالك. ثم عدت بسلام معتقدًا أني قد ملكت ذلك الملاك الطاهر. وفي اليوم التالي استأجرت لها منزلًا صغيرًا في مكانٍ بعيدٍ عن الشبهة، وأخذتها إليه في السهرة، وهي ادَّعت لمن يراني أتردد إليها أني أخوها. ومنذ ذلك الحين هي صارت شخصًا جديدًا وأنا صرت شخصًا جديدًا أيضًا.

فقال الثاني، مهتمًّا بالتساؤل: وماذا كان من أمر أهلها؟ أما عرفت؟ أما قرأت في الجرائد؟

– لم أعرف شيئًا ولم أقرأ شيئًا؛ لأني كنت كل الوقت منهمكًا بتدبير أمورها.

فقال الثاني وهو قلق، كأنه يريد أن يعرف النتيجة: وفزت أخيرًا بحبها إذن؟

– نعم، شرعت أكسب رضاءها؛ لأنها وطنت النفس على أن تعيش متناسية ذويها ومجددة حياتها، وصارت عشرتها أنيسة أكثر من الأول.

فقال الثاني ملحاحًا: إذن ظفرت أخيرًا بقلبها، هل أحبتك؟

– صه يا هذا. لما أوشكت أن أنال عطفها ورضاها حدث هذا الحادث المشئوم الذي قذف بي إلى السجن.

فتنهد الثاني وقال متلعثمًا: إذن لم تساكنها.

– لا، بقيت بعيدًا عنها أزورها في المواعيد التي عينتها لي في عصارى النهار. وأحيانًا كنت أخرج معها مساءً لنزهة ثم نعود في أول السهرة، فأودعها عند الباب وداع الأخ للأخت وأعود.

فقال الثاني وصوته يتهدج قليلًا: إذن لقد كنت كالأخ الأمين لها. كسبت محبة الأخت منها ليس أكثر.

– بل كدت أكسب محبة العشيقة لولا هذه المحنة. بل أقدر أن أقول: إني كسبت محبتها تمامًا ولكن …

وهنا أجهش السجين الأول وقال: آه. لا أدري كيف حالها الآن؟ لقد تركتها وليس معها إلا نفقة شهر، وهي ممن يقلقون للمستقبل.

– قلت: معها خاتم وسوارين فتستعين بهما.

– أظنها لا تجسر أن تبيعهما مخافة أن ينمَّا عن شخصيتها.

فقال الثاني مؤنبًا: أتكون عاشقًا ملاكًا كريمًا كهذه ثم ترتكب جناية كهذه؟ ما هذا الطيش؟ إن عاشقًا مثلك يجب أن يكون حذورًا جدًّا لا يعرض بنفسه للتهلكة حرصًا على راحة عشيقته.

فجعل السجين الأول ينتفض غيظًا ولم يتكلم كلمة، بل كان يجهش بالبكاء كالطفل. وبعد هنيهة قال الثاني: أستغرب أنك تفعل هذه الفعلة وأنت عاشق، ثم تصر على إنكار رفاقك، على أن الإقرار يفيدك إذ يُعفى عنك ويُطلَق سراحك.

– والله يا سيدي لا رفاق لي ولا أنا مدفوع من أحد.

– ولا جمعية فوضوية؟ ولا مؤامرة سرية؟ إذا كان ثمة شيء من ذلك فأخبرني لعلي أستطيع أن أبدي لك رأيًا مفيدًا تجهله.

– والله وتالله وبالله لا مؤامرة ولا جمعية سرية ولا فوضوية ولا أنا من هذه الفئة من الناس.

– لعلك تخاف انتقام شركائك.

– لا لا. ألا تفهم ما أقوله لك بصراحة أن لا شركاء لي، ولا أخاف انتقامًا! وهل أنا في خطر منهم أكثر مني الآن وأنا في قبضة الحكومة؟ قد يمكن أن أفر من وجه نقمتهم إذا خرجت من السجن، وأما من السجن فلا أستطيع الفرار.

– والحكومة تحميك من نقمتهم، وأقل ما تفعله أنها تسهل لك طريق الفرار منهم إلى بلاد أمينة.

– أنا أعلم ذلك جيدًا، ولهذا ما كنت أسكت عن الإقرار لو كان لي شركاء أو كنت عضوًا في جمعية فدائية.

فقال الثاني ساخطًا: إذن كيف تقدم على ارتكاب هذه الجناية يا حمار وأنت متعهد بواجبات نحو فتاة تحبها وتطمع بحبها وقد غررت بها؟ كان أحرى بك أن تدعها في البحر تغرق من أن تعرضها لفضيحة عتيدة. لا ريب أنك مجنون. لا أفهم لماذا ترمي قنبلة على مصطفى باشا كمال. هل لك من ثأر عليه؟

فتمرمر الأول وقال: كلا البتة. دعنا من هذا الحديث يا صاح دعنا!

– كيف أدعك يا بغل. لا أنت مكلف من قبل جمعية فدائية، ولا أنت شريك مؤتمرين في مؤامرة، ولا لك ثأر على مصطفى باشا، وأنت عاشق ومعشوق وكنت على وشك الحصول على حب حبيبتك. فلماذا إذن ترتكب الجناية يا جاهل؟

– اسكت يا هذا، اسكت، كل هذا الذي تراه من التناقض سببه الحب. إن سلطان الحب ظالم غشوم.

– لا أفهم معنى هذه السخافة.

– طبعًا لا تفهم. لا تفهم كيف الحب يحكم؟ وكيف العاشق يحب أن يطيع؟ الحب كالنوم المغناطيسي.

– أظن حبيبتك غررت بك. فأحرجتك لارتكاب هذه الجناية. لعلَّ لها ثأرًا على مصطفى كمال.

فقاطعه الأول مضطربًا وقال: لا لا لا. دعنا من هذا الحديث. لقد أخطأت في أن رويت لك قصة كهذه. دعنا من هذا الحديث يا سيدي.

وجعل يثور تغيظًا ويهيج تغضبًا، فكان تارة ينحب وأخرى يغضب. فسكت الثاني صابرًا. وبعد برهة طويلة قال الثاني: خطر لي خاطر يا صاحبي: إذا كنت تؤكد للمحقق أني لست شريكك في الجناية ولا تعرفني ولا أعرفك، فأنا أسعى لمقابلة حبيبتك من قِبَلِكَ وأخدمها وأقدم لها حاجتها، ونسعى كلانا فى إنقاذك.

فضحك الأول في إبان حزنه وغمه وقال: أمَّا أني أؤكد لهم أنك لست شريكي في الجناية فهذا سأفعله بلا قيد وشرط ولا تمنين؛ لأني إذا أقسمت على ذلك لا أكون كاذبًا. وأما أنك تذهب إليها من قِبلي فهذا هو الرأي الأخرق الذي يدفعها ثانية إلى البحر. فلا تتعب نفسك يا صاح.

•••

بعد حين استدعاهما المستنطق. وكان أول ما فعله السجين الأول أن أقسم أن الثاني ليس شريكه في الجناية. فأطلق المستنطق سراحه. وأعاد الكرة في الاستنطاق على الأول، فعاد إلى خطته الأولى من حيث التكتم عن سبب ارتكابه الجناية. فردوه إلى السجن.

لا بد أن يكون القارئ قد أدرك أن السجين الثاني هو أمل الدين أو رجاء باشا، وكان سجنه حيلة لاستخراج الحقائق من ضمير رامي القنبلة، وأن الفتاة هي نميقة بنت البرنس سناء الدين. وهنا يسائل القارئ نفسه: إن صح أن الفتاة أحرجت هذا الرجل أو غررت به ليقتل الغازي كما ظن رجاء، فما السبب يا ترى؟ سترى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤