الفصل الرابع عشر

المعركة الفاصلة

في ذلك المساء زار رجاء الدين أفندي مصطفى باشا كمال، فوجده باشًّا أكثر من قبل، ولكنه لا يخلو من شيءٍ من القلق. فقال له: كيف الحال يا باشا؟

– لم يبقَ شك في النجاح؛ لأن أكثرية المجلس أصبحت معنا على كل حال.

– وهل أنت واثق أنه لا يبدو شيء من غامض علم الله يقلب أفكار المجلس أو يعرقل الاقتراح؟

– الكل مقتنعون بصواب إلغاء الخلافة، وهو الأمر الجوهري.

– وهل تسمح ببقاء آل عثمان في البلاد؟

– متى ألغيت الخلافة سهل طردهم.

– وهب أن نورًا من البينات على براءتهم سطع في جو أنقرة غدًا، فهل تستطيع أن تحجب هذا النور بكفيك؟ وإذا لم تستطع أن تحجبه فلا تقدر أن تطردهم. وإذا لم تطردهم بقي ظل الخلافة كالخلافة نفسها يهدد إمبراطوريتك.

– ويحك يا رجاء. ألا تدع المزاح؟ وما الذي حملك على هذا التخوف؟

– أما سمعت فوزي باشا يقول: إن عنده معلومات جديدة؟

– لله درك! تنتبه لكل كلمة. فماذا يمكن أن يكون عنده من المعلومات يا رجاء؟

وظهر قلق مصطفى باشا بالرغم من مكابرته، فقال له رجاء: لا أدري. وإنما الحكيم من حسب الحساب للصغيرة كالكبيرة. فهو يقول: إن عنده معلومات جديدة، فلماذا لم يقلها في الحال؟

– ماذا تظن في تأجيله قولها إلى الغد؟

– أظنه ينتظر معلومات جديدة غدًا؛ ولذلك يجب أن تتحقق إن كان فوزي على اتصال مع بعض الأمراء سرًّا.

– كيف يمكن تحقيق ذلك؟

– يجب أن نبحث في البريد والتلغراف. يجب أن نخترق كل قانون الآن. يجب أن نحجز رسائل فوزي والتلغرافات التي ترد إليه.

– صدقت يا رجاء، صدقت. يجب أن أعرف أشياء الليلة.

وفي الحال طلب مصطفى باشا مأموري التلغراف والبريد، وسألهما أسئلة مختلفة وأمرههما أن يأتيا بكل رسالة ترد لفوزي ورفاقه. وبعد ساعة عاد إليه مأمور التلغراف بهذه الرسالة البرقية بلا إمضاء:

فوزي باشا. تصلكم المعلومات اللازمة غدًا مع مندوب خاص.

فلما اطلع مصطفى كمال عليها اضطرب، وفي الحال أوعز باستدعاء رجاء الدين أفندي. فلباه هذا كالبرق الخاطف.

فلما جاء قال له مصطفى باشا: هل كنت تعلم شيئًا يا رجاء أو أنك نبي؟ اقرأ هذا التلغراف.

فلما اطلع رجاء على التلغراف دهش، وقال: ماذا فهمت من هذا يا باشا؟

– أخاف أن تكون دوقتك خانتك وهي التي أرسلت هذا التلغراف لفوزي، وقد أرسلت له حججًا ضدنا؟

– لا لا. دوقتي لا تستطيع أن تحنث بيمينها؛ لأنها تعلم أن وراء الحنث عذابًا أليمًا ولو كانت في زحل.

– إذن ما رأيك؟

– لا أدري. وإنما يجب اتخاذ الاحتياطات وإلا فضحتنا معلومات فوزي المنتظرة، وقلبت عرش الإمبراطورية الذي نبنيه.

فانتفض مصطفى باشا وقال: ويحك! كيف ذلك؟

– لقد ارتكبت جرمًا عظيمًا بتأجيل الاقتراع، لظنك أن الأكثرية مضمونة لك. ولكن إذا ظهرت المعلومات فلا يبعد أن تنقلب الأفكار والآراء.

– ويحك! وما العمل إذن؟

– يجب أن تزوِّدني بكل سلطة وحق في أن أستقبل القطار الحديدي القادم غدًا في أي مكان قبل أن يصل إلى أنقرة؛ لأني أظن أن المعلومات التي ينتظرها فوزي آتية مع رسول في قطار الغد.

– هذا أمر سهل.

– وأرجو أيضًا أن تكون معي سلطة بوليس فوق كل سلطة بوليسية.

– لك ذلك أيضًا. بعد ساعة.

– حسنًا جدًّا. إذن أعدك بالفوز التام.

•••

في اليوم التالي انعقدت الجلسة في المجلس الوطني الكبير. وافتتح فوزي باشا المناقشة بإلقاء خطبة، كان يرد فيها على جميع النقط التي ذكرها أعداء الخلافة. وكان المحافظون يصفقون له والأحرار يضحكون تارة ويهزءون أخرى. وأخيرًا جعل بعضهم يقولون: لقد اكتفينا من المناقشات، نريد الاقتراع! الاقتراع! الاقتراع!

فصاح فوزي باشا قائلًا: قلت لكم أمس: إن عندي معلومات خطيرة الشأن ستصل في هذه الساعة، وستظهر لكم حقائق فتغير كل يقينكم. أفلا تصبرون ساعة!

فصاح بعضهم: لقد صبرنا وكفى. فهمنا معلوماتك. نريد الاقتراع.

وحدث لغط واضطراب في المجلس، فوقف زكي بك نائب كموشخانة، وارتقى على المنبر وقال: «إن الوقت لم يحن بعد لإلغاء الخلافة، وليس هنالك مناسبة بين الثورة الفرنسوية الكبرى والانقلاب الذي نحن أحدثناه. وهنالك أعمال كثيرة اقتصادية وسياسية يجب علينا أن نقوم بها قبل إلغاء الخلافة.»

ولما سمع رجال الأكثرية هذه الأقوال انهالوا على الخطيب بالأقوال الجارحة. وقامت ضجة عظيمة في المجلس، فكان القوم يقاطعون الخطيب ولا يمكنونه من الكلام، وقال له بعضهم: انزل عن المنبر، اسكت!

علي رضا بك : أنت صديق الداماد فريد باشا.
زكي بك : وأنت الذي كنت تتجر باحتكار قوت الفقراء أثناء الحرب بقوة الحكومة!

وقال إحسان بك نائب جبل بركت: وأنت كنت جاسوسًا!

وازداد الهرج والمرج في المجلس، وجعل الأعضاء يضربون بقبضات أيديهم وبأكفهم على المناضد التي أمامهم. وبصعوبة عظيمة تمكن الرئيس من إعادة السكينة. فاستمر زكي بك في كلامه، ومما قاله: «إن الميثاق الذي أعلنه حزب الشعب وقانون التشكيلات الأساسية الذي قام عليه هذا المجلس لا يجيزان لنا إلغاء الخلافة. فيجب عليكم أن تعودوا إلى التصويت على هذه المسألة.»

عند ذلك حدثت جلبة واشتدَّ اللغط وجعل بعضهم يصيح: الاقتراع! الاقتراع!

فصاح فوزي باشا: لقد وعدتكم بمعلومات جديدة.

فصاح آخرون: لقد انتهت الساعة ومعلوماتك لم تظهر.

فقال: لم يزل باقيًا نحو نصف ساعة من الوقت. أفلأجل نصف ساعة تضيعون حقائق وحقوقًا!

وجعل يصيح. فاقترح بعضهم أن تتوقف الجلسة نحو نصف ساعة هدنة. فتوقفت. وسرى بين الجمهور لغط شديد في ماذا عسى أن تكون هذه المعلومات التي ينتظرها فوزي باشا؟ وتضاربت الأقاويل بشأنها، واضطرب الزعماء من الجانبين. وأما فوزي باشا فرؤي يهامس رسلًا من قِبله فيذهبون إلى المحطة.

انقضت الساعة أو وصل القطار الذي كان ينتظره فوزي باشا. وانعقدت الجلسة ثانية ولم يكن فوزي باشا فيها. وحدث الاقتراع فاقترعوا على إلغاء الخلافة، وتقرر إلغاؤها. كما تقرر طرد جميع آل عثمان من رجال ونساء إلى خارج البلاد في خلال عشرة أيام على الأكثر. أما المنسوبون إلى أمهات من آل عثمان لا إلى الأمراء فلم يعودوا من آل عثمان الذين جُرِّدوا أيضًا من صفة الوطنية التركية وحُرِموا من التصرف في أملاكهم الموجودة في تركيا. والذين تركوا الملك منهم تنتقل جميع أملاكهم إلى الخزينة.

وجميع قصور وسرايات وأملاك السلطنة الملغاة، وكل ما فيها من مفروشات ولوحات مصورة وآثار الفنون الجميلة وسائر الأموال، صارت ملكًا للأمة.

وقد وافق حزب الشعب في ذلك اليوم بأكثرية عظيمة على جميع ما تقدم من الأمور.

وعقد الحزب جلسة ثالثة، قرر فيها: فصل رئاسة أركان الحرب عن الوزارة، وفصل وزارة الأمور الشرعية عن الحكومة. فاعترض على هذا القرار الأخير كل من الشيخ عبد الله عزمي والشيخ موسى كاظم، فخطب رجب بك نائب كوتاهية مسفِّهًا رأيهما ومثبتًا أن قرار الحزب في هذه المسألة هو الصواب. وعلى ذلك تقرر إلغاء وزارة الأمور الشرعية والأوقاف أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤