الفصل الخامس عشر

البعث

ترى ماذا جرى للرسول الذي كان قادمًا إلى أنقرة ومعه المعلومات الخطيرة الشأن التي تبرئ الأمراء من التهم التي بنى عليها الكماليون حججهم في إلغاء الخلافة؟

تجد بيان ذلك في هذا الفصل العجيب.

القطار القادم إلى أنقرة حاملًا ركاب الآستانة يصل الساعة الرابعة بعد الظهر. ففي الصباح ركب رجاء الدين أوتوموبيلًا واتجه به إلى الجهة التي يأتي منها القطار، وانتظر في محطة تبعد عن أنقرة نحو ١٥٠ كيلومترًا تقريبًا. وانتظر هناك إلى أن وصل، فصعد إليه بصفة كونه راكبًا كسائر الركاب. ولما سار القطار قام من مكانه يتمشى من مركبة إلى مركبة كمن يبحث عن شخص افتقده أو عن مقعد يقعد عليه، حتى طاف جميع المركبات وشاهد كل الركاب، فلم يشتبه بأحد منهم كرسول لفوزي باشا. وكيف يشتبه؟ وهل لرسول فوزي باشا علامة خاصة حتى يستطيع أن يتحقق أنه هو؟

وبعد أن قدح زناد فكره طويلًا قصد إلى مفتش القطار، وقدم إليه ورقة قائلًا: أرجو منك أن تنفذ ما في هذه الورقة.

فنظر المفتش في الورقة مستغربًا اقتراح رجل من الركاب لا يعرفه، ورأى أنها من أوراق مصلحة السكة الحديدية، فتناولها وقرأ فيها هذه العبارة:

على أي موظف من موظفي السكة الحديدية متى قدمت إليه هذ الورقة أن يفعل ما يأمره مقدمها مهما كان. وله أن يطلب من مقدمها أن يكتب فيها شكل الطلب الذي طلبه منه. وعلى الموظف أيضًا أن يحتفظ بهذه الورقة لحين لزومها.

مدير مصلحة السكة الحديدية

فلما اطلع المفتش على هذه الكتابة، استغرب أمرها كل الاستغراب، وخشي أن يكون مقدمها محتالًا أو مزورًا. فقال له رجاء بلهجة السيد الآمر: هل فهمتها جيدًا، وهل تحققت إمضاء المدير؟

فجزع المفتش وقال: نعم. ماذا تطلب مني يا بك؟

– لا أطلب إلا ثوبك، أو على الأقل معطفك الذي يدل على وظيفتك، لأني أريد أن أفتش ركاب القطار. فلا تتردد في تنفيذ أمري. وها أنا أكتب لك صيغة أمري على هذه الوثيقة واحفظها معك حجة لك.

وتبادلا في الحال الملابس الكافية والأدوات اللازمة للتفتيش. وجعل رجاء يطوف على الركاب يفتش تذاكرهم، فمن رأى أن تذكرته تدل على أنه قادم من الآستانة كان يسأله همسًا: هل جنابك قادم إلى أنقرة لمقابلة شخص خاص؟

فقد يسأله صاحب التذكرة: «لماذا هذا السؤال؟» أو «أي شخص خاص؟» أو ينظر فيه مستغربًا ويقول: «لا».

فكان رجاء يتوسع في السؤال حسبما يتوسم من ملامح الشخص ومن جوابه. فقد يقول له: أعني هل أنت قادم لمقابلة المشير؟

فقد يجاوب: «لا» أو «أي مشير؟»

فيجيبه: فوزي أو فوزي باشا.

على هذا النحو كان رجاء يحاول أن يستفهم من القادمين من الآستانة، ومع ذلك لم يستطع أن يهتدي إلى ذلك الرسول، فعزت حيلته. وكاد القطار يصل قبل أن يبلغ هذه الأمنية. فما كان منه إلا أن قصد إلى سائق القطار وقدَّم له ورقة كتلك التي قدَّمها للمفتش بعد أن كتب عليها: «أطلب إيقاف القطار حيث هو الآن إلى أن آمر بتسييره.»

وبعد مناقشة قليلة أذعن سائق القطار وأوقف قطاره، فظن الركاب أن سبب توقف القطار عطل بسيط وسيسير بعد قليل.

أما رجاء فرأى أن خير وسيلة لعرقلة معلومات فوزي باشا هي أن يؤخر القطار ريثما يضيق ذرع النواب وينفد صبرهم، فيقترعون غير منتظرين معلومات فوزي باشا. ثم خطر له خاطر آخر فجاءةً وقال لنفسه: ألا يمكن أن يكون الرسول في إحدى حجرات الحريم؟

وفي الحال جعل يطوف على حجرات الحريم واحدة واحدة، إلى أن اشتبه باثنتين مؤتزرتين مقنعتين باليشمق، وثالثة بغير إزار وبقبعة ولكنها مقنعة بقناع قليل الشفافية — فوال كثيف. فلما وقع نظرها عليه رأى في بدنها خلجة ظاهرة. ثم أغضت نظرها مطرقة، وقدمت إليه التذكرة ويدها ترتجف كثيرًا، فتناولها منها وأبقاها معه. وفحص تذكرتي السيدتين الأخريين. وخرج حالًا وقال للمفتش الآخر: افتح حجرة فارغة واستدع إليها السيدة ذات القبعة والقناع الكثيف التي في هذه الحجرة حالًا. وقل لها أن تقابل المفتش الكبير لأجل مسألة تخص تذكرتها.

ثم دخل رجاء إلى الحجرة التي فتحها المفتش وانتظر. وما هي إلا دقيقة حتى دخلت المرأة ذات القبعة ترتجف وتقشعر، وأقفل رجاء الباب وهو يقول: أظن أن حضرة الهانم تريد أن تستوثق أني مفوض من قبل المشير فوزي باشا لاستقبالها.

فلم تجب، فقال: ثقي يا هانم أني مندوب من قبله لمقابلتك قبل أن يصل القطار إلى أنقرة، لكي أقول لك كلامًا عن لسانه.

فلم تجب. بل كانت تزداد اضطرابًا، فقال: لا تخافي يا سيدتي. ثقي أني من قبله، وهاك التلغراف الذي ورد إليه مبشرًا بقدومك إليه. فهل المعلومات التي معك له شفهية أو مكتوبة؟

فازدادت انتفاضًا وسمعها تقول بصوتٍ خافت: ويحك! ويلي! ويحي! بالله! إلى غير ذلك. فما كان منه إلا أن رفع النقاب الكثيف عن وجهها. فلما وقعت عينه على عينها انتفض جازعًا وارتدَّ إلى الوراء قائلًا: ويلي! أطيف نميقة أم حقيقتها؟ يالله! لقد تصورتك حية ترزقين حين كان ذلك السجين رامي القنبلة على مصطفى كمال يصف حادثة عودتك من عالم الأموات إلى العالم البشري ثانية، وقد غالطت ظني كثيرًا، لأني كنت أقول: إن الملجأ الذي تلجئين إليه في حياتك الثانية هو أنا لا سواي. يالله! أحقيق أن الله ردك إليَّ؟

أما هي فما زالت تنتفض من شدة التأثر وهو يجزع لتأثرها. ثم أمسك بيدها قائلًا: ويحك! اصدقيني الخبر اليقين. ألي أم لغيري حفظك الله؟

فلم تستطع الإجابة لشدة تأثرها، فأمهلها هنيهة ثم قال: ويحك يا هذه! لقد التقينا في تقاطع الطرق، فأخبريني هل قدر لنا أن نسير في طريق واحد أو أن نفترق.

فهزت رأسها علامة الإيجاب، فقال: لا أفهم. انطقي. هل كنت لي أولًا وثانيًا وما زلت لي؟

فأومأت إيماء مختصرًا بالإيجاب.

فقال: إذن. إذا قبَّلتُ هذه اليد كنت مقَبِّلًا يدًا لم يعتد عليها أحد ولا دنستها شفتان أخريان.

فأومأت قائلة بهمس: نعم. نعم. فرفع معصمها إلى شفتيه وهو يقول: إني أعتقد أنك لا تستطيعين أن تخدعيني.

وطبع عليها قبلة لطيفة وقال: ماذا جاء بك إلى هنا؟ وإلى أين؟

فقالت بصوتٍ خافت: إلى فوزي باشا.

فاستغرب وقال: عجبًا! أحقيق؟

فقالت بصوتٍ يكاد يسمع: أليس أقل تكفير عن ضلالي أن أسعى جهدي لرد القضاء الرهيب عن قومي؟

– يالله! إذن أنت الرسول حامل المعلومات للمشير فوزي باشا؟

– بل أنا المعلومات نفسها.

– الله أكبر. إذن …

ثم ردَّ رجاء نفسه عن الكلام ونهض الباب وفتحه ونادى المفتش قائلًا: قل للسائق أن يسير بالقطار حالًا رأسًا إلى أنقرة.

فأجاب المفتش: بعد نصف ساعة نصل إلى أنقرة يا مولاي.

فقالت نميقة: ويلاه! أخاف أن يكون الوقت قد فات. ما هو الكلام الذي كلفك المشير فوزي باشا أن تقوله لي؟

– كلفني أن أقول لك أن تطاوعيني وأن تذهبي معي حيث أشاء.

– لا لا. بل أريد أن أذهب إليه أولًا لئلا يفوت الوقت وتضيع الفرصة ويقرر المجلس قراره الفظيع الهائل ضد الخلافة والخليفة والأمراء.

– لا تخافي. إن المجلس أجَّل الجلسة إلى اليوم لكي يسمع المعلومات التي ينتظرها المشير فوزي باشا من الآستانة. هل أنت قادمة من الآستانة؟

– من ضواحيها.

– ماذا يقول الأمراء؟

– وهل تظنني كنت بين الأمراء؟ لقد مت وفنيت من ذلك الجو. أنا الآن امرأة عامية عاملة واسمي تريزا برسكا الروسية. فحاذر أن تذكر اسم نميقة أو أميرة.

فضحك رجاء وقال: وما هي حرفتك؟

فأجابت: أكون كاتبة إذا وجدت سيدة تستخدمني كاتبة سر لها.

– إذن كيف عرفت بالحالة السياسية الحاضرة؟

– عرفتها من الجرائد ومن لغط العامة بها.

– أما سمعت شيئًا عن الأمراء؟

– سمعت أنهم واقعون في حيص بيص لا يدرون ماذا يفعلون. إن مصطفى كمال باشا لهو رسول إبليس الرجيم. من كان يعرف أن هذا الشرير وأعوانه يجسرون أن يفعلوا ما يفعلونه الآن. يالله! خلع الخليفة وإلغاء الخلافة وطرد الأسرة كلها. ياللفظاعة!

– وما هي معلوماتك لفوزي باشا؟

– إن معلوماتي أوراق سأبسطها له حين أقابله وستكون أنت حاضرًا. ألا تكون؟

وكان رجاء يجاوبها وفكره يشتغل بأمور أخرى، فقال: بلا شك. وهل أنت أرسلت هذا التلغراف؟

– نعم، أرسلته بهذه الصيغة للتمويه خوفًا من أن يقع في يدٍ سواه: فوددت أن يفهم أن ناقل المعلومات له رجل لا مَرْأَةٌ.

فقال رجاء باسمًا: حسنًا فعلت. وهل تعرفين المشير فوزي باشا شخصيًّا؟

– لا.

– كيف خطر لك أن تقدمي هذه المعلومات له؟

– لأني اطلعت في الجرائد أن المشير فوزي باشا يدافع عن الخليفة والأمراء. وعلمت من الجرائد أن أعداء الأمراء يتهمونهم بالخيانة وأن عندهم وثائق ضدهم. ولما كنت أعلم طبيعة هذه الوثائق وأصلها وتزويرها وعندي وثائق ضدها كتبت لفوزي باشا تفصيلًا بذلك. فكتب لي أن أرسل له الوثائق حالًا مع شخص مأمون.

– لله درك! وكيف حصلت على هذه الوثائق الهائلة؟

– ستعلم ذلك في حينه. أرجو أن تأخذني توًّا إلى المشير فوزي باشا. حاذر أن تدعه يفهم أني أميرة أو بنت أمير. لأن صديقتك الجديدة الآن تدعى تريزا برسكا الروسية.

فقال رجاء: أجل الروسية والبلشفية أيضًا. ألست بلشفية؟

– معاذ الله! إن هؤلاء البلاشفة سبب مصيبتنا. وهل كنت كل هذا الحين في أنقرة؟

– كنت حيث تدعوني الظروف، تارة في أنقرة وأخرى في أزمير.

– ماذا كنت تفعل في أزمير؟

– كنت سجينًا مع صديقك الذي رمى القنبلة على مصطفى باشا.

– ولماذا سجنك ذلك اللعين مصطفى؟

– لأني كنت حاضرًا ساعة رمي القنبلة هناك. وركضت فظنوني شريكًا للجاني فقبضوا علي وزجوني في السجن.

– لله من شرهم! بالطبع برهنت على براءتك واقتنعوا أنك بريء.

– أي نعم. وأما الرجل رامي القنبلة فلم يزل في السجن. وقد روى لي حكاية طويلة غريبة من غير أن يسمي أشخاصًا، فهمت منها أنك رميت نفسك في البحر وهو انتشلك. وحاولت كثيرًا أن أفهم منه عن مقرك فلم أستطع لأنه كان شديد التكتم. وما زلت الآن مستغربًا إقدام ذلك الأهوج على قتل مصطفى باشا. هل ذلك الأحمق كان عضوًا في جمعية فوضوية؟

فابتسمت نميقة أو تريزا وقالت: كلَّا، وإنما فعل ذلك بناءً على إيعازي له.

– ويحك! لماذا؟

– لأن الخبيث مصطفى باشا اعتقلك. ألا تذكر أن ذلك كان بعد يومين لالتقائنا في قصرك وأنت بِاسْم رجاء باشا؟

– نعم.

– لما علمت أنه اعتقلك أكدت أنه سيقضي عليك بلا محالة. فلما قطعت الأمل من اللقاء بك ثانية، وصار أبواي يحرجانني للزواج بالأمير عثمان، لم أعد أجد فرجًا لي إلا في الانتحار. فرميت نفسي في البحر. واتفق أن ذاك المسكين كان يريد أن ينتحر أيضًا، فعثر عليَّ وأنقذني وهو يظن أنه يفعل خيرًا. فنقمت عليه وغضبت. ولكن ما الفائدة! وما لبث أن أقنعني بأن أغير شخصيتي وأبقى حية. فاقتنعت برأيه وسميت نفسي تريزا برسكا الروسية. وكان ذلك المسكين يتضرع إليَّ ملتمسًا رضاي وأنا أتمنع. وأخيرًا مللت توسله وتضرعه، فاقترحت عليه أن يسعى لاغتيال مصطفى باشا كمال. فإن اغتاله وسلم من العقاب أتزوجه، وإلا كان بخته سيئًا. وما ظننت أنه يقبل هذا الشرط. فما تردد في أن برح إلى أزمير وشرع بالاغتيال ولكنه ما نجح.

فقال رجاء متوردًا: وهل كنتت تفين بالوعد لو نجح؟

– بالطبع، ولو بالرغم مني، لأن وعد الحر دين، ولا سيما لأني يئست من اللقاء بك بعد أن علمت أنك وقعت في قبضة مصطفى كمال كمتهم بجريمة الجناية العظمى التي لا أمل ببراءتك منها. وكان جُلُّ ما أفعله أني أنتقم لك. وخير وسيلة للانتقام أن أحرِّض الرجل على فعلها. وقد أقدم ولكنه فشل. فهذا بخته وبختي أيضًا إذ تخلصت من مضايقته لي. هل هذا يسوءك يا أمل أو يا رجاء؟

– كلا يا نميقة. لقد وفيت حق الحب.

– بربك لا تقل: نميقة بعد الآن. قل لي: كيف نجوت من نقمة مصطفى كمال؟

– ستعلمين ذلك في حينه.

عند ذلك وصل القطار إلى أنقرة وهبَّ الركاب للخروج، فأخذ رجاء الدين نميقة وركبا أوتوموبيلًا وهي تقول: بربك توًّا إلى المشير فوزي باشا. أين نجده؟

ومن غرائب الصدف أن رجاء لمح فوزي باشا حينئذٍ في زحمة المحطة وعيناه شائحتان هنا وهناك كأنه يبحث عن الرسول القادم بالمعلومات، فقال لها: إن فوزي باشا ينتظرنا الآن في منزله. فإلى منزله. فهناك تبسطين المعلومات أولًا وبعد ذلك نعود نحن إلى معلوماتنا الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤