الفصل الثالث

شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب

ننتقل بالقارئ الكريم إلى الآستانة، حيث نجد البرنس سناء الدين جالسًا في مجلسه الخاص ومعه صديق يدعى نامق بك، وهو يرتجف غضبًا أو غيظًا، ويقول: ما خطر لي قط أن الشخص الذي أحسن إليه يكون عقربًا فيلسعني في أرق عواطفي. خذ يا عزيزي نامق بك اقرأ هذه الرسالة.

ودفع إليه ورقة، فقرأ ما يأتي:

صاحب السمو البرنس عثمان أفندي

إني عارف بسر تجهله، ولا أدري إن كان يعرفه شخص آخر أيضًا. ولما كان يهمك أن تعرفه رأيت أنه يجب عليَّ أن أبوح لك به.

لقد خطبت سمو الأميرة نميقة هانم كريمة سمو البرنس سناء الدين أفندي، وإلى الآن لم تدرِ أنها عشيقة شخص آخر يدعى أمل الدين أفندي رغبت. فقد كان مدة في خدمة سمو البرنس سناء الدين وأتاحت له الظروف أن يتعرف بالأميرة نميقة وتنقدح بينهما شرارات الحب. وإثباتًا لذلك أرجو أن تتأمل الصورة التي تجدها طيَّ هذا. ومتى تيقنت صحة هذا السر فهمت لماذا لا تجد من الأميرة نميقة الميل الذي تبتغيه؟ بل لماذا تجد منها الجفاء الذي يؤلمك؟ ها قد عرفت الحقيقة، فلا تلُم في المستقبل إلا نفسك إذا عرضت لك أمور لا تسرَّك. قد تسخط على من يفضح لك هذا السر، ولكنك تشكره على كل حال.

المخلص
صديق من بعيد

فلما انتهى نامق بك من تلاوة هذا الخطاب امتقع قليلًا، وقال: كيف وصل هذا الخطاب إلى سموك يا مولاي؟

ورد مع هذه الرسالة من البرنس عثمان. تفضل اقرأها.

فتناول نامق بك ورقة أخرى، وقرأ:

سيدي البرنس سناء الدين

ورد إليَّ أمس هذا الخطاب، وطيه الصورة التي تجدها معه. وبعد تردد طويل رأيت أن من الواجب أن أرسلهما إليك لأن أمرهما يهمك. واقبل فائق احترامي.

ونظر نامق بك إلى البرنس سناء الدين أفندي، ففهم هذا أنه يريد أن يرى الصورة، فقدمها له بيد ترتجف. فلما رآها نامق بك اكفهر وقال: هذه صورة نميقة هانم، وإلى جنبها … هل هو أمل الدين المشار إليه بالرسالة؟

– أي نعم يا عزيزي. هي صورة ذلك الساقط الذي كان جائعًا فأشبعته وعاريًا فكسوته. وكان يتواطأ على قدمي تذللًا وعبوديةً.

– ولكن كيف أمكنه أن يتصور والأميرة إلى جنبه.

– أيصعب عليه يا عزيزي أن يسرق صورتها ويكلف مصورًا أن يحتال على وضعها بأسلوب شيطاني إلى جنب صورته، ويأخذ عنها صورة فوتوغرافية واحدة كأنهما كانا واقفين جنبًا إلى جنب؟

فقال نامق بك: والله إنها لبراعة. والله إنها لقباحة ووقاحة لا مثيل لهما، إن ذلك الخائن يستحق قطع العنق.

– قد لا أعتب على ذلك الرذيل القبيح السافل المنحط الذي فعل هذه الفعلة الشنيعة. وإنما أعتب على البرنس عثمان لتصديقه إفك هذه الرسالة التي يراد منها الفتنة بيننا وبينه، وأما ذلك الوغد الزنيم الذي يحاول التطاول على أعراض الأمراء فلا يستحق أن نلتفت قط إلى رذائله أو أن نهتز لها. أما البرنس عثمان، وهو العزيز في الأسرة والمؤمل بأن يكون فخرها، فلم يكن يظن أن تؤثر عليه هذه السعاية الشنيعة تأثيرها الذي أراده فاعلها، بل كنت أومل أن يكون ساخطًا على ذلك الوغد الزنيم.

فقال نامق بك: ولكني لست أرى في رسالة البرنس عثمان ما يفيد تغيير قلبه.

– عجبًا يا عزيزي نامق بك، ما الداعي أن يرسل هذه الرسالة مع رسول خاص. وماذا يمنع أن يأتي بها هو بنفسه إذا لم يكن قلبه متغيرًا؟ لقد انقطع عن زيارتنا من أول أول أمس. فما معنى هذا؟

ففكر نامق بك قليلًا، وقال مترددًا: وإنما هل يمكنني أن أسأل يا سمو البرنس عن صحة كلام ذلك الأفاك الزنيم بشأن جفاء نميقة للبرنس؛ لأن في نيتي أن أباحث البرنس في الأمر، ولذلك أود أن أكون على بينة من كل شيء.

– لا بأس أن تخاطبه يا عزيزي نامق بك. وإنما أود أن يفهم من مخاطبتك له أنه ليس الغرض من مخاطبته العودة إلى نميقة؛ لأن ذلك لم يعد يهمني. وإنما أود أن يقتنع أن هذه الصورة مفتعلة بلؤم ومكر، وأن الأميرة نميقة بريئة من كل ما يتهمها به ذلك الوغد الزنيم.

– بالطبع هذا أول ما يجب أن أقنعه به؛ صونًا لطهر كريمتكم المصونة الأميرة نميقة، ولاعتصام مقامكم السامي بالنبل والمجد والشمم. وبعد ذلك نرى ماذا يكون بيننا وبينه.

– حسنًا، وأنا أدعو نميقة الآن وأنت تسمع كلامها. فأنت كعمها وهي لا تستحي في مجلسك الشريف يا عزيزي نامق بك، بل أتركها معك لكي تقول لك كل ما في نفسها، حتى إذا كانت تكتم عني أو عن والدتها أيَّ عاطفة فلا تكتمها عنك.

وفي الحال استدعى البرنس سناء الدين بنته الأميرة نميقة، فبدت بدو البدر من وراء الغيوم. سبحان مقسم المحامد والمواهب. بهاء تستتر الشمس من أمامه خجلًا وتضطرب الدراريُّ في السماء لديه غيرةً وحسدًا. وهي القامة التي قال فيها الشاعر:

سافِر الوجه عن محاسن بدر
مائس القدِّ عن معاطف بانِه
لست أدري أراكة هزَّ من أعـ
ـطافه الهيف أم لوى خيزرانه

وهما اللحظان اللذان قال فيهما آخر:

وألحاظٌ بأسياف تنادي
على عاصي الهوى الله أكبر

وهما الوجنتان اللتان قال فيهما المعز:

أطلع الحسن من جبينك شمسًا
فوق ورد في وجنتيك أطلَّا
وكأن الجمال خاف على الور
د جفافًا فمد بالشعر ظلَّا

وهو الثغر الذي قال فيه شهاب الدين الأعزازي:

ثم اتخذن من المدام مراشفًا
ونظمن من حبب المدام ثغورًا

ولما استوت في مقعدها كاستواء الشمس على نصف قامة فوق الأفق، وبادلت نامق بك التحية، خرج البرنس سناء الدين مستأذنًا بحجة أنه فطن لأمرٍ كان قد سها عنه.

ولما خلا المكان لها ولنامق بك سألها هذا: اسمحي لي يا بنتي يا أميرة نميقة أن أغنم هذه الفرصة القصيرة لأسألك سؤالًا بيني وبينك، قد لا يتسنى أن أسألك إياه في فرصة أخرى. هل بينك وبين البرنس عثمان من جفاء؟

فأجابت الأميرة نميقة بصوتٍ خافت: لا.

– اعلمي يا بنتي أن على جوابك هذا تتوقف سعادتك. إذا كان لم يكن منك رضًى تام فلا يحسن أن تكوني له زوجة في المستقبل لئلا يتنغص عيشك.

فازدات الفتاة توردًا وقالت: إن هذا الحديث قد انبتَّ فيه يا سيدي نامق بك، وقد سلمت الأمر لوالديَّ لأنهما أعظم مني علمًا وحكمةً وخبرةً. وهما قد قررا قرارهما وانتهى الأمر.

وهنا شعر نامق بك كأن الحديث انتهى، ولكن ضميره غير مطمئن للنتيجة، فسكت هنيهة ثم قال: وهل كان من علاقة بينك وبين أمل الدين أفندي رغبت؟

– كان أمل الدين كاتبًا عندنا وكان يقضي مهام أبي البرنس. ولم تكن بيني وبينه أية علاقة سوى هذه المعرفة البسيطة.

– وما قولك بالرسالة والصورة؟

فامتقع لون الأميرة نميقة أيَّ امتقاع، وكان من يراها في تلك اللحظة يظن أنها تشتعل تأثرًا، فقالت:عفوًا يا سيدي نامق بك، لا رأي لي في ذلك البتة. ولا أدري كيف يجوز أن أُسأل هذا السؤال أو أن أكون مسئولة عن عمل أجهل مصدره وسببه ولا طوق لي بتلافيه. ألا توافقني يا سيدي على أن الناس أحرار في أعمالهم ساءت أم حسنت؟

– نعم. نعم. وإنما كل غرضي من هذا الحديث يا بنتي أن أعلم حقيقة ضميرك لكي أعلم كيف أباحث البرنس عثمان في المسألة، ليس فقط لإزالة أي عثرة أو عقبة بينكما بل للحرص على شرف الأسرة.

عند ذلك باغتهما دخول البرنسيس سنية هانم زوجة البرنس سناء الدين. وهي كالفرس الجموح التي ازدرت فارسها ولم تعد تطيق عِنانها في يده.

دخلت وارتمت توًّا على المقعد واكمداد الغضب على وجهها كالدخان فوق الأتون المتقد. وما أن استوت على المقعد حتى قالت: عذرًا يا سعادة نامق بك، إن الشخص الذي يجب أن أبرهن له شرفي وطهارتي ولا يُسلِّم بهما إلا ببرهان، لا يستحق أن يكون زوج بنتي. أحمد الله أنه حتى الآن لم يكتب عقد الزواج. إن البرنس عثمان من أنبل نبلاء الأسرة العثمانية السليلة المجد، فهو حفيد سلطان، وكذلك زوجي ابن سلطان وأنا حفيدة سلطان أيضًا وبنتى حفيدة سلطان. وإذا كان بيننا وبينه من تمايز فنحن المتمايزون. ولذلك أرجو منك يا حضرة الصديق المخلص ألا تكلف نفسك أي مشقة في مخاطبة البرنس عثمان. إذا كان سموه يريد بنتي فيجب أن يسعى كثيرًا للحصول عليها بعد أن يبرهن كفاءته بكل وسيلة.

وكانت البرنسيس سنية هانم تزداد حدة جملة بعد جملة. فما أتت على الجملة الأخيرة حتى كادت تختنق بالكلام. فتداركها نامق بك قائلًا: عفوًا وعذرًا وحلمًا يا سمو البرنسس السلطاني. لست أنوي قط أن أرجو البرنس عثمان رجاءً أن يتزوج العزيزة الأميرة نميقة. أظنك تثقين أني أعرف كيف أتكلم.

– نعم. ولكني كنت أظن يا حضرة الصديق أنك تستنكف مخاطبة البرنس عثمان بأي أسلوب بعد أن يقبل خطابًا وسخًا كذلك الخطاب وصورة مصطنعة بيد شيطانية كتلك الصورة ولا يتردد في إرسالهما إلينا. وأخيرًا يقرر أن يرسلهما ولا يخجل أن يرسل لنا نتيجة مكيدة لخزي بنتنا وعارها. ولو كان نبيلًا حقيقةً لكان أقل ما يجب أن يفعله هو أن يمزق ذلك الخطاب القذر ويحرق تلك الصورة المخزية، لا أن يرسلهما إلينا لكي تطَّلع بنتي على أمر مشين. وإن كان الأمر قد همه فقد كان حريًّا به أن يبحث عن الدساس الكائد ويحرض أحد رجاله أن يلطمه كفين ويصفعه صفعتين. نعم، كان يجب أن يفعل ذلك من غير أن يدعنا نعرف شيئًا. أما وقد أرسل لنا الخطاب البذيء والصورة مع خطاب بارد فصرنا نخجل أن نقول: إننا نعرف شخصًا يدعى البرنس عثمان ويدَّعي أنه نبيل. لا لا، أرجو منك يا نامق بك ألَّا تخاطبه بهذا الأمر بتاتًا. لقد انتهت كل علاقة بيننا وبينه. هلمي يا نميقة.

وقامت البرنسيس سنية تتبعها نميقة من غير أن تدعا لنامق بك فرصة لكلمة.

عند ذلك دخل البرنس سناء الدين مستغربًا خروج زوجته في حالة تأثر شديد. فسأل نامق بك في أمرها. فأخبره ماذا كان من حديثها.

فقال سناء الدين: إني أعذر نفسها الكبيرة، فإنها تتأثر كثيرًا. فاعذرها يا عزيزي نامق بك.

– إني أمتدح أنفتها هذه. وإنما سأعمل عملي بحسب ما تعهده من حكمتي يا سيدي البرنس. هل تسمح لي بالخطابين والصورة إلى حين؟

– لا بأس، وإنما أرجو ألا يراهما أحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤