الفصل الخامس

ففراق يكون فيه دواء … أو فراق يكون فيه الداء

ننتقل بالقارئ الآن إلى منزل فخم أحاطت به حديقةٌ غنَّاء صغيرة وامتلأ رياشًا فاخرًا، تُعنَى به مدبرة أوروبية على جانب من التبرج والأبهة تليق بأن تستقبل الزائرين في خير فنادق باريس. وفي بابه خادم يفتح للطارقين، حسن المرأة أيضًا مشرق الطلعة. وبالإجمال يقال: إن منزل رجاء باشا كان مضارعًا قصور الأمراء ولائقًا لاستقبالهم.

كانت الساعة الثالثة حين دخلت المدموازال «راين» إلى غرفة رجاء باشا وقالت: هنا يا صاحب السعادة هانم تريد مقابلة سعادتكم.

– من هي؟ بطاقتها؟ اسمها؟

– كل ذلك محفوظ لسعادتكم يا سيدي.

فنظر رجاء باشا إلى الساعة وقال: إني أنتظر زيارة البرنس سناء الدين باشا الساعة الرابعة. والآن الساعة الثالثة ونصف. لا بأس، أدخليها إلى الحجرة الآخرى لا إلى البهو. بعد دقيقة أكون هناك.

وما تأخر رجاء باشا دقيقة حتى دخل إلى الحجرة، فبهت إذ وقعت عينه على عين الزائرة، وأجفل وانتفض. ثم تمالك روعه وأقفل باب الحجرة ودنا إلى مقربة منها وقال: لقد لاحت لي خواطر مختلفة حين أنبأتني مديرة المنزل أن سيدة تريد مقابلتي، ولكن ما خطر لي أن تكوني أنت يا نميقة.

– أمديرة منزل هذه الحسناء؟

– نعم، إن المنزل المعدَّ لاستقبال الأمراء يجب أن تكون مديرته حسناء هكذا. فهل جئت لكي تنتقدي منزلي يا نميقة؟

– كلا، أنت مستقل بشئونك. وإنما جئت لكي أتحقق إن كان رجاء هو أمل الدين نفسه.

– كيف خطر لك أن يكون الاثنان واحدًا؟

– لأن الرجاء والأمل لفظان لمعنى واحد. ويهمني المعنى.

– أراك قلقة جدًّا، كأن جميع أعصابك ترتج وجميع جوارحك ترقص، فماذا طرأ عليك؟

– إني على أبواب أزمة هائلة يا أمل الدين.

– ماذا؟ أنبئيني.

– هي أن أدفن حية أو ميتة.

– ولماذا تدفنين حية أو ميتة، ولا تعيشين كما يعيش البشر؟

– جئت إليك لكي تسهل لي طريق الحياة.

– من أسهل الأمور عندي تسهيلها، ولكني لم أفهم كيف تدفنين حية أو ميتة؟

– لقد أحرجوا موقفي، فإما أن يزوجوني للبرنس عثمان أو أن أنتحر.

– أما وجدوا خيرًا من هذا العلج زوجًا لك؟ فهل يصلح هذا زوجًا وهو لا يعود إلى قصره في الأسبوع مرة، ويقضي أيامه في المواخير.

– لهذا لا أجد أمامي إلا الانتحار. وإنما قبل أن أقدم عليه جئت إليك.

– أهلًا وسهلًا. أنت تعلمين كم أحببتك، وسأجدُّد ذلك الحب، فها هو بيتك، والمأذون يحضر لكتابة الكتاب في نصف ساعة إذا شئت.

– ويحك! هكذا تتزوج بنت البرنس سناء الدين؟

– بل هكذا يتزوج رجاء باشا راغب.

– لا أظنك تعني ما تقول.

– ماذا تريدين أن أعني؟

– أريد أن تجدد الطلب لأبوي وأنا أؤيد طلبك.

فنظر فيها نظرة كادت تشق فؤادها نصفين، وقال: ويحك! لم أنسَ ولن أنسى «شبشب» أمك ولا كف أبيك. هل تظنين أني أصغر قلبًا من سلطانك أو ملكك أو … لا تدعيني أكفر.

فقالت نميقة بصوت تضرع: لا بأس يا أمل، لقد أصبحت الآن في منزلة الكبراء، ونلت ثقة الأمراء، فلم يعد أبي ولا أمي يستنكفان مصاهرتك. فإذا طلبت يدي من أبي فأنا أقنعه بأن يرضى.

– ويحك! هل يسلم عقلك بأن أطلب يدك من غيرك. فإذا كانت يدك ملك الآلهة فلا أطلبها منهم. هل تظنين أني صفحت عن أبيك وأمك! لن أصفح، بل يصعب عليَّ أن أصفح عنك لأنك لم تعصي أمرهما وفوق ذلك نكثتِ عهدك لي.

فتجهمت نميقة وقالت: معاذ الله، لم أنقض عهدنا.

فصاح بها: لا تمكري يا نميقة، لا تعظمي إثمك بالكذب. أما طمعت في أن تتزوجي الغازي مصطفى باشا كمال؟

– هذه كانت أمنية أبواي؛ لأنهما لما رأيا أن قوة السلطان بادت وأصبح الخليفة بلا حول ولا طول فصار موقف الأمراء مزعزعًا والأمراء لم يعرفوا أن يتحدوا، افتكر أبي أن يعزز مركزه بمصاهرة مصطفى باشا كمال.

– إذن تعترفين أن أباك كان يتاجر بك.

فتمرمرت نميقة وصاحت: لقد تجاوزت الحد يا أمل الدين.

– ما أنا أمل الدين الآن، بل أنا رجاء باشا زعيم الأمراء. أما بلغ هذا إلى مسامعك؟

– نعم، بلغ إلى مسامعي أنك تحاول جمع كلمة الأمراء. ولهذا جئت إليك لظني أن الفرصة مناسبة لإتمام العهد. ولكن وا أسفاه، لا أرى منك إلا شموخًا وصلابة.

– عجبًا! أتحسبين هذه الرحابة مني بعد صدك وجفائك شموخًا؟ أَوَتَعُدِّين هذا التسامح مني بعد إهانة أبويك لي صلابة. قلت لك: إني أجعلك أفضل الزوجات في كل شيء حتى في الجاه.

– ولكن لا بد من استرضاء أبوي حتى لا أكون مضغة في أفواه الأميرات والأمراء.

فصاح بها رجاء باشا أو أمل الدين: ويحك! هل تظنين أن الأمراء والأميرات يقدرون أن يكسبوك شرفًا أو يسلبوك نبلًا. فلينظروا إلى أنفسهم أولًا وثم يدينوننا.

– مهما يكن الأمر يا أمل الدين، لا يليق أن تخرج فتاة من منزل أبويها من غير علمهما لكي تتزوج. هل تقبل أنت بذلك؟

– إنه أمر غير مألوف، ولكنه ليس بفرية. ناهيك عن أني لا أستطيع أن أذل نفسي لأبويك بعد الذي جرى منهما.

– ماذا يمنع أن تكلف أحدًا من الأمراء أن يكون واسطة بين أبي وبينك. أليس فريد باشا الداماد صديقك؟ كلفه أن يخاطب أبي في الأمر وهو صديق أبي.

ففكر رجاء باشا هنيهة، ثم قال: لا أدري إن كان فريد باشا أو غيره يتوسط في الأمر بالصيغة التي أريدها.

– يكفي أن يكون في أول الأمر وسيلة للصلح بينكما. وبعد ذلك يسهل الطلب وأنا أعززه. وقد أصبح كل ذلك سهلًا الآن.

– عجبًا. كيف ذلك؟

– لأن المقام الذي بلغت إليه كالتلسكوب الذي يقرب الأبعاد أو الميكروسكوب الذي يكبر الأمجاد.

– أستغرب كيف عرفت كل ذلك يا نميقة.

– لقد أصبح أمرك حديث الأمراء في جميع أنديتهم، وإنما أنا أستغرب كيف وصلت إلى هذا المقام!

– إن أبويك هما اللذان دفعاني في هذا الطريق. إن كف أبيك جعلتني أجري بلا انقطاع، وشبشب أمك منحني قوة لا تفنى. فهما صاحبا الفضل الأول في توصيلي إلى هذا المقام.

– إني آسفة لما حدث يا أمل الدين، ولكن النتائج حسنة، فأود أن تخفف من غلواء حقدك. سوف تتكيف المسائل وتتحول كلها إلى الخير. فلا تغالِ في غيظك ولا عنفوانك. هل تظن أن مؤتمر الأمراء يأتي بفائدة؟

عند ذلك طرقت المدموازيل راين الباب، فنهض رجاء باشا وفتحه، فهمست قائلة: قدم البرنس سناء الدين مع صاحبك نامق بك.

فالتفت رجاء باشا إلى نميقة وقال: مهلًا، انتظريني ريثما أعود. قد أتأخر نحو الساعة أو أقل. فانتظري هنا.

وخرج رجاء باشا إلى البهو، ولما دخل قال نامق بك: سعادته رجاء باشا يا سمو البرنس.

أما البرنس فلما وقعت عيناه على الباشا ارتد إلى الوراء كأنه ذعر من رؤيته. ولو تيسر حينئذٍ تصوير ذلك اللقاء الغريب لرأيت في الصورة عيني البرنس تقدحان شررًا ووجهه قد تجهم وبدنه ينتفض، ولرأيت رجاء باشا يحدق فيه بحدقتين كأنهما قطبا مغنطيس وفي فمه شبه ابتسامة، وفي جميع محياه مسحة من الأنفة والاستعلاء.

دام هذا المنظر نحو ربع الدقيقة، كان فيها شاربا البرنس يتراقصان غيظًا وحنقا، والغيظ يشتد حتى صار البرنس ينتفض كله. ثم التفت إلى نامق بك وقال له: ويلي منك يا نامق! أإلى هذا الرجل الحقير الدنيء الوغد السافل تأتي بي! أإلى هذه القاذورة تجرني! أبهذه الوساخة تلوثني! تبًّا لك!

فدهش نامق بك وجزع لهذه المقابلة الغريبة التي لم يفهم سرها، وقال مرتعدًا: عفوًا يا مولاي لا أفهم شيئًا مما تقول، ماذا تعني؟ ويلاه، ماذا طرأ على سيدي البرنس؟

فقال البرنس سناء الدين: ويحك! أما كان يجب عليك أن تتحقق من هو الشخص الذي تدعوني لزيارته، وما هو المنزل الذي تدخل بي إليه؟ هل نسيت أن لي مقامًا لا أنزل عنه، وأن لي كرامة يجب أن تبقى مصونة، وأن لي …

فتناول رجاء باشا الحديث وقال: أجل، إن لك سموًّا لا تدانيه الكواكب في أفلاكها، فكيف استطعت أن تصل إلى هنا متجاوزًا الكواكب؟

فأعرض البرنس سناء الدين عنه والتفت إلى نامق بك قائلًا: هلم يا نامق من حيث جئنا. لا أستطيع أن أصفح عن ذنبك هذا.

فازداد نامق بك ارتباكًا وقال: ويلاه! أفصح يا مولاي، لا أفهم ماذا جرى.

فصاح به البرنس: أتمكر عليَّ! أتنكر أنك كنت تعلم أن هذا الوغد هو الذي كتب ذلك الكتاب للبرنس عثمان، وهو الذي اصطنع تلك الصورة المهينة المشينة؟

فقال نامق بك مستعطفًا: مولاي! تيقظ جيدًا. لقد قلت لي: إن مفتعل تلك الصورة يدعى أمل الدين رغبت. ونحن الآن في قصر سعادة رجاء باشا راغب، جامع كلمة الأمراء.

– ويحك! أما رأيت الصورة؟ أما تأملت ملامحها؟ ألا تراها في وجه هذا الوقح؟ أما رأيته أمس وقبل أمس؟ أو ما فهمت أن أمل ورجاء لفظان بمعنى واحد؟ فكيف تأتي بي إلى من تهجَّم على عرضي وحاول ثلم شرفي؟ هلم يا صاح، هلم. كفاني هوانًا. كفاني تدنسًا تحت سقف هذا الأفاك القبيح. إني أستغرب كيف جازت حيلته على الأمراء! أمس مكان يلتمس الرزق من فضلات موائدهم، والآن يخدعهم بوجاهة كاذبة ونبالة مزيفة. هلم يا نامق، هلم نخرج من هذا الماخور.

واتجه البرنس سناء الدين إلى الباب. وإنما رده في الحال أمران: الأول انتهار رجاء باشا له قائلًا أن قف مكانك لتفوز بحياتك. والثاني صرخة أنثوية سمعها البرنس من خارج البهو ولم يعلم مصدرها ومعناها. فالتفت إلى رجاء باشا فإذا هو ينتضي مسدسًا قد سدده إليه. فنظر فيه البرنس وهو يجالد ويكابر وقال: وقاتل أيضًا؟

فأجاب رجاء: نعم، في استطاعتي أن أفعل كل شيء، أجل، كل شيء مما لا تتصوره. ولكن لا أفعل إلا إذا أحرجتني. فلا تحرجني. قبل أن تخرج من هنا أريد أن تفسر أقوالك الأخيرة. لقد فهمت أني وغد، وقح، قذر، نجس، دنس، دنيء، حقير، شرير … إلخ؛ لأني في يوم من الأيام طلبت يد ابنتك، وأنت تحسب أن الأمراء من طينة غير طينة البشر، فلا يجوز أن تتزوج الأميرات بشرًا. هذا قد فهمته سابقًا، والآن فلا أستغربه. ولكن حكاية الصورة والخطاب لم أفهمها. فلا أدعك تخرج من هنا حيًّا إلا إذا فسرت لي حكاية الصورة.

فاعترض بينهما نامق بك وقال: حلمك يا سيدي الباشا. حلمك. إن سمو البرنس معذور. فقد ورد إلى خطيب بنته البرنس عثمان خطاب بإمضاء مجهول يخبره فيه أن البرنسس نميقة تحب كاتب سر أبيها السابق «أمل الدين أفندي رغبت»، وضمن هذا الخطاب صورة نميقة وأمل الدين أفندي معًا. والحق يا سيدي الباشا أني لم أفطن إلى أن الصورة صورتك حقيقةً، كأن الإنسان تتغير ملامحه متى ترقى من أفندي إلى باشا. فاعذر سمو البرنس واعذرني أنا أيضًا، لأني ما كنت أتصور أن أكون سبب هذا الموقف الحرج الخطر يا سيدي. أما الآن فأود أن أصلح الأمر بينكما إن أمكن.

فصاح البرنس: نامق. نامق.

فقال رجاء باشا: أما أني أحببت الأميرة نميقة فلا أنكر. ولا أزال أحبها ولن أعدل عن حبها. وأما الصورة والرسالة اللتان تذكرانهما فلا علم لي بهما البتة. إني أحب الأميرة حبًّا جمًّا وأنزه اسمها وسمعتها عن كل شين كهذا. إنما قد أفعل هذه الفعلة لو كنت أحتقر الأميرة. وأما وأني أحبها كالعبادة فيستحيل أن أحتقرها بمثل هذه الفعلة الشنعاء، صدقتما أو لم تصدقا لا يهمني. وإذا لم يشأ سمو البرنس أن يعلم أن في طينة البشر من النبل والشرف أكثر جدًّا مما في طينة الأمراء المتألهين فلسوف يعلم. إني أتجاوز عن كل بذاء صدر من البرنس تجاوز الكريم عن سفه اللئيم. إني أرد مسدسي إلى جنبي الآن إذ انتهى مطلبي. وأنتم حران أن تحسبا نفسيكما زائرين أو مرتدين من قارورة أوساخ.

أما نامق فأصبح في حالة من الارتباك لا يدري كيف يتصرف. وصار ينتظر قرار البرنس. أما البرنس فرام أن يتكلم ولكن خانه لسانه، بل عقدته كبرياؤه عن الكلام. فأشار إلى نامق أن اخرج. وخرج الاثنان غير مودعين.

•••

أما رجاء فبقي يتمشَّى في البهو مضطربًا هائجًا كثور المصارعة الإسبانية. وما أن ضعف وقع الأقدام في درج المنزل حتى سمع شهيقًا مزعجًا. فأسرع إلى حيث ترك نميقة. فإذا هي مستلقية على المقعد والمدموازال راين تعالجها بالمنبهات. وقالت المدموازال راين همسًا: يلوح لي يا سيدي الباشا أن الهانم اعتادت أن تصاب بنوبة عصبية.

– أين كانت؟

– أظنها كانت في الحجرة الثانية التي بين هذه والبهو.

– لا بأس. دعيها الآن. وأرجو أن لا تنسي أن ما حدث في هذا المنزل مهما كان يجب أن يبقى خبره دفينًا فيه.

– إني عالمة بهذا يا سيدي.

ثم خرجت المدموازال راين وأقفلت الباب وراءها، وبقي رجاء إلى جنب نميقة وهي مسترسلة في تأثرها بين شهيق وتنهد، فقال لها: هدئي روعك يا نميقة. هدئي روعك. لقد أنقذني وجودك هنا من جريمة.

فنظرت فيه متنهدة، ثم قال متلجلجة في الكلام: لله منك شريرًا. ليتك تُفرغ إحدى رصاصاتك في صدري الآن فكنت تنقذني من موقفي الحرج. ويحك! هل كنت تنوي أن تقتل أبي بمسدسك؟

– لو عصى أمري لَيَتَّمْتُكِ اليوم. ولولا وجودك هنا لنقص الأمراء أميرًا الآن.

– ويحك من سفاك!

– وويح أبيك من بذيء! من يستطيع أن يحتمل قباحة لسانه غير فتًى عاشق بنته. ما خطر لي أن يكون متغطرسًا إلى هذا الحد. ما خطر لي أن يبلغ منه الغرور هذا المبلغ. لسوف أريه مقام الأمراء.

– ويلاه. أما كان عندك علم أنه آتٍ لزيارتك؟

– بل علمت وعينت له هذا الميعاد.

– ولماذا لم تقل لي؟

– لم أشأ أن أقول لك؛ لأني خفت أن أجفلك أو أن تعودي على أعقابك، وأستغرب كيف أنك عرفت بزيارات الأمراء لي ولم تعرفي بموعد زيارة أبيك.

– عرفت أن نامقًا كان يقنع أبي أن يزورك. ولكن ما خطر لي أن تكون الزيارة عاجلة هكذا. وما جئت إليك إلا لأمهد طريق السلم لهذه الزيارة. فسبق السيف العذل. يالله من مشاكسة الأقدار!

– أي نعم، إن هذه المشاكسة قطعت كل أمل بالصلح بيني وبين أبيك.

– بربك يا أمل الدين …

– لا تستغيثي. لقد قُضي الأمر ونفد الصبر. وسيرى هؤلاء الأمراء الذين رُبُّوا على أن يعدُّوا الرعية كلها عبيدًا لهم أن لفظ الإمارة سيرادف لفظ التشرد. ويحهم من نقمتي، ويلهم من غضبي!

فقالت نميقة: رحمةً يا أمل الدين، لا توسع الخرق.

– كيف لا أوسعه يا مجنونة بعد كل صبري واحتمالي وطول أناتي، وتأكيدي لأبيك أني لست كاتب الخطاب ولا مصطنع الصورة. خرج وهو لا يعتذر حتى ولا عدَّل اعتقاده، ولا قال كلمة تشم منها رائحة التصديق لكلامي. فكيف يمكن أن نتفق بعد؟ وهل تريدين عاشقًا لا يتأثر من إهانة ولا يحس بتحقير؟ لا لا، لا أطيق. لا أحتمل. قطعت جهيزة قول كل خطيب. لقد أعلنت الحرب بيني وبين أبيك، فالويل للمغلوب!

فجزعت نميقة كل الجزع إذ رأت رجاء باشا أو أمل الدين يزداد هياجًا، وقالت: ليتك أخبرت نامق بك حين كلمك عن إزماع أبي لزيارتك أنك أمل الدين رغبت الذي كان سكرتيرًا، وأنك قد ترقيت، حتى لا يفاجأ أبي بأمر ليس في حسبانه.

– كنت أظن أنه متى حضر إلى منزلي وشهد حالتي يكون ألين عريكة، فأصلح ذات البين بيني وبينه. فخاب ظني، وإذا به قد ازداد شكاسةً وغطرسةً وكبرياءً وغرورًا.

– لعل له عذرًا.

– ربما كان الخطاب والصورة يوجدان له عذرًا، فلو كنت أعلم من افتعل الخطاب واصطنع الصورة!

– ماذا كنت تفعل به؟

– أهدر دمه هدرًا.

– إذن لك أن تفعل الآن وتخلصني من موقفي الحرج.

فحملق فيها رجاء باشا وقال: ويحك! ماذا تعنين؟ هل أنت …؟

– نعم، أنا اصطنعت الصورة وافتعلت الخطاب وأرسلتهما إلى البرنس عثمان، عسى أن يعدل عن الزواج بي. وكدت أنجح، لولا أن أبويَّ كلفا نامق بك أن يصلح الأمر مع البرنس عثمان. وقد أصلحه. وهم يصرون الآن على كتابة كتاب الزواج في الأسبوع التالي. فهل تُسَلِّم بذلك؟

– لا تخرجي من هنا بعد الآن، في هذه الساعة أستدعي المأذون ليكتب كتاب زواجنا.

– هذا يستحيل يا أمل الدين. إني أميرة، ولا أريد أن أتزوج إلا كأميرة.

– وأنا يستحيل أن آخذك من بيت أبويك. إذا كنت تريدين زوجًا بلا كرامة فابحثي عن غيري.

فقالت متنهدة: لا نعدم وسيلة لإصلاح الأمر بينك وبين أبي.

– أقول لك: هذا مستحيل، ومستحيل. لقد صممت على الحرب، وسأضرب الأمراء كلهم ضربة قاضية. سترين. وسترين أن ما يقوله رجاء مفعول لا محالة. إن رجاء اليوم ليس أمل الدين من قبل. ما غيرت اسمي إلا لأني غيرت فعلي. سترين الأمراء يترامون لديَّ مسترحمين.

– بربك يا أمل الدين. دبر أمري بلا هوان ولا فضيحة.

– لقد دبرته. لا تخرجين من منزل رجاء باشا زعيم الأمراء. فهل تريدين شرفًا أعظم من هذا؟ إذن سأريك عرش آل عثمان في قبضة يدي.

– دعني من كل هذا التهويل إذا كنت لا تتفق معي …

– يستحيل يا نميقة. يستحيل.

– ويستحيل أن آخذ البرنس عثمان. إذن آخذ من يأخذه الجميع بلا استثناء. وداعًا يا أمل الدين.

فنهضت نميقة تريد الخروج. فأمسك رجاء باشا بيدها، وقال: لن تخرجي من هنا إلا وقد صرت زوجتي.

– يستحيل. وداعًا أبديًّا.

– بالقوة أبقيك.

– لا أريد. يستحيل. لا تستطيع.

– إنك لعنيدة. بنت أمك.

– إني لكذلك. وأنت أعند. دعني الآن، لقد آذن الوقت بالعودة إلى المنزل.

– إذن نلتقي في أول فرصة.

– هيهات!

وخرجت كالعصفور أفلت من قفص، وبقي رجاء يفكر في حوادث النهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤