الفصل العاشر

حصانُ طروادة

أصبح أوديسيوس ضائقَ الصدر؛ فخرج هائمًا على وجهه، يتجوَّل على شاطئ البحر، علَّ نسيمَ الصباح الباكر يفرِّج من أساه. ولكن الأفكار القاتمة ظلَّت تتقاذفه كالأمواج المتلاطمة: «إلى متى نظل في هذا الموقف الأليم؟ ماذا تكون نهايته؟ كيف تكون؟ لقد وضعَتْنا الآلهة في مأزِق خطير، أما من سبيل لانتشالنا من هذه الوهدة؟»

وبينما تنتابه هذه الأفكارُ القاتمة، إذا برجُل يَطْلُع عليه، تبدو عليه آثار السفر والغربة، وتلوح على وجهه مخايلُ النُّبل والذكاء، وتوحي نظرات عينيه بالحكمة والدهاء.

قال له الرجل الغريب، دون أن يعرفه أو يتعرَّف به: «يا ولدي، إن هناك نبوءةً قديمة تقول: إن طروادة لن تُقتحم أسوارُها، ما دام تمثال الربة أثينة يربِض هناك في معبدها!»

فلما جنَّ الظلام، كانت هناك فكرةٌ قد نمَت في ذهن أوديسيوس، هي أن يحاول سرقةَ تمثال أثينة، على الرغم مما يحُفُّ بهذه المحاولة من خطر؛ إذ كان المعبد الذي يقيم فيه التمثال في قلب طروادة. وتَزيَّا أوديسيوس بزي شحَّاذ، وأخفى تحت أسماله سيفًا بتَّارًا، واصطحب معه ديوميديس، واتجها صوب طروادة.

وبلغا المدينة، فاختبأ ديوميديس في مكانٍ أمين، وصعِد أوديسيوس إلى أبواب المدينة يستجدي الطعام والنقود. وكان متقِنًا لدور الشحاذ، في حركته ولهجته، حتى إن الحارس لم يَجِد أدنى ريبة فيه، فسمح له بالدخول ليلتقط رزقَه مما في أيدي الناس.

ولم يَجِد أوديسيوس مشقَّة في اختراق طرقات طروادة؛ فقد كان يألَف مداخلها ومخارجها. وسرعان ما بلغ المعْبد، وهو يسأل المارةَ أن يعطوه مما أفاءته الآلهةُ عليهم من خيرات. ولم يخطئ أيَّ خطأ يفضح سلوكه، ولم يكتشف أحدٌ أمرَه من الطرواديين، غير أن المفاجأة كانت تترصَّده قُرب المعبد. فقد فوجئ بهيليني تغادره إلى بيتها بعد أن صلَّت للربة أثينة، ولم يكن أوديسيوس بالذي تخفى ملامحُه عليها، مهما أمعنَ في التنكُّر، وأغرق في التخفي.

وأدركت ما يحدِق به من خطر؛ فاقتادته إلى بيتها، وأوصدت بابه، وقالت له: «يا لها من خطة تقوم على المخاطرة! كيف سوَّلت لك نفسُك أن تلِجَ طروادة ولا رفيقَ ولا مُعين؟ أما زال الإغريق يحلُمون باقتحام طروادة والاستيلاء عليها؟ تُرى هل سيقتلني مينيلاوس إذا تحقَّق حُلم الإغريق، واقتحموا المدينة، أم سيكفيه أن يأخذني إلى إسبرطة؟ لو كان قاتلي فمن الخيرِ لي أن أموت في طروادة. كم أنا نادمةٌ على ما وقع مني! لقد تسرَّعت وضعُفت أمام إغراء باريس ومعسولِ كلماته، ولم أقدِّر عواقبَ صنيعي. يا ليتني بقيتُ هناك في إسبرطة، أعيشُ حياة هادئة، ولم أجُرَّ على قومي وعلى الطرواديين كلَّ ما يلاقونه من ويلات.» ثم انخرطَت في بكاء حار، ونحيب متصل.

وهدَّأ أوديسيوس من رَوْعها، وقال لها: «إن الإغريق لن يستطيعوا اقتحامَ طروادة، والاستيلاء عليها، ما دام تمثال الربة أثينة قائمًا في معبدها. هكذا تقول النبوءة. وقد جئتُ وصديقي ديوميديس — الذي ينتظرني خارج الأسوار في مخبأ أمينٍ — نحاول سرقةَ التمثال. ولن يرهقنا التغلُّب على الحرَّاس لو حاوَلت مساعدتنا.»

وانفرجت شفتا هيليني عن ابتسامة مبلَّلة بالدموع، فبدَت في عيني أوديسيوس متألقة كما لم تتألَّق من قبلُ قط؛ بل إنها اكتست ثوبًا من الجَمال والفتنة أروعَ من أي وقتٍ مضى. لقد كان جمالها من ذلك الجمال الخلاب، الذي يندُر أن يتأثر بمرور الزمن، ويزيده الحزن تألقًا وازدهارًا.

وتروَّت هيليني في الأمر، ثم ما لبثت أن قالت: «إذا استولى الإغريق على طروادة، فمن ذا الذي يحكي لهم ما فعلت؟ أيْ أوديسيوس، إنني إغريقية مثلك، وسأعمل على معاونتك في مهمتك. هيا، تعالَ معي لأريَك كيف تنفُذ إلى المعبد، ثم إلى الخارج.»

وقادَت هيليني أوديسيوس في طرقات المدينة، حتى بلغت بابًا صغيرًا، برز عنده ديوميديس، ثم عادت بهما إلى المعبد، وقفَلَت راجعةً إلى بيتها، كأنها لم تصنع شيئًا.

ولم يَجِد الرجلان مشقةً في قتل الحارس، ثم دخلا إلى المعبد، فلم تصادفهما صعوبةٌ في الاستيلاء على التمثال. وانطلقا به في شوارع المدينة الخاوية الساكنة في هدأةِ الليل، حتى بلغا ذلك البابَ الصغير، فعبَرا منه إلى الفضاء الفسيح، يهرولان نحو المعسكر الإغريقي؛ ليضعا تمثال الربة أثينة بين أرجائه، برهانًا على دقةِ الخطة، ومهارة التنفيذ.

وظنَّ الإغريق — عندئذٍ — أن طروادة باتت وشيكةَ الوقوع في أيديهم؛ فقد صنعوا ما أوحت به النبوءة، ولكنهم كلما حاولوا اقتحامَ أسوارها صدَّهم الطرواديون على أعقابهم مدحورين مخذولين.

رأى الحكيم كالخاس أن القوةَ ليست الوسيلةَ المثلى للاستيلاء على طروادة، وأن الحيلة قد تكون أجدى من القوة. فعليهم أن يفكِّروا في حيلة ذكية ماهرة للإيقاع بالطرواديين، واقتحام طروادة.

وأعملَ أوديسيوس فِكرَه، فتفتَّق عن خطةٍ ماكرة. وقال يشرح خطَّته: «هيا بنا نصنع من الخشب المتين حصانًا ضخمًا، يتَّسع جوفه لجميع أبطالنا، وعلى الباقين من الإغريق أن يشعلوا النار في الخيام، وأن يبحروا بالسفن، حتى يظنَّ مَن يراهم أن الإغريق قد آثروا العودة إلى بلادهم. ولا يتخلَّف منَّا إلا رجل واحد يكون غير مألوف الوجه للطرواديين، ولْنوثِّق يديه وراءَ ظهره، ولْنلطِّخ وجهَه بالقاذورات والدماء، حتى يقع في وهمِ مَن يراه أنه غريب عنَّا، وأنه قد لقي من سوء معاملتنا ما تَظهر آثارُه عليه.

وأعتقد أن الطرواديين سيسارعون إلى الخروج من حصونهم فورَ رؤيتهم الخيامَ تندلع فيها النيران، والسفن تمخَر عبابَ البحر، وذلك ليلقوا نظرةً على مخلَّفات المعسكر الإغريقي، وليَسْعدوا بفوزهم وقهرهم الإغريق. وسيَرُوعهم أن يجدوا الحصانَ الخشبي الضخم الكبير واقفًا. وهنا يتقدَّم منهم هذا الرجل الغريب الوجه؛ لينبئَهم بأن الإغريق صنعوا هذا الحصان قربانًا للربة أثينة، وتكفيرًا عن خطيئتهم بسرقة تمثالها من المعبد. ويحكي لهم عما قاساه هو من الإغريق، ومحاولتهم أن يقدِّموه ذبيحةً للربة أثينة، لولا أن نجا منهم بأعجوبة!

لو أن هذا الرجل الغريب الوجه نجح في تمثيل دوره بإتقان وبراعة، فمما لا شك فيه أن الطرواديين سيبتلعون الطُّعم، وسيسعدون بما خلَّفه الإغريق تعويضًا للربة أثينة عن تمثالها المسروق، وسيَعْمَدون إلى جر الحصان الخشبي ليدخلوه المدينة، وسيجدونه ضخمًا لا تتسع له الأبواب. ولأنهم أمنوا شرَّ الإغريق، سيحطِّمون جانبًا من الأسوار، يتسع لإدخال الحصان.

وما إن يلجَ الحصان المدينة، ويستقر أمام معبدِها، حتى يعمَد غريبُنا الجاسوس إلى إحدى القمم العالية، فيشعل نارًا عالية، تكون رسالةً موجَّهة إلى سفننا، حيث ينبغي لها أن تعود إلى الشاطئ بأقصى ما يُتاح لها من سرعة، ثم يعود الغريب إلى الحصان، فيفتح أبوابه، ويُخرِج الأبطال المختبئين في جوفه. فإذا ما وطئت أقدام العائدين اليابسة، انطلقوا مسرعين إلى دخول المدينة، وتلاقَوا مع أبطالهم في الداخل. وبذا تسقط طروادة في أيدينا.»

وقعَت خطة أوديسيوس من نفوس الإغريق موقعًا حسنًا، فتسارعوا إلى تنفيذها، وفي نفوسهم توقٌ عارم إلى النصر، والعودةِ إلى أوطانهم. وعهِدوا إلى إيبوس ليتولى صنْع الحصان، فما يعرف الجيش الإغريقي صانعًا أمهر منه. وأمر أغاممنون الرجالَ بقطع الأخشاب من جبل إيدا، ووضعها تحت تصرُّف الصانع ومَن يعاونونه. وراح الإغريق يَعملون في جِد ومثابرة تحت إمرة إيبوس حتى أنجزوا مهمَّتهم، فبدا الحصان برأسه المتقن، وجسمه المحكم، وذيله ذي الشعر المُرسَل، كأنَّه حصانٌ حقيقي تكاد تدِب في أوصاله الحياة.

وما إن تم صُنع الحصان الخشبي، حتى وقف أوديسيوس بين الإغريق قائلًا: «إن علينا أن نقوم الآن بعمل ماهر، وعلى كلٍّ منا أن يبذل جهده ليكون الأقوى والأشد. أصدقائي، إن علينا أن نختبئ في جوف الحصان، ونحن على يقينٍ من إحدى اثنتين: أن تنجح خطتنا، وتخدع الطرواديين حيلتُنا، فنفوز بطروادة. أو أن يكون الطرواديون أشدَّ منَّا مكرًا، فيكتشفوا حيلتنا، وحينئذٍ لا مناص لنا من الموت! ومتى ضمنا جوف الحصان فعلى الآخرين أن يسارعوا بالإبحار وفق الخطة التي اتفقنا عليها إلى جزيرة تنيدوس، وينتظروا هناك الإشارة، التي إذا انبعثت سارعوا إلى الحضور. ولا يبقى هنا إلا واحد منا غريب على الطرواديين وجهه؛ لكي يقص عليهم تلك القصة التي اخترعناها، حتى يضللهم عن خطتنا الماحقة.»

وعندئذٍ، نهض فتًى يُدعى سينون، يعلِن أنه يرغب في أن يكون ذلك الرجل؛ لأنه تتحقَّق فيه كل الصفات المرغوبة، فالطرواديون لا يعرفونه؛ إذ لم يسبق لهم أن رأوه، وهو يأمُل في أن ترعاه الآلهة، وتسدِّد خطواته، وتوقِفه في عرض القصة عرضًا طيبًا.

وتعجَّب الجيش كله من هذه الجرأة التي دفعت الفتى إلى هذا الموقف، فما سبق له أن أبدى شجاعة، أو أظهر تميزًا؛ ومع ذلك أتاحوا له الفرصة، وراحوا يعدونه ليقوم بدوره. وبينما هم يوثقونه بالحبال، ويلطِّخون وجهه بالأقذار، صعد الأبطال إلى جوف الحصان وتكاثروا، حتى لم يَعُد في جوف الحصان متَّسع لأحد، وكان آخرهم صعودًا إيبوس صانِعَه؛ لأنه أكثرهم خبرة ودراية بإغلاق الباب الذي دلفوا منه إلى جوف الحصان، وبفتحه حينما يُتاح لهم ذلك. ولما تمَّ إغلاق باب الحصان سارع الباقون من الإغريق يحرقون المعسكر، ويبحرون بالسفن غربًا.

أضاءت النيران التي أشعلها الإغريقُ ليلَ طروادة، فاستشرف أهلها من فوق قلاعهم ينظرون. فلما شاهدوا خيامَ الإغريق تُحرق، وسفنهم تُبحِر، انطلقوا إلى خارج الأسوار مسرعين، يرقصون ويهلِّلون، وكأنهم في يوم عيد! واغتنم الفتى الفرصة: فرصة زهوهم بنصرهم، ونشوتهم بفوزهم، وراح يقصُّ عليهم في أداء بارع — تلك القصة المخادعة المضللة — قصةَ الحصان وقصته هو، وكلتاهما ملفقتان تلفيقًا محكمًا.

ولم يَجِد عناءً في أن يصدِّق الطرواديون ما رواه؛ فقد أعانته نشوة النصر، التي أخمدت الفكرَ، على ما يريد. وما لهم لا يصدِّقون وهم يرون — بعيونهم — العدو مخذولًا، ويقفون في معسكره — الذي كان — فلا يجدون منه بقيةً غيرَ هذا الحصان، الذي خلَّفه قربانًا للربة أثينة.

لقد قرَّر الطرواديون أن يحملوه إلى معبدها، ولكنهم يرونه ضخم الجسم، كبير الحجم، لا يتسع له أي باب من أبواب المدينة، فلنحطِّم جانبًا من حوائط السور؛ كي يتاح لنا أن نبلغ بالحصان مقرَّه، ونشكر الربة أثينة التي منحتنا الحماية والرعاية.

وبذلك استكمل الطرواديون بأيديهم آخرَ حلقات الكارثة التي كانت تترصَّدهم، وراحوا يَغُطُّون في نوم عميق، تتراءى لهم الأحلام الدافئة العبِقة بشذا النصر.

ولم يضيِّع سينون وقتًا، بل خرج يعدو إلى برج القلعة العالي، فلم يَجِد عنده مَن يحرُسه؛ فقد شُغل الحراس بولائم النصر التي عمَّت المدينة. وهناك أشعل النار عاليةً تُبلِّغ الإغريقَ رسالته، ثم عاد منطلقًا في خفةِ العصفور إلى حيث يقف الحصان الخشبي أمام المعبد، فأسرَّ إلى القوم بضعَ كلمات، خرجوا على إثرها مسرعين، يهبِطون السلَّم الذي أعدَّه إيبوس لذلك.

هبطوا وكلٌّ منهم قد شحذ سلاحه، ودقَّات قلوبهم تتلاحق حذرًا من المفاجآت، التي قد يكون القدرُ مخبِّئها لهم.

انطلقوا إلى أقربِ البيوت منهم، يَحرِقونها ويقتلون أصحابها، ويثيرون الرعبَ والفزع في المدينة. أما الإغريق الباقون فقد عادوا مسرعين عندما بلغتهم رسالةُ النار المشتعلة، وولجوا المدينةَ من الفجوة التي دخل منها الحصان، ولم تصادفهم أيةُ مقاومة؛ فقد اضطرب أمرُ المدينة، وسادها الرعب والفزع.

وهكذا سقطت طروادة التي أثملها زهوُ النصر، ونشوة الظَّفر.

وانطلق مينيلاوس، وأوديسيوس، في طريقٍ يعرفانه حقَّ المعرفة. انطلقا إلى بيت دايفوبوس، حيث كانت تعيش هيليني بعد موت باريس. وحينما اقتحموا المنزل كان دايفوبوس نائمًا، فاستيقظ على وقعِ أقدامهما، وأدرك ما يُراد به وبهيليني من شرٍّ؛ فامتشق سيفه، وراح يقاتل بكلِّ ما أُوتي من قوة وشجاعة، لكن الضربات التي انهالت عليه من سيف مينيلاوس أردَته قتيلًا.

أما هيليني فقد أذهلتها المفاجأة، فطَفِقت تفرُّ من وجه مينيلاوس يمينًا وشمالًا، وهي تصرخ صراخًا عاليًا، لكن لا منقذَ لها ولا مغيث؛ فكلُّ مَن في طروادة في شُغلٍ وهمٍّ يُغنيه.

نظر إليها مينيلاوس والسيفُ في يده يقطُر دمًا، وصدره يتَّقد غضبًا عليها، وغيظًا منها؛ ولكن …

هناك لحظات قصار تتوقَّف عندها عجلةُ الزمان!

لقد رآها تقف هناك — كطائر مذعور — تحت الوهج الساطع من المدينة المشتعلة، يشتدُّ وجيبُ قلبِها، حتى ليكاد يَسمعُ دقَّاته، فوقعت عيناه منها على الجمال الخالد في أكمل صوره، فعاوده حبُّه الجارف لها، ووجدُه لفراقها، وحنينه إليها؛ فلم يستطِع لهذا الجمال الخالد مقاومة، ولا عليه امتناعًا.

نسي ما جشمته من متاعب وأهوال، وانزاح ما كان يجثم على صدره من حقدٍ ورغبة في الانتقام، وامتلأ بالتسامح والغفران. وفي غمرة هذه المشاعر الجياشة مدَّ إليها يدَه، وأمسك يدها، وتراخت قبضةُ يده الأخرى عن سيفه، فسقط على الأرض؛ إيذانًا بانتهاء عهدِ الصراع، وابتداء عهد الوئام والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤