الفصل السابع

ضَياع الحُلة الحربية

كادت الحَيرة تعصِف بعقل هكتور، وهو واقف هناك بجوار أسوار طروادة، تتقاذفه الأفكار: هل يخرُج لقتال الإغريق في السهل أم ينكفئ على نفسه، ويعتصِم بالأسوار هو وجيشه؟ وما أخرجه من حَيرته إلا الإلهُ أبوللو، الذي تقمَّص صورةَ صديق لهكتور، وزيَّن له الخروج قائلًا له: «إن أبوللو يطلب منك أن تخرج لقتال الإغريق، ويَعِدك بالمعاونة، ولن يسمح لهم بالانتصار عليك.»

عندئذٍ فارقته الحيرة، ونزلت عليه السكينة، وانطلق وجيشُه من ورائه لملاقاة الإغريق في السهل، حيث دارت رحى المعركة.

وما إن لمح باتروكلوس هكتور حتى قفز إلى الأرض من العربة، وفي يده اليسرى رمحُه، يهزُّه ملوحًا به، ومتوعدًا غريمَه. وكذلك أسرع هكتور بالنزول من عربته، ممتلئًا ثقةً بوعد أبوللو له. واحتدم الصراع بين الرجلين، كلٌّ منهما يَود أن يفتك بصاحبه فتكًا ذريعًا. وراح باتروكلوس يداهم هكتور بقوة وشجاعة، وهكتور يداوره ويناوره، ويفاجئه بضربات قوية، ولكنها لا تبلغ منه شيئًا. وإذا بأبوللو يَهُبُّ لحسمِ النزاع، فيضرب باتروكلوس على رأسه ضربةً عنيفةً شديدة، أطارت خوذته، وجعلتها تَهوي إلى الأرض .. هذه الخوذة التي لم تعرِف من قبل إلى الأرض طريقًا؛ لأنها كانت دائمًا فوق رأس أخيليوس الذي لا يُقهَر. لقد كانت ضربة أبوللو عنيفةً شديدةً جعلت باتروكلوس يُحِسُّ كأن الأرض تدور به، كما جعلت جسمه يترنَّح من شدة الدُّوار، مما أتاح الفرصةَ لهكتور أن يعاجله بضربة أخرى أودَت به. وسقط على الأرض يلفِظ آخرَ أنفاسه. ولم يمهله هكتور، وإنما اعتلى صدره، وهو يقول: «أيْ باتروكلوس، منذ قليل كنتَ تحسِب أنك ستقهر طروادة، وتسوق نساءنا سبايا ذليلات إلى بلادكم، وها أنت ذا الآن ترقُد جثةً هامدة لا حَراك بها. حقًّا لقد كان أخيليوس أبعدَ ما يكون عن الحكمة حين أرسلك لقتالنا!»

وفي صوتٍ خفيض متحشرج، ردَّ عليه باتروكلوس: «أيْ هكتور، لا تغتبط كثيرًا، فإنك ستلحق بي بعد قليل، ولن يدعك أخيليوس غيرَ جثة هامدة بعد قتلي! لقد سلَّمتني الآلهة لك فريسةً سائغة، وعاجلني أبوللو بالضربة التي أودت بي، فالفضل في قتلي يرجع له لا لك. ما كنتُ أبدًا يا هكتور خائفًا أن ألقاك في معركة متكافئة؛ ولكنها إرادة الآلهة! لستَ أنت الذي قضى عليَّ اليوم، وستلقى جزاءك من أخيليوس.»

ثم أسلمَ باتروكلوس — البطلُ الشاب — الروح، بعد أن أبدى في حومة الوغى بطولاتٍ رائعة، وقاتل قتالًا مجيدًا.

ولم يتوانَ هكتور عن انتزاع الحُلة الحربية التي يرتديها باتروكلوس، حُلة أخيليوس الذائعة الصيت، ذات الوهج الذي يكاد يخطِف الأبصار. وحاول أن يستولي على العربة وجيادها الخالدة، لكن أوتوميدون تقدَّم مسرعًا، ونحَّى الجياد الخالدة وأنقذها من الاغتصاب، وعاد بها مسرعًا إلى أخيليوس العظيم.

أشاح مينيلاوس بوجهه بعيدًا، وهو يرى باتروكلوس يسقط صريعًا، ولكنه لم يتوانَ عن الاستنجاد بالإغريق؛ ليقفوا معه صفًّا واحدًا، يحمي جسدَ باتروكلوس البطل الشاب، ويحول بين الطرواديين وبين أن يمثِّلوا به، وينتهكوا حُرمتَه. وكان هكتور قد تراجع مسافةً غير بعيدة عن الجثة الممدودة فوق الأرض؛ كي يرتدي حُلة أخيليوس الحربية، التي سلبها من فوق جسد باتروكلوس، ولذلك أطلق عليه جلاوكوس الغاضب لقبَ «الجبان».

عاد هكتور إلى الجثة الممدَّدة فوق الأرض؛ كي ينتشلها، ولكنه لم يستطِع الوصول إليها؛ إذ سُدَّت الطريقُ نحوها؛ فقد قام من دونها سياجٌ منيع حصين من الرماح الإغريقية الحادة، يمنع أيَّ طروادي من بلوغها. ودارت المعركة حاميةً بين الفريقين من خلفها وأمامها، وعن يمينها وشِمالها: كل فريق يستميت للظفر بها، الإغريق يريدون إنقاذَ جثة بطلهم الشاب لتكريمها في معسكرهم، والطرواديون يريدون الاستيلاءَ عليها للتمثيل بها، وإلقائها طعامًا للكلاب؛ نكايةً في الإغريق، وتحقيرًا لهم، وازدراءً بهم.

وكان أخيليوس — آنذاك — فوق ظهر سفينته، يشهد سيرَ المعركة التي استعرَ أوارُها، ولكنه — بعد قليل — لاحظ أن الإغريق يتسارعون عائدين إلى معسكرهم في فوضى واضطراب مذهلَين، وهو لا يدري لهذا سببًا. إنه يشعر بالهم يجثُم على صدره، وبالمرارة تنبُت في قلبه. إنه يحسُّ نفْسَه منقبضةً مستوحِشة. إنه يخشى على باتروكلوس الهلاك.

ولم تمضِ غير لحظات حتى جاءه صديقٌ يسعى، وقد علا نشيجُه، وفاضت دموعُه، فأحسَّ أخيليوس عند مَرْآهُ أن الخطر يزحف إليه زحفًا سريعًا، وأدرك أن في الأمر سرًّا، وأن وراء الرجل نبأ خطيرًا. وما إن بلغه الرجلُ حتى قال بصوتٍ تخنُقه العَبَرات، ويقطَعه النحيب: «أيْ أخيليوس، إنني أحمل إليك نبأ غيرَ سار. لقد سقط باتروكلوس مخضَّبًا بدمائه، بعد أن قاتل قتالَ الأبطال، وانتزع هكتور حلَّته الحربية — حلَّتك الذائعةَ الصيت — والقتالُ محتدِم الآن بين الفريقين حول جسده العاري.»

ندَّتْ عن أخيليوس صرخةٌ مدوِّية مفزِعة، صكَّت مسامعَ أمه ثيتيس، فهُرعت إليه، تسأله ما سببُ حزنه. إن الإغريق يعانون معاناةً مؤلمة من جرَّاء إهانتهم له.

«أيْ أماه، ليس الأمر أمرَ كبرياءَ مجروحة، ولا كرامةٍ مخدوشة؛ فذلك كله هيِّن الآن، ولا يَضيرني. إنما هو صديقي باتروكلوس الذي أصفيتُه وُدِّي، وآثرتُه على غيره من زملائي. إن هكتور انتزع روحه بطرف رمحه، ولن يهدأ لي بال حتى أثأر له، وأنتقم من هكتور ذاك الذي قتله.»

– «ولدي الحبيب، إنَّ عليك أن تشكر الآلهة، فلو أنك قتلت هكتور لأسرعت في اللَّحاق به إلى الموت.»

وفي غضبٍ شديد، انفجر أخيليوس: «ليتني أموت الآن! فما قيمةُ الحياة بعدَ فقْدِ أعز الأصدقاء؟ إن باتروكلوس يرقُد هناك جثة هامدة فوق شاطئ غريب، دون أن تمتد يدي إليه بالعون، ولا يدُ أي إغريقي آخر.

تبًّا لهذه الأحقاد السخيفة التي أوقفتني هذا الموقف، وجعلتني أقبَع في مكاني هذا خاملًا عاجزًا عن أن أمُدَّ لصديقي يدًا. إنني سأنسى هذه الأحقاد، وسأعود إلى القتال؛ لأنتقمَ من هكتور، ذاك الذي قتل صديقي.»

– «أيْ ولدي أخيليوس، لن يستطيع أحدٌ لومَك على وفائك لصاحبك، وثأرك له؛ بل إن ذلك دليلُ نُبْلك وأصالتك. ولكنك تعلم أن الطرواديين قد استولوا على حلَّتك الحربية، وهي تستقر الآن فوق منكبَي هكتور. تريَّث يومًا واحدًا حتى أستطيع تعويضك عنها. سأحضِر لك غدًا حلةً رائعة أبدعتها يدُ فنانٍ صَناعٍ، هو الرب هيفايستوس، صانعُ المعادن القادر.»

وانصرف ثيتيس وقد خلَّفت وراءها ابنَها أخيليوس، يئن قلبه تحت وطأة الحزن المُقيم، ولا يؤنسه في ليله الطويل الكئيب غيرُ نحيبه ونشيجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤