مقدمة

الحمدُ لله الذي عَلَّم بالقَلَم، وأَلْهَمَ نوابغ الكَلِم، وجعل الأمثالَ والحِكَم: أحسنَ أدبِ الأُمَم، وصلى اللهُ وسلَّم على محمدٍ دِيمَة البيان المنسَجِمة،١ وعلى موسى الكليم وعيسى الكلمة.٢
وبعدُ؛ فهذه فُصولٌ من النثر، وما زعَمتُ أنها غُرَرُ زياد،٣ أو فِقَرُ الفصيح من إياد،٤ أو سَجْعُ المُطوَّقةِ على فرعِ غصنها الميَّاد،٥ ولا توهمتُ حين أَنشأتُها أني صنعْتُ «أطْواقَ الذهب» للزَّمَخْشَرِي،٦ أو طبعتُ «أطباقَ الذهب»، للأصفَهانيّ، وإن سميْتُ هذا الكتاب بما يُشبهُ اسميهما، ووسمتُه٧ بما يّقْرُبُ في الحسن من وسْمَيْهما — وإنما هي كلماتٌ اشتملَتْ على معانٍ شتَّى الصُّوَر وأَغراض مختلفةِ الخَبَر، جليلةِ الخَطَر؛ منها ما طال عليه القِدَم، وشاب على تناوُلِه القَلم، وألَمَّ به الغُفْلُ٨ من الكُتَّابِ والعَلَم.٩ ومنها ما كثُرَ على الألسنة في هذه الأيام، وأصبَح يَعْرِضُ في طُرُق الأقلام، وتجري به الألفاظُ في أعِنَّةِ١٠ الكلام؛ مِن مثْل: الحرية والوطن، والأمة، والدُّستور، والإنسانية وكثيرٍ غير ذلك من شئون المجْتَمَع وأحوالهِ، وصفاتِ الإنسان وأفعالهِ، أو ماله علاقة بأشياءِ الزمن ورجالهِ؛ يكتَنفُ ذلك أو يمتزجُ به: حِكَمٌ عن الأيام تلقيْتُهَا، ومن التجاريب استَمْلَيْتُها، وفي قوالب العربيةِ وعيتها١١ وعلى أساليبها حَبَّرْتُها ووشَيْتُها؛١٢ وبعضُ هذه الخواطر قد نَبَع من القلب وهو عند استِجْمَام عفْوِه،١٣ وطلَع في الذهن وهو عند تمام صحْوِه وصفْوِه؛ وغيرُهُ — ولعله الأكثر — قد قيل والأكدارُ ساريَة، والأقدار بالمكاره جارية، والدار نائية، وحكومة السيف عابثة عاتية؛ فأنا أستقيل القارئ فيه السَّقَطَات، وأستوهِبُه١٤ التجاوُزَ عن الفَرَطَات.١٥

اللهمَّ غيرَ وجهكَ ما ابتغَيْت، وسوى النفعِ لخلقكَ ما نَوَيْتُ، وعليك رجائي ألْقَيْت. وإليك بذُلِّي وضَعْفي انتهيت.

١  الديمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق والمنسجم السائل المنصب.
٢  الكليم: لقب موسى لأنه كلم الله. والكلمة: لقب عيسى، عليهما السلام.
٣  زياد بن أبيه من أشهر خطباء الدولة الأموية.
٤  هو قس بن ساعدة الأيادي، ويكاد يكون أخطب خطباء الجاهلية. والفقر: جمع فِقرة، وهي من النثر بمنزلة البيت من الشعر.
٥  المياد: الكثير الميد، والميد، الميل والتحرك.
٦  أطواق الذهب، وأطباق الذهب: كتابان من كتب المقامات في الوعظ والإرشاد، وكلاهما في عليا مراتب البلاغة: الأول لجار الله الزمخشري. والثاني للعلامة الأصفهاني عليهما رحمة الله.
٧  وسم الشيء: جعل فيه أثرًا. والوسم: الأثر والعلامة.
٨  الغفل: المجهول.
٩  العلم: المقدم.
١٠  أعنة: جمع عنان.
١١  وعى: حفظ.
١٢  حبر الكلام ووشاه: حسنه وزينه.
١٣  استجم الماء استجمامًا: كثر واجتمع. والعفو من الماء: ما فضل عن الشاربة وأخذ من غير كلفة ولا مزاحمة.
١٤  استوهبه: سأله الهبة.
١٥  الفرطات: جمع فرطة، وهي ما فرط من الشخص من تقصيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤