الذِّكْرى

من البِرِّ يا قلبُ أن تََّّذََّكِرْ،١ فَمِلُ بي على الفائتِ المُنْدَثِرْ، ولا تَألُ٢ ذكرىَ ولا تَدَّخِرْ. هَلُمَّ نَنشُرْ مَطْوِيَّ الصَّفَحَات، ونُقَرِّبْ نازح٣ اللذات، ونَؤُبْ من سَفَرِ الأيَّامِ بغائب اللُّبَانات.٤ أَعِدْ عَلَيَّ من دَقَّاتِ نَاقوسِكَ ترنيمًا،٥ كان لذيذَ الحواشي رخيمًا، ومن دقائق ساعتِك ما رنَّ في أُذني قديمًا، فما زِلتَ يا قلبُ تقْضِي الحُقوق، وتذكر العهودَ فتَجْزيها التَّلَفُّتَ٦ والخفوق، حتى كأنَّك قلبان، اثنان، قلبٌ مع الماضي مُتخلِّفُ العِنان، وقلبٌ يساير رَكْبَ٧ الزمان، بِعيشِك قلْ لي: من علَّمَك ردَّ الأحلام، ورجوعَ القَهْقَرَى في نَواحي الأيام؟؛ ومن رَسَمَ لك الإلْمام،٨ بدِمًنة عَيْش أو برَسْمِ غرام؟،٩ ومن علَّم الدَّمَ وِصْلَ الحبال،١٠ وَحمَّل اللَّحمَ ما يوهن الجبال، من الحنين إلى سالفٍ خال، أو البُكاء على دارسٍ بال؟، وما سُلطانُك يا قلْبُ حتى تُدْنِيَ المُمْعنَ١١ في بُعْده، وتجِدَه وإن تطاولَ العهد على العهدُ على فَقْده؟ ومن علَّمك أن تتحدَّث، وتقلبَ الأقْدَمَ والأحْدَث،١٢ وتذكرَ الصِّبَا وأيامَه، وواديَهُ وآرامَه،١٣ وبِساطَه ومُدامَه؟ …
هو اللهُ الذي صَوّرك فأدَقَك، وقدّر خفوقَك ودقَّك، ومهَّدَك وزقَّك،١٤ وكتب عليك في الضُّلوع رِقَّك؛١٥ وما أنت لولا التذكرُ والفكر، إلا كبعْض القلوبِ إذا هي حَجَر، ينفجرُ بالعَذْبِ ولا يَعلمُ كيف انفجر، ولا متى نَبَعَ ولا أين انحدر، أو كالأرضِ يذهبُ شَجرٌ ويأتي شَجر. فلا تذكرُ ما غاب، ولا تشعُرُ بما حَضَر.
١  اذكر الشيء: ذكره.
٢  ألا في الأمر يألو: قصر فيه وأبطأ.
٣  النازح: البعيد.
٤  آب يؤوب: رجع، واللبانات: الحاجات.
٥  الترنيم: تطريب الصوت.
٦  تلفت القلب: كناية عن الشوق.
٧  الركب: ركاب الخيل أو الإبل.
٨  رسم له كذا. أمره به وألم بالقوم إلمامًا: زارهم زيارة قصيرة.
٩  الدمنة: آثار الدار، والرسم: ما كان لاحقًا بالأرض من هذه الآثار.
١٠  المراد بالحبال هنا: العهود.
١١  الممعن: المبالغ.
١٢  مبالغة في القديم والحديث.
١٣  الآرام: جمع وثم وهو الظبي الخالص البياض.
١٤  زق الطائر فرخه: أطعمه بمنقاره.
١٥  إشارة إلى سجنه تحت الضلوع من يوم الميلاد إلى يوم الوفاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤