الحَجُّ

مَوْكِبُ الإسلامِ ومَظْهَرُه، ولُبَابُ حَسَبِه وجَوْهرُه، ومَوْسمُه الحرامُ أشْهُرُه. مِهْرجانُه العظيم، وعُرْسُه الفخيم، وندِيُّه١ الكريم، والنّظْمُ الذي قَرَنَ فيه الدّنيا إلى دينِهِ القويم، فجعَلَه لها صلاحًا وعِمارة، ومَلأَها بيُمنِهِ نماءٌ ويسارة،٢ وأفاض بَرَكاتِه على التِّجارة؛ وسخَّرها لخدمَتِه، وإظهارِ دَعْوتِه، وجَمْعِ كَلِمتِه، وتَوْثيقِ عُرْوَتِه؛ فإذا أظَلَّتْ أيام الحجِّ المباركَات نظرْتَ إلى البلاد فرأيْتَ أسواقًا ماجت، ومتاجرَ راجَتْ، ومَطايا من مرابِضِها اهتاجَت؛ ورأيْتَ الحِجازَ مُهتَزَّ المناكب، يموجُ المواكب؛ مفتَرَّ المباسِم، في وُجوهِ المواسِم؛ أخلَفَهُ الغيث٣ فمَطِرَ الذهب، ويبسَ الزرع فطَعِمَ الرُّطَب؛ أزوادٌ٤ تُعدّ، ورحالٌ تُشَدّ، وشُرُعٌ تُمدّ، وحاجاتٌ تنشأُ وتَسْتَجِدّ؛ وأُمَم أتَوا من نواحي البلاد يضعون التُّحف المجلوبة، ويأخذون الأجْرَ والمَثُوبة.
فيا أيُّها المعتزم حجَّ البيت، المُشَمِّر لأداء الفريضة: لقد أطعْت، فهل استطعت؟ وأجبْت فهل تأهَّبْت؟ وهل علمتَ أن الإسلامَ شِرْعَةُ السَّماحة، وأن ربَّ البيت واسعُ الساحة؟ يُعْفِي المريضَ حتى يُعَافَى، ويُقيل المُعْدِمَ حتى يجِد، ولا يؤاخِذُ أخا الدّين حتى يَقْضِيَ دَيْنَه، ولا يُنْكِر على الخائف القرار٥ حتى تأمَنَ السبيل من وباءٍ مهتاج، أو لصوص قد أخذوا الفجَاج،٦ أو حُكومةِ جائرة تَبْتَزُّ الحُجَّاج؟
كُبْرَى الكبائر أن تلْقى اللهَ في بيْتِه، وبين وَفْده، بمالٍ خَلَسْتَه من أحدِ اثنين يُحبُّهما اللهُ حبًّا جمًا، اليتيم — وأنت تعلمُ أن مالَه نار، وأنَّه نَحْسُ الدِّرهم نُحَاسِيُّ الدينار.٧ والفقير — وقد فَرَضَ اللهُ له في مالكِ حصَّةً سمَّاها الزكاة، فتغابيْتَ يا مُخادِعَا لله، وخرجْتَ بها تحُجُّ للتظاهر والمباهاة؛ وهل علمتَ أن اللهَ لا يقبلُ منك مالاً ونَفَقَةُ المطلقة، من مَطْلٍ مُعَلَّقة؛ وذو القُربى وراءَك جائع، والولَد طريدُ المدارسِ ضائع؛ وتِجارتُك مُختَلَّة، وأمانتُك مُعتلَّة؛ وجارُك الضعيفُ يَضِجُّ من حَيْفِك، وخصيمُك الأعْزَلُ يَشكو سَطوةَ سَيْفك؛ فإن لم يكن شيءٌ من ذلك أو مما إليه فَسِرْ على اسمِ الله، وحُجَّ بيْتَ الله، وارجعْ برضْوان من الله.
١  الندى: المجلس.
٢  اليسارة: الغنى.
٣  الغيث: المطر. وأخلفه: لم ينزل به.
٤  الأزواد: جمع زاد: وهو طعام السفر.
٥  المكث في داره.
٦  الفجاج: الطرق الواسعة بين الجبال.
٧  المراد بالدرهم النحس: أنه شؤم على كل من اغتصبه. والدينار النحاس: الذي لا قيمة له؛ لأنه حرام، والحرام لا يدوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤