البَحْرُ الأَبَيِضُ المُتَوَسِّطُ

سيِّدُ الماءِ، وملكُ الدَّأماء،١ مهدُ العِلْيةِ القدماء؛ دَرَجت الحكمة من لُجَجِه،٢ وخرجتِ العبقريَّة من ثَبَجِه،٣ ونشأتْ بناتُ الشعرِ في جُزُره وخُلُجه؛ بدتِ الحقيقة للوجود من يَبَسه ومائه، وجَرَّب ناهضُ الخيال٤» جناحيه بين أرضِه وسمائه؛ العُلومُ نزلتْ مُهودَها من ثراه، والفنونُ رَبَيت في حجال رُباه،٥ والفلسفة تَرعْرعَتْ في ظلِّه وذَرَاه؛٦ «بنتَاءُورُ» وُلِدَ على عِبْرِه،٧ و«هوميرُ» مُهِّدَ بين سَحْرِه ونَحْره،٨ ونَحَتَ الإلياذة٩ من صخره، و«هيرودوتُ»١٠ دوَّنَ مُتونَهُ على ظَهْره، و«الإسكَندرُ» انتهى إليها بفَتْحِهِ ونَصْره. الموسيقى دبَّتْ في أحْناء١١ هياكلهِ، وشبَّتْ في أفياء خمائِله؛١٢ ثم لم يزَلْ بها تَرسُّلُ١٣ الرُّهْبان، وترتُّلُ الأحبار والكهَّان، حتى جاوزت الحناجر إلى المعازف، فنَزلت اليراعَ المطرِّبَ١٤ والنحاسَ الهاتف؛١٥ لم تخلُ ثُكْنة١٦ من بوق، أو طبلِ مدقوق؛ ولم يخْلُ كوخٌ من يراعٍ مثقوب، ولا قصرٌ من وتَرٍ مَضْرُوب.
وعلى أديم الأبيض المتوسِّط مشى المثَّالُ الأوَّل،١٧ وبحجارتِه وقف فتخيَّل؛ فَلاَنَ لبنانِهِ الحجَر، ودان لمِنْحاتِهِ١٨ الصخر، حتى زيَّنَ الزُّونَ١٩ بالبديع والغريب، ونثرَ الدُّمَى على المحاريب،٢٠ وجاء في الفنَّ بالأعاجيب؛ صَنَع أبا الهوْل، فجاءَ بالهوْل والزّوْل؛٢١ كان ذلك حينَ سائرُ المعمور مجاهل، والناسُ جُهَّال؛ عالَمٌ غافل، يَهيمُ في أغْفَال.٢٢

فيا ناشئ الكِنانة:

إذا وقفتَ على لجَّة «الرمل»، أو نقَّلتَ القدمَ على رملة «المكْس»؛ في أصيل لدَّتْ حواشيه، وحلَّى جِلْبابَهُ بالذََهب واشيه، وفضاءً اصفرَّ من نَعيِّ الشمس ضاحِيه،٢٣ وقُرِّبَتْ لها الأكفان من زَعْفران نواحيه،٢٤ فتبصَّر! هلْ ترى غيرَ ساحلٍ طيِّب البُقْعَة، وأديمٍ جيِّد الرُّقعةَ؟ وهل تُحسُّ غَيْرَ بحر ضاحك الماء. مُتَهلَّلِ السماء، حُلْوِ بشاشة القضاء؛ يصحبُ الصَّحْو، ويسحب الزهو،٢٥ ويلهو وما عرفَ اللَّهْو،٢٦ وخريرُهُ تسبيحٌ وما هو بِلَغْو؟٢٧
لآبائكَ عنده — مُنذُ ماجت أمواجه، ولجَّتْ لِجاجُه،٢٨ وهدَرَ عَجَّاجه،٢٩ وأنشئ للرِّياحِ شِراعهُ وساجه٣٠ — جِوَارُ الأكرمين، وصحبةُ المحسنين، وكنَفُ السِّماح الخيِّرين: شمسٌ متوقِّدَة، وطبيعة مُتَوَدِّدة، ولجَّةٌ غيرُ مُتمرِّدة، وغيرُه من البحار ذميم الجِوار، لئيم النِّجار؛٣١ ضبابٌ مخيِّم وسحابٌ مُدَيِّم؛٣٢ أعاصيرُ مُرسلَة، وصواعِقُ مُنزَلة؛ زمنٌ مُضطَرِب الفصول، وطبيعةٌ تَختِلفُ وتحول، كما تَلوَّنُ في أثوابِها الغُول.٣٣

تلكَ اللُّجَّة — أيُّها الناشئ — هي من أوطانِكَ عُنوانُ الكتاب، ومِصْراعُ الباب، ووجهُ الخميلة، وظاهِرُ المدينة، وعَوْرةُ الحصْن؛ وإنَّ قومًا لهم على البحرِ مُلك، وليس لهم فيه فُلك: لقَوْمٌ دُولتُهم واهية السِّلْك، وسلطانهم — وإن طال المدَى — إلى هُلْك!

ويا أيُّها الأبيض الأعزُّ سلامٌ، وإن أنزَلَتنا عن صَهْوَتكَ الأيام، وأبدَلتْنا من سلطانك الخافق الأعلام، بممالكَ من كلام، ودُوَل من أمانيٍّ وأحلام! ويا عَرْشَ الأبُوَّة ثناء، وإن ثلَّك الأبناء، ثم لم يُحسِنوا البناء؛ أين دُوَلٌ كانتْ مطالعَ أنوارك، ومعاصم سُوارك، وما الذي نأى بجَواريها٣٤ عن جِوَارك، وهوى بسواريها٣٥ في أغْوارك؟ أين الفراعنة وما جدَّفوا من بُروجٍ مشيَّدة،٣٦ والبطالسة وما مدُّوا من شُرُعٍ كالصُّروح الممرَّدة؟،٣٧ وأين الشَّوْنات الأيُّوبيَّة،٣٨ والبوارج العَلَويّة؟٣٩ هيْهات! أزْري الدَّهر بالإسكَندريَّة، فحجَبَ ذلك المنَار،٤٠ ونصبَ على الفنار، وأين الليلُ والنهار، وأين الظلماتُ من الأنوار؟ ذلك كان أضوأ هالة،٤١ وأسْطعَ على التَّمَكُّنِ في الأرضِ دَلاَلة، وأضْفَى على مناكب البَرِّ والبَحْرِ جلالة؛ يهتدي به الداخِلُ والخارج، ويستأمِنُ الدابُّ في حِماهُ والدارج، وتنيفُ٤٢ عليه البُروجُ وتطيفُ به البوارج؛ وهذا٤٣ سراجُ بَيْت، وذبالة زيْت، وشعاعٌ كنَفَسِ المحتَضَرِ حيٌّ مَيْت!
مُلْكنا الواسِعُ من ورائه بابٌ ولا بوَّاب، وسُدَّة ولا حجاب، غابٌ ولا ناب٤٤ ووكرٌ ولا عُقاب؛ تعاقَبَتْ عليهِ حُكومات ألقت السِّلاح، وألْغت الإصلاح؛ تقول فتَجِدُّ وتعملُ فتهزِل، ولا تُحسنُ من سياسَة الملكِ غيرَ أن تولِّي وتعزل، وتَجبي القطنَ ولا تفكرُ في المغْزل! تخايلُ بالبَحريَّة والوزير، وتأتي قبلَ الماء بالزير!!
١  الدأماء: البحر، والمراد به هنا المياه.
٢  اللجج: جمع لجة. وهي معظم الماء.
٣  الثبج من كل شيء: وسطه ومعظمه.
٤  الناهض: فرخ الطائر إذا نشر جناحيه وتهيأ للطيران.
٥  ربيت الفنون: أي نشأت ونمت. والحجال: الخدور — الربا — جمع ربوة. وهي ما ارتفع من الأرض.
٦  الذرا: الملجأ.
٧  بنتاءور: شاعر مصر القديم. وعبر البحر: شاطئه.
٨  هومير: أقدم شعراء اليونان. والسحر والنحر. هما الرئة، وموضع القلادة على الصدر.
٩  الإلياذة: ديوان من شعر هومير، جمع فيه مفاخر الأبطال القدماء.
١٠  هيردوت: هو المؤرخ المصري المشهور.
١١  الأحناء: الجوانب.
١٢  الأفياء: الظلال، والخمائل: جمع خميلة: وهي مكان يلتف فيه النبات.
١٣  الترسل: الترفق.
١٤  اليراع: القصب الذي يزمر به الراعي والمطرب: الذي يرجِّع الصوت ويُحسنه.
١٥  هتاف النحاس: ترجيع الصوت في أبواقه.
١٦  الثكنة: معسكر الجند.
١٧  أديم البحر: صفحته. والمثال — بالتشديد — صانع التماثيل، ولعل المؤلف أوَّل من نبه إلى استعمال هذا اللفظ الدفين.
١٨  المنحات: آلة النحت.
١٩  الزون: مجمع الأصنام.
٢٠  الدمي: جمع دمية وهي الصورة المزينة أو الصنم المنقوش. والمحراب: صدر البيت أو أكرم مواضعه، والجمع محاريب.
٢١  الزول: العجب.
٢٢  الأغفال: جمع غفل، والأرض الغفل: التي لم ينصب عليها علم ولم تقم عليها عمارة.
٢٣  ضاحيه: ظاهره وباديه. ونعي الشمس: مجاز يراد غروبها. واصفرار الفضاء لنعي الشمس استعارة شبهت فيه الشمس بميت، وشبه الفضاء بمن أصيب فيه، فانتابه من صفرة الروع ما ينتاب الثاكل المرزوء.
٢٤  الأكفان من زعفران: كناية عن صفرتها، ولا يزال المؤلف مستمرًا في مجازه الذي ابتدأه في الجملة السابقة.
٢٥  الزهو: العجب والتخايل.
٢٦  لهو البحر: تلاعبه بما على صفحته من السفن.
٢٧  اللغو من الحديث: الباطل، والمراد بتسبيح الحرير: ما يلقي في النفس من أثر اليقين في صوته العجيب.
٢٨  اللجاج: جمع لجة وهي معظم الماء.
٢٩  العجاج. من الماء: ما سُمع له عجيج.
٣٠  الساج: شجر عظيم ينبت في الهند، وخشبه رزين أسود لا تكاد الأرض تبليه، والمراد به هنا: ما يصنع منه سفين.
٣١  النجار: الأصل.
٣٢  سحاب مديم: أي ممطر.
٣٣  تلون: أصلها تتلون، ثم حذفت التاء للتخفيف، والغول: من يتلون ألوانًا مختلفة من الجن والسحرة.
٣٤  الجواري: السفن.
٣٥  السواري: عمد ينصب عليها الشراع.
٣٦  البروج المشيدة هنا: يراد بها السفن الضخمة. والتجديف: تسيير السفن بالمجداف.
٣٧  الشُرُع: القلوع. وتمريد البناء: تمليسه وتسويته.
٣٨  الشونات: هي سفن الحزب، وقد كان لبني أيوب منها أسطول عظيم.
٣٩  التي أنشأها محمد علي باشا جد الأسرة المالكة.
٤٠  المنار: الذي أقامه البطالسة في الإسكندرية، فكان سراجها الوهاج.
٤١  هالة القمر: دارته، والإشارة هنا للمنار.
٤٢  تنيف: تشرف.
٤٣  الإشارة للنار الموجودة الآن.
٤٤  الناب: يطلق على الأسد، من تسمية الكل باسم جزئه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤