الذِّكْرَى

[هذه قصيدة من الشعر المنثور تغزل فيها المؤلف بالحرية، وأهداها إلى روح صديقه المرحوم مصطفى كامل باشا بمناسبة ذكرى وفاته.]

قلْ لا أعرِف الرِّقّ، وتقيَّد بالواجب وتقيَّد بالحقّ؛ الحرية وما هِيَه؟ «الحُمَيراءُ»١ الغالية، فِتنةُ القرون الخالية، وطَلِبةُ النفوسِ العالية؛ غِذاءُ الطّبائع، ومادّةُ الشرائع، وأُمُّ الوسائل والذَّرائع؛ بنتُ العلم إذا عمّ، والخلق إذا تمّ، وربيبة الصبر الجميل والعمل الجمّ؛ الجهلُ يئدُها،٢ والصغائرُ تُفسدُها، والفُرْقةُ تُبعدُها؛ تكبيرةُ الوجود، في أُذُن المولود؛ وتحية الدُّنيا له إذا وصل، وصيْحة الحياة به إذا نَصَل؛٣ هاتِفٌ منَ السماءِ يقولُ له: يا ابنَ آدم؛ حَسْبُكَ من الأسماءِ عبدُ الله وسيّدُ العالَم،٤ وهي القابلة التي تستقبله، ثم تسرُّهُ٥ وتُسَرْبلُه،٦ وهي المهدُ والتميمَة،٧ والمُرضعُ الكريمة، المنجبة كـ«حليمة».٨ ألبانُها حياة، وأحضانُها جنَّات. وأنفاسُها طيِّبات. العزيزُ من وُلدَ بين سَحْرِها٩ ونَحْرها،١٠ وتعلق بصدرِها، ولعِبَ على كَتِفها وحِجرها، وترعرعَ بين خِدرها وسِترها.. ضجيعةُ موسى في التابوت،١١ وَجاوَرَتْه في دار الطاغوت،١٢ والعصا١٣ التي توكأ عليها، والنَّارُ التي عشَا إليها،١٤ جبلّةُ المَسيح، السِّيدِ السَّميح، وإنجيلُه، الذي حاربُه جيلُه،١٥ وسَبيلُه، الذي جانَبَهُ قَبيلُه، طِينةُ١٦ محمدٍ عن نفسِه، عن قومِه، عن أمسِه، عن يومه، أنسابٌ عالية، وأحسابٌ زاكية، وملوكٌ بادية، لم يَدنهم طاغية، وهي رُوحُ بيانِه، ومُنحدَر السُّوَر على لسانِه، الحرِّية، عقدُ الملك، وعهدُ المَلْك، وسًكان الفُلْك، يدُ القلم، على الأمم، ومِنحة الفكر، ونفحة الشعر وقصيدة الدهر، لا يُستَعْظَمُ فيها قرْبان، ولو كان الخليفة عثمان بن عفان، جنينٌ يحمَلُ به في أيام المحْنَة، وتحتَ أفياء١٧ الفتنة، وحينَ البغي سيرة السَّامَّة،١٨ والعدوان وتيرة العامَّة، وعندَما تناهى غفلة السواد، وتفاقم عَبث القوَّاد، وبين الدَّم المطلول، والسيف المسلول، والنظم المحلول، وكذلك كان الرُّسلُ يولدون عندَ عموم الجهالة، ويُبعثون حين طمُوم الضلالة؛ فإذا كَملَتْ مدَّتُه. وطلَعتْ غُرَّتهُ، وسطعَتْ أُسِرَّتُه، وصحَّتْ في المهد إمرتُه، بدّلت الحالَ غيرَ الحال، وجاءَ رجالٌ بعدَ الرِّجَال؛ دينٌ ينفسحُ للصادقِ والمنافق، وسوقٌ يتَّسع للكاسِد والنَّافق،١٩ مولودٌ حمْلُهُ قرُون، ووضعُهُ سِنُون، وحَداثتُه أشغالٌ وشئون، وأهوالٌ وشجون، فرحِمَ الله كلَّ من وطَّأ ومهَّد، وهيَّأ وتعهَّد، ثم استشهدَ قبلَ أن يشهَد.

إذا أحرزت الأُممُ الحرِّيَّة أتت السيادةُ من نفسِها، وسعت الإمارةُ على رأسِها، وبُنِيَت الحضارةُ من أُسِّها؛ فهي الآمرُ الوازع، القليلُ المُنازِع، النبيلُ المشاربِ والمَنَازع؛ الذي لا يتخذ شِيعة، ولا صنيعة، ولا يَزْدهي بخديعة؛ خازنٌ ساهر، وحاسبٌ ماهر؛ دانقُ الجماعة بذمةٍ منهُ وأمان، ودِرْهَمُهم في حِرْزهِ دِرْهَمَان.

«فيا ليلى»٢٠ ماذا مِن أترَاب، وارَيْتِ التراب؟ وأخدان، أسلمتِ للديدان؟ عُمَّالٌ للحق عُمَّار، كانوا الشُّموسَ والأقمار، فأصبحوا على أفواه الرُّكَّاب والسُّمار؛ وأين قيسُك المعولِ؟ ومجنونُك الأوَّل؟ حائطُ الحقُّ الأطوَل، وفارسُ الحقيقةِ الأجوَل؛ أين مصطفى؟ زينُ الشباب، ورَيْحان الأحباب. وأوَّلُ من دَفع الباب، وأبرزَ النَّاب، وزأرَ دون الغاب؟…
١  الحميراء: يريد أنها حمراء كالدم، وصغرها للتعظيم. وقد تكون إشارة إلى الروح التي يعبرون عنها بسريان الدم في الجسم.
٢  يئدها: أي يدفنها حية.
٣  نصل: السهم خرج نصله والمراد خروج الولد من بطن أمه كخروج السيف من غمده.
٤  عبد الله: معناه أن الإنسان وهو في الدنيا لا يكون عبدًا إلا لله، وهو سيد العالم المنتفع بكل شيء فيه.
٥  تسره: تقطع سرره. والسر: ما تقطعه القابلة من سرة الصبي، ولا تقل: سرته؛ لأن السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قطع منه السر.
٦  تسربله: تلبسه السربال وهو القميص.
٧  التميمة: عوذة تعلق على الإنسان.
٨  حليمة هي مرضع رسول الله، وهي من قبيلة بني سعد.
٩  السحر: الرئية، والمراد ما فوقها.
١٠  النحر: موضع القلادة من الصدر.
١١  ضجيعة موسى في التابوت: حكاية التابوت أن المنجمين أخبروا فرعون مصر أن مولودًا من بني إسرائيل قد أظله زمانه الذي يولد فيه يسلبه ملكه ويخرجه من أرضه ويبدل دينه، فأمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان. ولما قيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل وهم خبالك وعمالك: أمر أن يقتل الغلمان عامًا ويستحيوا عامًا فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون، فحزنت أمه، فأوحى الله إليها: أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم — وهو النيل — ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. فلما وضعته أرضعته ثم دعت نجارًا فجعل له تابوتًا وجعلته فيه وألقته في اليم، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون،، فخرج جواري آسية امرأته يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية، فأحبته وحالت بينه وبين الذبح، فلما بلغ أشده وأصبح في المدينة خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. ولما توجه تلقاء مدين قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. ثم كانت رسالته، فالحرية التي اضطجعت مع موسى في التابوت وجاورته في دار الطاغوت، هي التي اعتمد عليها في إنقاذ قومه من ظلم فرعون.
١٢  الطاغوت: الكفر.
١٣  العصا: هي عصا موسى، وهي معجزته التي كانت إذا ألقاها انقلبت حية تسعى، وأراد أن يثبت لفرعون مصر أنه مرسل من عند الله لتحرير أمته بني إسرائيل من الرق والعبودية، فعصا موسى. هي عصا الحرية، لأن الله حرر أمته على يده.
١٤  عشاها: قصدها ليلاً يوم سار بأهله، فآنس من جانب الطور نارًا، فكانت رسالته بذلك الوادي المقدس إلى فرعون لينقذ بني إسرائيل من رق الفراعنة إلى بحبوحة الحرية.
١٥  جيله: قومه، وقد أبوا أن يتبعوه إلا قليلاً منهم وهم الحواريون.
١٦  طينة محمد عنه نفسه.. الخ، أي أن محمدًا خلق من الحرية وقبل أن يخلق كان سارحًا في فضائها، ولما بعث محمد دعا الناس جميعًا إلى الحرية.
١٧  الأفياء: هي الظلال.
١٨  السامة: الخاصة.
١٩  النافق: الرائج.
٢٠  يناجي الحرية باسم ليلى، ويسألها عن «قيسها» و«مجنونها».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤