صورة من مرآة النفس (ترقية)

كان صاحبي موظَّفًا من خيرة الموظَّفين الذين عرفَتهم المصلحة التي يعمل بها. وكان رؤساؤه دائمًا يُعجَبون به ويكلِّفونه بما يشاءون من مهمَّات وهم مطمئنون أنه سيؤديها على أحسن وجه. وكان صاحبي على أحسن علاقةٍ بكل الرؤساء الذين توافَدوا على المصلحة. وكانوا هم أيضًا يراعون ألا يكلِّفوه إلا بما يتناسب مع خبراته؛ فقد كان خبيرًا بشئون الموظفين وترقياتهم وعلاواتهم.

وكان صاحبي أيضًا على أحسن علاقة بكل الموظَّفين الذين يعملون معه في المصلحة؛ فكلهم يُحبه. والظرفاء منهم يطيب لهم دائمًا أن يَرْووا له ما سمعوا من نكات، كما كانوا يتمتعون بما يرويه لهم وبتعليقاته الضاحكة وإن كانت ساذجة. هو حريص دائمًا أن يرى ابتسامةً على وجه زملائه، وكان حديثه دائمًا قادرًا على أن يجعل البسمة تَثِب إلى شفاههم حتى وإن كانت ابتسامةً متَّشِحة بالتكلُّف.

وكنتُ أزوره بالمصلحة فيستقبلني زملاؤه أحسن استقبالٍ لحبهم له. وكان صاحبي من القلة النادرة التي أوشكَت تنعدم، التي ترضى عما هي فيه؛ فهو لا يشكو من الزمن عثارَ حظ، أو قلة مال، أو إرهاقًا في الإنفاق، كان يقبل من الدنيا ما وهبت له، ولا يسخط منها على شيء حرمَته منه؛ فهو لا يطمع في أكثر مما نال، ولا يتوقَّع أحسن مما أصاب. تقف آماله في هذه الساحة الرحيبة من القناعة التي لا تريد إلا الستر، وإلا أن يكرمها الله في أبنائها.

وكان صاحبي يعرف أن للحياة سنتها الطبيعية التي لا تتغير، وأنه لخاضع لهذه السنة راضٍ بها؛ فهو يتقبل المرض في أبنائه لأن من طبيعة الأمور أن يمرض الأبناء، وهو ينفق على علاجهم في صبر ويستقبل شفاءهم وكأنه أعجوبةٌ لم يكن يتصور أنها ستحقق؛ فقد كان يحتفل بالمناسبات السعيدة احتفالًا رائعًا قَل أن تجده المناسبةُ السعيدة عند غيره من الناس؛ فلو أن هذه المناسبات كانت ذات عقلٍ أو كانت صاحبة منطقٍ لما انقطعَت عن زيارته أبدًا.

وكان يعلم أن السن حين تتقدَّم به أو بزوجه التي تُقارِبه فمن الطبيعي أن يواجها هذه السن بما يتفق وإيَّاها من تكاسُل أو مرض.

وهكذا كان صاحبي يمثل في نظري نموذجًا فريدًا من الإنسان الرضي الخلُق الهادئ المؤمن بالله المتقبل لكل ما يوافيه به القدَر، في غير جزع عند الشدة وفي نشوةٍ عارمة عند الخير.

حتى كان يومٌ قرأتُ في الجرائد أنه رُقِّي رئيسًا للمصلحة التي يعمل بها، ففرحتُ له فرحة تتناسب وما أُكنُّه له من حب وتقدير. وسارعتُ فألغيت ما كان مقدَّرًا ليومي هذا من مواعيد، وذهبتُ إلى المصلحة لأُهنِّئه.

كان كل الموظَّفين في سعادةٍ غامرة، حتى لقد رأيتُ البِشْر يلُفُّ المصلحة جميعًا. ولأول مرة لا أدخل إلى مكتبه مباشرةً، وإنما قصدتُ قصدًا أن أطلب الإذن من السكرتير، مع أن الساعي الواقف على بابه أراد أن يفتح لي الباب النافذ إليه مباشرة. أحسستُ في مروري بالسكرتير لذةً أحببتُ أن أتمتع بها. وحاول السكرتير أن يُدخلَني دون إذن ولكني رجوتُه أن يستأذن وأصررتُ، ودخل السكرتير فإذا بصاحبي يخرج معه وهو يهتف بي: ما هذا؟! أهذا معقول؟! تفضَّل. واحتضنتُه وقبَّلتُه ودخلنا إلى غرفته وجلستُ معه أنتظر القهوة. عرفتُ أنه كان يرجو أن ينال هذا المنصب ولكنه كان أملًا ألقى به إلى سحيق من جُب نفسه لا يطفو ولا يقترب من الهواء ولا يتنشَّق نسمة من الحياة. حتى إذا لاحت الفرصة سعى سعيَه وهو يائس؛ فهو يعرف نفسه كل المعرفة أنه يتغلَّف بالنفاق دائمًا إذا كان الحديث مع صاحب شأن، ولكنه يقول إنه كان يُنافِق لا ليصل إلى منصبه هذا، وإنما ليُبقي على نفسه الوظيفة التي كان يشغلُها، ولم يكن يدري أن النفاق مِصعدٌ صاروخي إلى هذا الحد الذي شَقَّ به هو الطريقَ إلى سماء المصلحة.

كان صاحبي سعيدًا وهو يحدِّثني، فربما كنت، بل إني أنا فعلًا الشخص الوحيد الذي يُحادثه بلا نفاق وبلا تحيُّط أو حذر … جمعَتنا الأيام الطويلة، وتعوَّد أن يُلقي إليَّ بسِره، فأنا مطلع بعد الله على مرآة نفسه بلا ستار ولا غلائل ولا خفاء … ولهذا رأيتُ في عينيه شعورًا أكاد أثق أن أحدًا لم يرَه إلا أنا … كان القلَق يعدو على بريق الفرح في عينَيه. وعجبتُ أن يبدأ القلق مسيرته في نفسه في اليوم الأول لتولِّيه الوظيفة.

ومرَّت الأيام وكنتُ أزوره في غير انتظام وفي غير إكثار. رأيتُ على وجوه الموظفين قترةً وكمدًا. وأحسست أن ترحيبهم بي أصبح أكثر حجمًا مما كان، ولكن الإخلاص فيه منعدم والصدق غائب، حتى لا تستطيع ألفاظهم أن تُخفي سخطَهم المتستِّر وراء زواق الكلام. وما أنا منهم ولا تربطني بأحد فيهم رابطة إلا صداقتي برئيسهم. وألقاه. أين النفس الرضية؟ أين القلب المطمئن؟ أين الابتسامة المنطلقة في غير حذَر تشُق ظلام الحياة لتُسفر عن راحة الضمير وسعادة الإنسانية إذا قُدِّر للإنسانية يومًا أن تكون سعيدة؟!

لم أسأله، وإنما أقلَلتُ من زيارتي حتى لأوشكَت تنقطع … وفي يومٍ بينما أنا في القيلولة إذا بصديقي قادم على غير موعدٍ، ورأى دهشتي فلم يَحفِل بها، وانفردَت بنا الحجرة.

صمت، ثم هَمَّ بحديث ثم صمت … ثم اندفع في بكاءٍ متواصل لم أجد معه أنا إلا الصمت، ثم رفع وجهه فرأيتُ صديقي الذي كنتُ أعرفه قد عاد إلى وجهه مرةً أخرى، ثم تكلَّم: لقد استقلت، بلغتُ من مرتَّب المعاش أقصاه فاستقلتُ، لقد مرت بي فترة الرئاسة فقلبَتْني من إنسان إلى لا إنسان. ولا أعرف صفةً أقولها لتُغنيني عن هذا التركيب اللفظي، كرهتُ إخواني جميعًا في العمل، كنتُ أُحس أنهم يعرضون عليَّ الورق وظلال سخرية تغلبهم على أمرهم، وتثب إلى شفاههم، ثم كنتُ أنظر إلى أقفائهم وأنا واثق أنها تخفي عني السخرية الصريحة. كنتُ أُحس أنهم مجمعون على أنني آخر من يصلُح لهذا العمل. وربما كانوا على حق؛ فلماذا يصبح هذا الشخص الذي عاش عمره بلا رأي ولا موقف ولا مبدأ ولا قيمة رئيسًا لهم؟

كنتُ أعتقد أنهم يَرونَ النفاق الذي بذلتُه هو الدرَج، ولكنهم مع ذلك — فيما أظن — كانوا يتصوَّرون أنه لا يكفي وحده لكل هذا المجد الذي نلته.

الحقيقة التي لا أستطيع أن أُخفيَها عنك لأنك ستعرفها دون أن أقولها؛ أنني أنا نفسي لم أكن مقتنعًا أنني رئيس فعلًا. كنتُ أُحِس نفسي شيئًا تائهًا في الكرسي الذي أجلسُ عليه، حتى لقد كنتُ أنا نفسي أفتِّش عن نفسي في الكرسي إذا خلوتُ به وخلا بي. حتى إذا دخل مرءوس لي كان زميلًا انتفشتُ عن نفخةٍ كنتُ أضحكُ منها في داخلي، ثم أنا أوجِّه إليه أبشع النقد في أقسى لفظٍ، حتى إذا خرج واجهتُ صغري واقفًا أمامي وداخلي يأخذ عليَّ أقطار الحياة خارجي، وأقطار كياني في داخل كياني.

وكنتُ أحيانًا أحب أن أتطرَّف وأبحث عن هذه الابتسامة التي كنتُ أرسمها على وجه زملاء الأمس ومرءوسي اليوم، فإذا الابتسامة قهقهةٌ عالية أُدرِك افتعالها وأحارُ أهي مفتعَلة لأنني رئيسٌ ينافقونه، أم هي مفتعلَة لأنها تُفرِج عن السخرية مني التي يحبسونها أمامي.

وكنتُ في كل يومٍ أنظر إلى المرآة أُحس أنني أصبحتُ صورةً حية لرسم دوريان جراي. كانت مرآتي هي صورة دوريان جراي؛ ففي كل يوم تختفي منها بسمةٌ طيبة لتحل محلَّها تكشيرةُ وحش. كنتُ أفقد نفسي نأمةً نأمة وشعاعًا شعاعًا، وتنطمس في نفسي يومًا بعد يوم عواطف الطيبة والحب والرضا والقناعة والسعادة وقبول الحياة لتشتعل نفسي بنيران القدَر والحقد والسخط والطمع والشقاء ورفض كل شيء في الحياة حتى ما هو جميلٌ فيها.

أولادي. أولادي. كنتُ أتخيَّلُهم يسخرون مني إذا خلا بعضهم ببعض. زوجتي. لم أقتنع يومًا أنها قبلَت أمر ترقيتي كشيءٍ مسلَّم به. كنتُ دائمًا أُحِس أنها تشُك أنني حقًّا رئيس، وأنني أصبحتُ مُستقبِلًا للتملُّق بعد أن كنتُ مصدرًا له.

تاهت نفسي من نفسي، ونفرت حياتي من حياتي. اسمع يا أخي، هناك ناس خُلقوا ليكونوا أي شيء إلا رؤساء لأعمال، وأنا منهم. وتلك هي الحقيقة.

اليوم قدَّمتُ استقالتي وجئتُ إليك قبل أن أذهب إلى البيت؛ لأن حياتي التي أحببتُها تركتُها عندك في تصوُّرك لي وفي معرفتك بي. وقد جئتُ إليك لأصحب نفسي الأولى، وحياتي التي أحببتُها ولم أحب غيرها، وأعود إلى الدنيا بما أُحب أن تراه مني وما أُحب أن ألقاها به. سلامٌ عليكَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤