حواديت

كل سلامٍ عندهم حرب

أعرفهم. وشاء قدَري أن أعرف خبيء حياتهم. وجميعهم يدين بغير الله، ويصرف ولاءه لغير الوطن. ولكلٍّ منهم متَّجَه في الحياة ومنحًى. ولكلِّ منهم نِحلَةٌ أو مهنةٌ تختلف عن مهنة الآخر أو نحلته. ولستُ أدري كيف تتابعوا إلى ذهني يشُدُّ كلٌّ منهم الآخر إلى تفكيري، ويقف أمامي فأرى عجبًا.

وأنا اليوم أُحاوِل أن أقدِّم بين يدَيكَ هذا العجب، فلا أدري أأذكُره بادئًا أم أذكُره منتهيًا، أم لا أذكُره مطلقًا، وأتركُك تصل إليه وحدَكَ وأنا واثقٌ أنكَ بهذا خليق.

ولكن هذه الصورة التي لا أدري ما الذي جعلني أُحاول أن أرسمها لك نوعٌ من الكتابة يجمع بعض ملامح القصة وبعض ملامح من المقالة. وإذا أنا قدَّمتُ لك هذه الصور التي أُريد أن أقدِّمها لك اليوم، ولم أكشف لك عما جعلها تتتابع إلى ذهني ممسكًا بعضها برقاب بعض، أكون قد جنحتُ بقلمي إلى الشكل القصصي الذي يُشير ولا يصرِّح، ويُومِض ولا يكشِف، ويهمِس في خفاء ولا يُجاهِر في علن.

وأنا أحب — ولا أدري لماذا — أن أحتفظ لهذه الصور بطابعها هذا الذي لا يجعل منها قصة ولا يجعل منها مقالة. دعني أعرض عليك هذه الأشكال.

أما الأول فقد كان جده يعمل في بيت، وكان أهل البيت يعتبرونه واحدًا منهم، حتى إن الأبناء كانوا لا يُنادونه باسمه إلا إذا سبقوه بكلمة عم. وظل هذا حالهم وحاله حتى كبر الأبناء وتزوَّجوا فكانوا يزدادون له احترامًا وتوقيرًا كلما مرَّت بهم السنون وعلت بهم السن.

وقد لقي هذا الجَدُّ ربَّه بعد أن أصبح ابنه موظفًا بالحكومة بشهادةٍ متوسطة. واستطاع هذا الأب بجهدٍ جهيد وكفاحٍ مرير أن يُعلِّم ابنه موضوع هذه الصورة، فتخرَّج في كلية.

مسكين هذا الفتى. لقد شَبَّ في زمن الحقد فهو ينظر إلى ماضي أُسرته في فزع وفرَق وإشفاق، ويخشى أن يعلم الناس حقيقة هذا الماضي. والمجنون لا يعرف أن الناس تعرف هذا الذي يخشاه، وأنهم يُقدِّرون جده أكثر مما يقدِّرون أباه، وأنهم يحتقرونه هو مع أنه يحمل هذه الشهادة التي حصل عليها؛ فقد كان أبوه وأُسرته جميعًا قومًا شرفاء يُحبُّهم الناس ويُقدِّرونهم لأنهم عاملوا ربهم في تخشَّع المسلم الصادق، وعاملوا الناس في وُدٍّ وإيناس يسعَون لهم ويسعَون بينهم بالخير والحب والصفاء؛ فجدُّه وأخو جده كانا في زمانهما صفحةً مضيئة مشرقة من صفحات الحياة، يراهما الناس فيحمدون الله أن بينهم مثل هؤلاء القوم الأتقياء والأنقياء. وليس يعني الناس في كثيرٍ أو قليلٍ بهذه الشهادة التي يحملُها هذا الغِر ما دامت شهادتُه لم تستطع أن تجعل نفسه شفيفة، ولا استطاعت أن تجعل في قلبه حبًّا.

مسكين هذا الفتى يأكلُه الحقد فتَشتَعل النار في نفسه، ولكنها نار لا تأكل إلا صاحبها؛ لأن صاحبها أهون كثيرًا من أن تُحسَّ به الحياة.

هو مُلحد، ولكن إلحاده يغريه وحده كما يغري الضياع صاحبه، فإذا كانت الأرض لا تُحس به أو بإلحاده فكيف بالسماء.

كل حُسنٍ في عينَيه قُبح، وكل سلامٍ في نفسه حرب. وكل الدنيا في عينَيه قاتمةٌ كنفسه، كئيبةٌ كإلحاده لا دفء فيها ولا إيناس. ومن أين وهو غريبٌ أشد الغربة عن أهله وهم أهله، وعن وطنه وهو وطنه، وقبل كل هؤلاء عن دينه وهو دينه؟

مسكين هذا الفتى. اختلَّت موازين الحياة في نفسه وانقلبَت؛ لأنه يظُن أنه ينتسب إلى جد وأُسرة لا تُشرِّفانه، وهو في هذا حقيرٌ ساقط الرأي. ولأن أُسرته تراه أنه مُلحد ويأبَوْن أن تمس أيديهم يدَ الإلحاد فيه، كما يأبَونَ أن يمُدوا حياته بدفء الأقارب وحب الأهل وهم في هذا مُحِقُّون.

من هذا التناقُض نبَت في نفس الفتى سرطان الشيوعية.

وفي صورةٍ أخرى بعيدةٍ في جذورها كل البُعد عن هذه الصورة قريبةٍ منها في حقيقتها.

كان أبوه ثريًّا غاية الثراء، وبقَدْر ثرائه كانت سخافته وتفاهة تفكيره. وكان رحمة الله عليه جاهلًا كل الجهل. والجهل في اللغة له معانٍ كثيرة؛ المعنى المعروف الذي يجعل صاحبه حيوانًا أعجم لا يفهم عن أحد ولا يفهم أحدٌ عنه. لا يقرأ في الكتب ولا يقرأ في الحياة فهو جاهل. وهناك معنًى آخر كانت تستعمله العرب فيُقال جَهِل فلان على فلان؛ أي أساء إليه وتهجَّم عليه. ويقول عمرو بن كلثوم في معلَّقته:

ألا لا يجهلَن أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا

وأبُ هذه الصورة فيه من الجهل معنيان، بل ربما كانت فيه معاني الجهل كلها إذا كانت له معانٍ أخرى.

والرجل في البيت المصري هو ربُّ الأسرة وقيِّمها ومثلُها الأعلى، فحين شب صاحب الصورة عن سن الطفولة وبدأ لقاءه بالصبا والشباب وجدَ هذا الأب التافه الجاهل وقد اجتمع عليه أيضًا البخل. والبُخل عند الفقير مسبَّة ولكنه عند الغني كارثة. وكثيرًا ما يختلط البخل بالخسَّة والدناءة فيُصبِح البخيل بين الناس أهزوءة، ويصبح بين أهله مسخرة.

وحين يُصبِح عماد البيت مسخرةً فليس غريبًا أن يُصبِح صاحب الصورة شيوعيًّا.

أما الصورة الثالثة فهي عن أبِ هذه الصورة أيضًا. وقد كان هذا الرجل جديرًا بأن يكون موضع احترامٍ وتوقير، ولكن شاء الله فجعل منه موضع احتقارٍ وامتهان. وأكمل هو أسبابَ احتقاره فسرق شركةً كبرى كان يرأَسها، وشبَّ الفتى وأبوه في سجنَين من الحديد والاحتقار معًا.

وكان من الطبيعي أن يُصبِح الابن رافضًا للمجتمع كلِّه الذي امتهَن أباه واحتقَره، وما دام المجتمع قد فعل فهو يرفُض الله وهو شيوعي.

أما الرابع فهو مُلحد بسبب آيةٍ كريمة تخاطب الإنسان وتقول له: إن الله خلقه فسوَّاه فعَدلَه. ولكن صاحب الصورة يعتقد أن الله خلقَه فقط وما سوَّاه ولا عَدلَه. وهو يصدُر في ذلك عن غباءٍ مطلق؛ فالله سبحانه وتعالى حين يقول هذا للإنسان إنما يريد — عزَّت مشيئته — أن يُميِّز الإنسان عن الحيوان. أما إذا كان الإنسان قبيح الوجه مُشوَّه القوام غير معتدل القامة غير متناسق الأطراف فهو لا يُخرِجه بذلك عن الإنسان الذي ينتسبُ إليه، وإنما هو امتحانٌ من الله سبحانه وتعالى الذي قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ. وفي هذا الاختبار يُكرِم الله سبحانه عبدَه ويُتيح له أن يقترب منه برُوحِه إذا كانت سليمة ولم يسمح لها صاحبُها أن تلتوي بالتواءِ ظاهره. وحين يصل الإنسان، هذا الإنسان إلى ربه يجد نفسَه أجمل الناس جميعًا؛ فالذي يعرف الطريق إلى السماء تصبح الأرض عند كبريائه هينةً لا تساوي أن يقيم لها وزنًا، ولكن صاحب الصورة شوَّه داخل نفسه أكثر مما شوَّهَته الطبيعة فحَقد، وألحَد.

وما دام قد حقَد وألحَد فما بغريبٍ عليه أن يكون شيوعيًّا.

والصورة شتَّى ولكن المرآة ازدحمَت، ولكنني ما زلتُ أعجب كيف جرَّت كل صورة من هذه الصور الصورة الأخرى. ويزداد عجبي أنني كلما ذكرتُ شيوعيًّا وجدت هذه البؤرة العفنة من الحقد رسبَت في أصله، أو ثبتَت في نفسه، أو تجلَّت في سحنته. سمة واحدة لا يُخطِئها البصر ولا تغيب عن البصيرة.

هل هي خيال؟

اللؤلؤ والذرة

فكرةٌ راحت تُلحُّ على ذهني في إصرار. أُقاوِمها فتعودُ إليه أشدَّ عنفًا وإيغالًا ولمعانًا. أمَّا لماذا تُلحُّ فأمرٌ لا أدريه، ولا أستطيع النفاذ إلى أسبابه ودوافعه.

أما لماذا أُقاومها فأنا أعرف السبب. إنها فكرةٌ بعيدة كل البُعد عن الواقع. تأباها الحقيقة وتأباها طبيعة الأمور كما ترفضها الحياة؛ لأن العناصر التي تُكوِّنها شخوص وأشياء، هيهات لها أن تُوجَد منفردة؛ ومن ثَمَّ فهيهاتَ لها ثم هيهاتَ أن تجتمع لتُكوِّن الصورة التي تريد أن تتشكَّل بها في رأسي وعلى قلمي.

وأنا لستُ كاتبًا عَفْويًّا أقبل أي شيء على ذهني. ولستُ أيضًا متسرعًا أنشط إلى الكتابة بمجرد أن تلوح في خاطري أطيافُ فكرة، وإنما أُصِر على ألا أُمسِك القلمَ إلا بعد أن أُنعم النظر في هذه الومضة التي يعرفها الكُتاب، وأُمعن التفكير في أعماقها وأبعادها.

وأنا أيضًا لا أُرغم القلم على الكتابة كما لا أُرغم الفكرة أن تتشكَّل في إطارٍ أفرضه عليها، وإنما أترك الفكرة نفسَها تشكَّل هذا الإطار وتختاره في حريةٍ كاملة من داخلها هي؛ فأنا من الذين يؤمنون أنه لا أحزاب في الأدب. وكم أضحكُ من تصنيف النُّقاد لكُتاب حين يقولون إن هذا الكاتب رومانسي وذاك كلاسيكي وذاك واقعي وآخر رمزي. إنما الكاتب هو كل هؤلاء.

فليست هذه المذاهب أحزابًا ولا آراءً مبدئية يتحتَّم على من يعتنق مبدأً منها أن يكون عدوًّا للمبدأ الآخر.

ألستَ تراني أُحاوِل ما وسعَني الجهد أن أروغَ من هذه الفكرة التي ما تزالُ تُلحُّ عليَّ والتي ما زلتُ أُحاوِل أن أُقصِيَها عني.

ولكن متى استطاع الإنسانُ أن يهربَ من قدَره أو يروغَ مما تفرضُه عليه مشاعره؟

أتصوَّر أن شخصًا ما يملكُ حمارًا يُحبه ويريد أن يُهيِّئ له كل وسائل الراحة، فهو يُعيِّن له شخصًا خاصًّا لا عمل له إلا أن يقوم بشأن الحمار.

وأتصوَّر أن صاحب الحمار عنده أكوامٌ من اللؤلؤ يكيلها كيلًا ولا يعُدُّها عدًّا. وأتصوَّر أن الفتى الذي يقوم بشأن الحمار لا يعرف الفرق بين الذرة وبين اللؤلؤ — فهو يكتال اللؤلؤ ويضعُه أمام الحمار لأنه يظُنه ذُرة. والحمار لا يأكل اللؤلؤ ولا يقبل طعمتَه ولكنه ما دام قد رآه أمامه فهو يمضغُه فيطحنُه ولكنه لا يبتلُعه وإنما يبصُقه.

ولكن اللؤلؤ مع ذلك يأبى أن يترك الحمار؛ فلا بد أن كمياتٍ منه وفيرةً بقَدْر سعة الفم عند الحمار قد ذهبَت إلى معدة الحمار.

وما دامت معدة الحمار تستقبل شيئًا لم يكن من المفروض أن تستقبله فمن الطبيعي أن يموت الحمار.

أرأيت؟ هي خيالٌ كلها. كلُّها خيال ولكنها مع ذلك تُلحُّ عليَّ.

المخطئ لا شك هو ذلك الرجل الذي يملك الحمار، والذي استأجر له الفتى، والذي ترك اللؤلؤ يلهو به من لا يعرف قيمته.

وقد دفع صاحب اللؤلؤ والحمار ومستأجر الفتى الثمَن، ففقَد اللؤلؤ وفقد الحمار، ولكن هل هذا هو كل ما يخسَره.

المؤكَّد أن الذين يبيعون اللؤلؤ سيرفُضون كل الرفض أن يتعاملوا مع هذا الرجل؛ لأن الذين يبيعون اللؤلؤ لا يهمُّهم أن يبيعوه، وإنما يهمُّهم أولًا وقبل كل شيء أن يفهم مشتريه قيمته. أما إذا كانت الذرة عنده تستوي مع اللؤلؤ فهو لا يستحق أن يملك لؤلؤةً واحدة، بل هو حتى لا يستحق أن يرى اللؤلؤ، فليس هناك أي معنًى أن يرى شخصٌ ما شيئًا لا يعرف قيمتَه.

تصوَّرتُ هذا جميعه. وتصوَّرتُ لماذا تختفي اللآلئ في كثير من الأحيان ويعتَز بها أصحابها أن يعرضوها خشيةَ أن تُصادِف في سوق الجواهر أشخاصًا كأصحاب الحمار، أو تشتريها الحمير أنفسها في غفلةٍ خُلِط فيها بين اللؤلؤ وحبَّات الذرة.

خطاب في موعد

هي فتاة في ريق العمر ونضرته، وكان فتاها شابًّا يعمل في مطبعة، وكان يكسب ما يقوم بشأن بيته. وتَم بينهما الزواج ومشى بهما العمر رضيًّا هانئًا تلك الهناءة التي تخلو من الأحداث الكبرى، ولا تخلو من الخلافات الصغيرة التي تنشأ بين زوجَين في أول حياتهما الزوجية، فالزوج ذو عادات وتربيةٍ خاصة، والزوجة لها بداوتُها وتربيتُها الخاصة. وحين تصطدم التربية بالتربية والنشأة الغريبة بالنشأة الغريبة لا بد أن تنشب هذه الخلافات الصغيرة. وربما كانت الحياة تحلو بهذه الخلافات؛ فهي آخر الأمر لرباط الزوجية، أقدس ما خلق الله من صلة ومن عقود.

وأنجبَت الزوجة الشابة ولدَين، ولكن حدَث أمرٌ ليس بعجيب ولا شاذ. وقد يسأل سائل ففيم اهتمامك به وكتابتك عنه وإنك تعلم أنه ليس بعجيب ولا شاذ.

وربما راق لي أن أُجيب على هذا التساؤل؛ فالواقع أن الكاتب يكتُب وهو لا يعرف لماذا يكتُب، وإنما كل الذي يدريه أن شيئًا ما لا يدري مأتاه هزَّه هزًّا عنيفًا، ودفع به إلى الكتابة. وليس يعنيه في شيءٍ أن يكون هذا الذي يكتبه جديدًا على الناس أم قديمًا.

وقال عنترة قبل ظهور الإسلام وفي غروب الجاهلية «هل غادر الشعراء من متردَّم» فوحقِّك ليس بين الناس من جديد؛ فالشر قديم قِدَم قابيل وهابيل، والخير قديمٌ قِدَم آدم ومن أعقبه من أنبياء.

كان جار الزوجين شابًّا في مقتبل العمر ينتمي إلى أُسرةٍ عريضةٍ شهيرة بين الناس. وكان للشاب سيارةٌ وضيئة وابتسامةٌ آسرة. وأهم من هاتَين كانت له سمعةٌ أنه ثريٌّ، وأنه يُحب أن ينفق من ثرائه هذا.

ولم تهتمَّ الزوجة أن هذا الشاب جاهل لم يكمل تعليمه. وكان من الغباء بحيث لا تستطيع أن تَستبِين غباءه.

بالغ الفتى في إظهاره محاسن سيارته. وبالغ أيضًا في إطلاق ابتسامتِه على قلب الزوجة، وترك سُمعة ثرائه تنسابُ إليها من سيلٍ جارف، حتى إذا أيقن أنه وقع من نفسِها حيث يُريد أن يقع بدأ حديثه.

ولم يكن هذا التخطيط عن ذكاء — لا قدَّر الله — وإنما هو مرانٌ تعوَّد به أن يُصاحب الفتيات. وفيم ينشغلُ الجاهلُ الجميل إلا بالنساء؟

وقد تجد بين الناس أغبياءَ وإنما يُتقِنون من حياتهم جانبًا واحدًا. وهم في هذا الجانب الذي يُتقِنون يُصبِحون أعلامًا مُتمرِّسين، حتى ليبدو الفرد منهم كأنه ذكيٌّ شديد الذكاء.

أشار إليها فرفضَت، فألحَّ فامتنعَت، فأغراها بنزهةٍ بريئة بالسيارة فتمنَّعَت تمنُّع الراغبات. وأدرك الفتى بخبرته أنها أصبحَت من أولئك الراغبات فأعاد الإلحاح.

فقبلَت ونزلَت إلى السيارة.

– أتعرفين كم أُحبُّك؟

– إنني متزوِّجة.

– أعلم.

– وأم لطفلَين.

– وأعلم.

– فما إصراركَ هذا؟

– وهل للحُب أسباب؟

– أنت غني وجميل.

– أرأيتِني جميلًا؟

– وأنت تعلم.

– إذن.

– تستطيع أن تجد غيري كثيراتٍ.

– ولكني أريدكِ أنتِ.

– وماذا تُريد لعلاقتنا هذه؟

– ما تريدين أنت؟

– أنا لا أعرف إلا الزواج.

– فليكُن ما تريدين.

– كيف؟

– تتركينَ زوجك.

– هل هذا معقول؟

– وكيف يمكن أن يتم زواجي؟

– لا يمكن.

– لم تقتنع في النزهة الأولى بالسيارة، ولكنها في الثانية والثالثة والعاشرة اقتنعَت.

وحين تريد الزوجة أن تترك زوجها لا يمنعها شيء، خاصة إذا كان الزوج شريفًا، ولا يقبل أن يعيش مع زوجة لا تُحبه.

طُلِّقَت الزوجة من زوجها، وتركَت طفلَيها له، ومكثَت شهور العدة في بيت أبيها، ثم تزوَّجَت السيارة والابتسامة الآسرة.

كانت قد ورثَت عن أمها نصف بيتٍ فباعَته؛ فهي لم تعُد في حاجة إلى رأس المال يؤمِّن حياتها فليس بعد غنى زوجها أمان. وهي تريد ثمَن نصف البيت هذا لتشعُر أنها غنية أيضًا.

وكان أبوها رجلًا في أخريات عمره يعيش مما يتقاضاه من معاش.

ويبدو أن الأب لم يكن راضيًا عن تصرُّف ابنته، ويبدو أن الموت قد حلا له أن يختطفه دون إبداء أسباب؛ فالموت غير محتاج إلى تقديم أسباب.

وأصبحَت الزوجة القديمة الجديدة ولا عائل لها إلا زوجها.

وما هي إلا شهورٌ قلائل حتى اتضحَت الأمور جميعًا. الابتسامة تكشير عن أنياب وليست ابتسامة؛ فالفتى ذو الأصل العريض كثير الشجار كثير المطالب لا يُرضيه شيء.

والسيارة كانت آخر ما يملك، وكان لا بد أن يبيعها فهو لم يعُد لدَيه ما ينفقه عليها، بل لم يعُد لدَيه ما ينفقه إلا ثمنها.

– ومن أين ستعيش بعد ذلك؟

– سأُسافر إلى السعودية.

– وإن لم تسافر؟

– المسائل منتهية.

وأنفق ثمن السيارة، ولم يبقَ شيء إلا ثمن نصِف البيت يُنفِقان منه، وأوشكَ هذا المال أيضًا أن ينفَد.

ولكن مشروع السفر إلى السعودية اكتمل، فاشترى تذكرة السفر من مال زوجته، واتفق معها أن يسافر ويُرسِل إليها ما يمكنها من اللحاق به.

وفي الطريق إلى المطار.

– هل بقِيَ معك شيءٌ من النقود؟

– خمسون جنيهًا.

– هاتِها.

– وأنا كيف أعيش؟

– في ظرف أسبوعٍ سيكون عندكِ ما تشائين من مال.

– وماذا أعمل في هذا الأسبوع؟

– ليس صعبًا أن تُدبِّري أمرك لمدة أسبوع.

– أمري إلى الله.

وأخذ الخمسين جنيهًا.

وبعد أسبوعٍ فعلًا وصل إليها خطاب من زوجها لم يكن به مال، وإنما كان به ورقة طلاق.

وتسألُني فيمَ أقُصُّ هذه القصة وهي في كل يوم على شاشة السينما، ولكنني اليوم أنقلُها إليكَ من الحياة لا من السينما. وأنا مع كل ذلك لا أدري لماذا أحببتُ أن أقصَّها عليك.

الإنسان ودون كيشوت

في الرحلة من مدريد إلى الأندلس مرَرنا في أول المطاف بقريةٍ صغيرة نزلنا فيها بمقهًى لا أقول أنيق وإنما هو ذو طابعٍ خاص، وفي صدر فِنائه تمثالٌ لدون كيشوت بطل الروائي الرائد سرفانتس. وعلى لافتةٍ بالمقهى تبيَّن لنا أن هذه البلدة كان يعيش بها سرفانتس، وأن أهلها يخلِّدونه بإطلاق اسم بطله على هذا المقهى الذي يُقال فيما يُقال إن سرفانتس كان يعيش فيه. والعهدة في ذلك على الراوي.

وقالت الدليلة التي تقود الرحلة إن رواية دون كيشوت من أعظَم الروايات العالمية. ثم ذكرَت ما قاله بعض النقاد عنها، ولم يكن ما قالته جديدًا عليَّ؛ فقد قيل إن رواية دون كيشوت يقرؤها الطفل فيضحك ويقرؤها الشاب فيبتسم ويقرؤها الشيخ فيبكي. ولما كان الطريق طويلًا فقد لذَّ لي أن أفكر في هذا الذي قاله النقاد أو بعض النقاد؛ فالنقاد أحيانًا يُطلِقون أحكامهم مبهورين بصياغة أحكامهم — دون أن يقدِّموا الحيثيات لهذه الأحكام — ويتركون لنا بعد ذلك أن نُفسِّر نحن ونبحثَ عن الحيثيات.

أما أن الطفل يضحك إذا قرأ دون كيشوت فهذا أمرٌ طبيعي؛ فمواقف دون كيشوت وخادمه تُثير في ظاهرها الضحك كل الضحك، والطفل يأخذ من الأمور ظواهرها، ولا شأن له بما وراء هذه الظواهر من معانٍ متخفية. وكم تمنَّينا حين امتد بنا العمر وشبَبنا عن طوق الطفولة إلى ريق الشباب وحين دلَفنا من نضرة الشباب إلى الكهولة لو ارتدَّ بنا العمر إلى هذه الأيام النضرة الساذجة من حياتنا أيام كنا نقرأ الأعمال فإذا قراءتنا متعةٌ خالصة؛ فلا نحن نبحث عن الهدف ولا عن المضمون ولا نحن نستقصي ما أراد الكاتب وما لم يُرِد، وإنما هو انطباعٌ عام يتسرَّب إلى دخيلة نفوسنا لا ندري مأتاه ولا مصادره. ولستُ أنسى أيامَ كنتُ أقرأ للمازني وأنا في حجرةٍ منفردةٍ فإذا أنا أُقهقه ضاحكًا حتى ليصيب الذعر أهل بيتي، ويحسبون أنني أرى من النافذة ما لا يرون، ويسارعون إلى الحجرة يفتحونها فإذا أنا قصيٌّ عن الشباك، بعيد، لا صلة بيني وبين الحياة إلا هذا الكتاب، فيتولَّاهم العجب والدهشة، وينصرفون عني يُمصمِصون شفاههم من عبطي، وأظل مع كتابي، نافذتي الكبرى التي هي عوالم من المتعة، فقدناها منذ أصبحَت القراءة والكتابة حرفة لا هواية، ومنذ أصبحنا نبحث عن المضمون والهدف والشكل والفورم.

فليس عجيبًا إذن أن يضحك الطفل وهو يقرأ دون كيشوت؛ فهو يتلقى العمل بمرآةٍ صافيةٍ جديدة من نوعٍ خاص، تختزن كل ما تراه، فإذا غاب عنها أصل الصورة بقِيَت منها على صفحة المرآة ظلالٌ وانطباعاتٌ ليس يمحوها الزمان.

أما ابتسام الشباب حين يقرأ دون كيشوت فليس غريبًا أيضًا؛ فالشباب هو زمن الحكمة الزائفة حين يظُن الفتى أو الفتاة وهو في هذه السن الرائعة أنه أحكمُ الحكماء وأنه أعقلُ الناس وأغزرُهم علمًا وأكثرُهم تجربة، وأن ما يعرفه هو لا يعرفه أحد، وأن التجارب التي مرت به هيهاتَ لغيره أن يتعرَّض لها. فما له إذن لا يبتسم ابتسامةَ سُخرية من دون كيشوت هذا الذي يُحارِب طواحين الهواء، والذي يُعرِّض نفسه لمواقف لا تستدعي إلا الهزء والاستخفاف بصاحبها، وإنزاله إلى دركٍ من البشرية بعيدٍ كل البُعد عن الإقدام. ومع ذلك يصر هو دون كيشوت على أنه بطل الأبطال، وأنه رجلٌ فذٌّ لم تلد الأمهات له مثيلًا، فمن الطبيعي إذن أن يبتسم الشاب ابتسامة الحكماء وابتسامة الهزء أيضًا؛ فهو واثق أنه لا يمكن أن يصنع ما يصنعه هذا الأَبلَه دون كيشوت، ولا يمكن أن يسمح للناس أن يسخروا منه سخريتَهم من ذلك البطل الحالم الذي يحارب الجماد ويعترك في غير معترك، ويجيِّش من الوهم جيوشًا ليُحارب بها من لا وجود له. للشباب إذن أن يبتسم.

أما الشيخ فهو أجدر الثلاثة بما يفعل؛ فإنه يُقال إن الشيخ إذا قرأ دون كيشوت يبكي. وحُق له البكاء؛ فإن الشيخ حين يصير شيخًا، ويصل إلى سن النضج، وينظر إلى ما مر من أيامه وإلى طول حياته ما يلبث أن يتبيَّن عبَث الحياة جميعًا، ويصبح ولا أمل له إلا الحياة الأخرى تتعلَّق بها آماله وتهفو إليها روحه. وعندما تنعقد المقارنة بين دنيا الخلود عند ملكٍ لا يمنع الظلَّ لائذًا والصفحَ توابًا ولا العفوَ راجيًا، وبين دنيا يسود فيها البطش والجبروت والانتقام والخسَّة. وحين تنعقد المقارنة بين خشية الله وخشية الناس، وبين الورع والنفاق وبين العليا والدنيا وبين الخالدة والفانية تهمي دموع الشيخ؛ فإنه سرعان ما يتبيَّن له أن حياتَه كلها كانت مثل حياة دون كيشوت، وأنه حارب ما حارب ولم يخرج من الدنيا إلا بحُطامٍ وأوهامٍ وآلام وسقم. ونذكُر رواية العجوز والبحر لهمنجواي فنجدها إعادةً بارعة عملاقة لبدايات الرواية العالمية المتمثِّلة في دون كيشوت لسرفانتس.

والعجوز في خالدة همنجواي خرج من جهاده كلِّه بنظام، ودون كيشوت عند سرفانتس لم يخرج بشيء. والرجل العجوز حين يقرأ هذه أو تلك لا بد له أن يبكي؛ فإنه سرعان ما يتبيَّن له أنه ظل طَوالَ حياته يُحارِب طواحين الهواء، وأنه عاد من الحرب بهيكله هذا الفاني، وأنه مسافر إلى الناحية الأخرى، وليس له من زادٍ إلا وجه ربه، وهو سبحانه العدل المطلَق، وويلٌ للإنسان من العدل المطلق، وما أضيَعَ الإنسانَ إن لم يُدرِكه سبحانه برحمته إلى جانب عدله وبغفرانه يكسو به مُحكَم أحكامه!

الصعود ببطء

ألم أقل لك إن الحديث في غير السياسة أجدى عليَّ وعليك، أو هو لا شك أمتع لي ولك؟ وما البأسُ بنا نطرح السياسة أويقاتٍ من حياتنا، بدلًا من أن تظل ناشبة فينا أظافرها حتى لا نفكِّر إذا فكَّرنا إلا فيها، ولا نكتب مقالاتنا إلا داخل إطارها، بل إنها في حينٍ من الدهر سيطرَت حتى على الروايات التي نكتبها والفن الذي نعيش في ظلاله.

في ذلك العهد كانت الكلمة الحرة ميتةً لا نستطيع إحياءها إلا إذا لفَّقناها بتلافيف الرمز والرواية، فظهرَت رواياتٌ كثيرةٌ سياسية في ذلك الحين. ويبدو أن فرحة الانطلاقة قد سيطرَت على أقلامنا حتى أصبحَت لا تريد أن تكتب في غير السياسة، فهونًا هونًا أيها القلم؛ فإن الاندفاع بكَ لا يليقَ وقد شاب صاحبُكَ وابيَضَّ فُوداه، والصمت به أليق، والعودة إلى الفن أحمَد، فإذا عزَّنا أن نقول المقالة السياسية، فما البأس في قصة، وإن لمْ فحدوتة مما يرويه الرفاق في جلسات التسلية والترفيه؛ فالسياسة بقَدْرِ ما هي هامة وبقَدْرِ ما هي خطيرة، فإن الترفيه أيضًا هامٌّ وخطير. ولعلَّكَ بعد أن تستمتع بقصةٍ مما يرويه الناس في جلسات الترفيه تستطيع أن تعود إلى السياسة تُعمِل فيها قلمَك، فإن استَعصَى عليك الأمر فلتُعمِل فيها فكرك. وليس من الحتم أن تقول كل فكر؛ فبعضُه يكفي.

حديثي إليكَ اليوم عن قصةٍ رُويَت لي، وما أظن شأن الراوي يَعنيك؛ فإني أحسب أن القصة نفسها هي التي تَعنيك. وإنما لعلكَ تريد أن تثق أنها وقعَت، أم تُراك أيضًا في غنًى عن هذا الوثوق؟ إنما شأنُكَ معها أن تقرأها، فإن أعجبَتك فبها ونعمَت، وقد بلغتُ من نفسك ما أريد أن أبلُغ. وإن لم تُعجبكَ فالأمران عندك يستويان، ولا يهمك من بعدُ إن كانت قد وقعَت أو هي محض خيال.

ولكنَّني على أية حال مبادرٌ فمُطمئِنكَ أنها وقعَت، وأني عرفتها ممن أثق فيه أنا، وممن لو عرفتَه معرفتي به لوثقتَ به أنتَ أيضًا.

وإني أرويها لك كما وقعَت تمامًا، لا أهذِّبها بخيال لي أو بتحريف. ولو كنتُ أشاء أن أقدِّمها كقصةٍ فنية لكان شأني في روايتها لكَ غير هذا الشأن ولكان لي في كتابتها لك طريقًا آخر غير هذا الطريق. والذين يكتبون القصة ويقرءونها يعرفون أن هذا الذي أفعله الآن أبعد ما يكون عن القصة المبتدعة في فنها الحديث، وإن كان قريبًا غاية القرب من أسلوبٍ لبسَته القصة في عهودها الأولى، ثم اندثَر هذا الأسلوب مع الزمان وتغيَّرَت به الأيام إلى غير هذا، بل ما يُناقِض هذا كل التناقُض، ويختلف عنه كل الاختلاف.

القصة تُروى عن زوجٍ وزوجةٍ تزوَّجا في بواكير الشباب الأولى، ومَرَّ على زواجهما خمسة وعشرون عامًا. أما الزوج فأصبح يحوم حول الخمسين من عمره، وأما الزوجة فتصغره بسنواتٍ ثلاث، ولكنها فتية المظهر، شابة التجاعيد جميلة الملامح، على الرغم من أولادها الأربعة الذين تخرَّج منهم من تخرَّج. وبقِي منهم من بقِي في الجامعة أو على مشارفها.

أُصيب الأب بذبحةٍ صدريةٍ مفاجئة، لحسن حظه أصابه المرض وهو في بيته، واستدعى له الأطباء، ولكن — لسوء الحظ — تقطُن العائلة في الدور السادس من عمارة ليس بها مِصعَد، ولم يستطع الصعود إلى المريض إلا الشباب من الأطباء.

وتَمَّ علاجُ الرجل، واستطاعَ أن ينزل ويذهب إلى طبيبٍ كبير أجرى عليه الكشوف والرسوم والأشعة.

– أنتَ الآن بصحةٍ جيدة.

– الحمد لله … ولكن هناك مشكلة.

– وهي؟

– إني أسكن بالدور السادس.

– هذا خيرٌ لكَ.

– ماذا تقول؟

– الطب الحديث ينصح مرضى القلب بالحركة وصعود السلالم.

– ستة أدوار؟

– لو عرفتَ كيف تصعدُها لكان هذا في مصلحتك.

– وكيف أصعدها؟

– دون أن يحمل القلبُ عبئها.

– وكيف؟

– أولًا تصعد ببطءٍ شديد.

– وثانيًا؟

– تجلس في الدور الثاني، وفي الدور الرابع.

– كيف؟

– تبحث عن صديق في الدور الثاني، وآخر في الدور الرابع.

– البركة في الست؛ فالعمارة جميعها أصحابها. وخرج الرجل إلى زوجته.

– البركة في سميرة.

– سميرة؟ من سميرة؟

– سميرة الزوجة التي تُوفي زوجها العام الماضي وسعيتَ لها في المعاش.

– آه، تذكَّرتُ.

– تسكُن في الدور الثاني.

– والرابع؟

– صديقك عبد الكريم أفندي.

– آه صحيح، إنما اسمعي.

– قول.

– أنا لن أتهجَّم على الناس في بيوتهم.

– لا تهجم هناك.

– كلِّمي أنت سميرة هانم والأستاذ عبد الكريم.

– من عيني.

وهكذا أصبح الرجل يصعد السلم ببطءٍ شديد. وأصبح يستريح في الدور الثاني عند سميرة هانم، وفي الدور الرابع عند عبد الكريم أفندي.

والعجيب أنه كان يجد نفسه يحتاج إلى راحةٍ أكثر في الدور الثاني من تلك التي يحتاج إليها في الدور الرابع.

والعجيب أن صحته تحسنت تحسنًا ملحوظًا إلا أن شيئًا عجيبًا كان يحدُث في مشاعره، وما لبث لسانُه أن ترجم هذا الشيء العجيب الذي كان يحدُث في مشاعره.

فسميرة هانم أصبحَت سميرة. يومًا بعد يوم خطب الرجل سميرة وتزوَّجها … ألم أقل لك إنه شُفي تمامًا. وهل أدلُّ على الشفاء من أنه أصبح زوجًا للدور الثاني والدور السادس في وقت معًا.

حَيرة مع مليمٍ ناقص

كانت المدارس تبدأ قبل أن يجمع الفلاحون القطن، فكان أبي يُرسِلُنا إلى القاهرة ويبقى هو في القرية ليُشرِف على جمع القطن. وكانت مديرة منزلنا سيدةً كبيرة السن وكان زوجها صديقًا لأبي، فحين مات عنها عاشت هي معنا ترعى أمري أنا وإخوتي. وكانت مصاريف المنزل ومصاريف أيدينا في يدها. وبطبيعة الحال فرتكتُ أنا مصروفي في لحظات، وأصبحتُ يا مولاي كما خلقتَني. وجاءني صديقي إحسان عفيفي وهو اليوم الدكتور إحسان عفيفي، وقال إن فيلمًا جديدًا ظهر للوريل وهاردي ومعروض في سينما متروبول، وعملتُ الحسبة وتبيَّنتُ أنني أريد خمسة قروش لأذهب إلى السينما وأركب الترام ذهابًا وإيابًا؛ فتذكرة السينما صالة درجة أولى ثلاثة قروش ونصف القرش والترام ستة مليمات ذهابًا ومثلها إيابًا ويبقى معي ثلاثة مليمات.

ذهبتُ إلى أم عبده وطلبتُ منها القروش الخمسة، وطبعًا سألتني فيم تريدها، فقلت لها أشتري كتابًا — وكانت بعض الكتب في ذلك الحين تُباع بخمسة قروش. وتظاهرَت أم عبده أنها صدَّقَت، ونفحَتني القروش الخمسة.

بكَّرنا في يوم الجمعة أنا وإحسان ذاهبَين إلى السينما، وركبنا ترام ٣٣ إلى العتبة، ودفع إحسان تذكرة الترام، وحين حاولتُ أن أحتجَّ قال ادفع أنت لي عند عودتنا، فابتلعتُ احتجاجي. كنتُ يومذاك في الابتدائية بمدرسة العباسية. وكان إحسان بالسنة الأولى الثانوية بمدرسة فاروق الأول الثانوية. وهكذا كنتُ لا أعرف أحدًا من أساتذته.

وقفنا عند شباك التذاكر فرأى أستاذًا له مع آنسة يقفان عند شباك البلكون، فطار عقله، وهتف بي في جنون فرحان أستاذ الإنجليزي معه واحدة ويقطعان بلكون، لا بد أن نقطع بلكون معهما.

– تقطع معهما؟!

– نعم.

– كيف؟

– كذا.

– بكم تذكرة البلكون؟

– بأربعة قروش ونصف.

– وكيف أرجع؟ تذكرة الترام بستة مليمات ولن يبقى معي إلا قرش تعريفة.

– ولا يهمك. أنا أقطع لك تذكرة الترام.

كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق. قطعنا تذكرة البلكون وظللتُ طول الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأُحاول أن أردَّها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.

لم أتمتَّع بالفيلم مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي. وانتهى الفيلم وأُضيئَت الأنوار والتفَتُّ إلى إحسان. ليس هناك إحسان، امَّحى. ألغاه الوجود. أصبح كأنه لم يُولَد. لا إحسان على الإطلاق.

وقفتُ بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان. ماذا أفعل؟

الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنَّني ساكن جديد بحي العباسية، ولا أعرف إلى بيتي طريقًا إلا من محطة الترام. أما أين ينتهي بي الأتوبيس وكيف أذهب إلى بيتي لا أعرف. مشيتُ إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتُها.

هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟

– لا، ولكن ترام ٣٣ هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.

المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه. ووجدتُ نفسي أقول في بلاهة: ولكني أريد أن أركب الأتوبيس. ونظر إليَّ محدِّثي يبحث عن لهجةٍ أجنبية في كلامي فلا يجد؛ فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح ولستُ به، لا كلامي ولا منظري يدلَّان على ذلك طبعًا. لم يخطُر له على بال أن معي تعريفة وليس معي ستة مليمات؛ فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقًا بأي حال وعلى أية صورة.

وجدتُ على محطة الأتوبيس صديقًا لي من مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له هات مليمًا. أهذا معقول؟ تواريتُ عنه حتى لا يراني، وجاء الأتوبيس وركبتُ وسألَني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟

– العباسية.

– أي عباسية؟

– العباسية القريبة من شارع الجنزوري.

– تحتاج إلى قرش صاغ.

مصيبة، لم تقدر على المليم، فكيف تقدر على التعريفة كاملًا؟

– اذهب بي إلى آخر محطة يوصل إليها هذا التعريفة. وأدرك الركاب الأزمة، وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحمًا، فكان كلامي يرنُّ في أسماعهم جميعًا. والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدُل على أنه ميسور الحال وليس معه إلا تعريفة. أي شعبٍ عظيم هذا؟ في لحظةٍ واحدة سَرَت في الأتوبيس معانٍ كثيرة كلها رفيعة وشريفة وجميلة؛ فأنا عند الكبير منهم ابن وعند الصغير أخ، وتسارعوا جميعًا إليَّ، منهم من يريد أن يدفع لي فآبى خجلًا شاكرًا، ومنهم من يريد أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدُلُّوني على طريق البيت فقط.

ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إليَّ الكمساري أن أنزل هنا، وينزل معي بعض الركاب ويقومون جميعًا بإرشادي إلى الطريق.

وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي. عاد إلى الحياة من جديد بعد أن حُلَّت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامةٌ معتذرة لا تُغني شيئًا.

– أين أنتَ؟

واحتجزتُ دمعي حتى لا يراه، وذهبتُ إلى البيت، وتلقاني أم عبده.

– أنا أعرف أن القروش الخمسة التي أخذتَها لم تكن لكتاب. أنت ذهبتَ إلى السينما.

لم يكن ينقصني إلا أم عبده أيضًا. النهاية، تُرى هل استفَدتَ شيئًا من البحث عن المليم؟ لا أظن.

اثنين فلاج … وهات مليم

أنا من جيلٍ يشرف اليوم على خمسينات حياته. مظلومون نحن جيل الأربعينيات. ولدنا في أواخر العشرينيات. وحين جاءت الثلاثينيات التي كان الجنيه فيها يشتري عمارة، ويبقى منه ما يشتري بيتًا. كنا نحن أطفالًا، وكان الحصول على القرش في ذاته عملية تحتاج إلى مناورة ومداورة.

وكنا في هذه السنوات نُحب أن نتفرج على السينما. وكان أهم ما فيها حلقات التشجيع تومكس وغيره من مشاهير الأبطال. وكنتُ أظل الأسبوع كله حريصًا أن أُبقي على قرش لي وقرش لزميل طفولتي إبراهيم، الذي جاء من البلدة خصوصًا ليكون رفيق ملعبي.

ثم نتعرَّض بعد ذلك للرعب الشديد أن يلحظ أحد تغيُّبي وتغيُّبه عن البيت فترة الساعات الثلاث التي نقضيها بالدرجة الثالثة في سينما الأهلي. حتى إذا كبرتُ بعض الشيء ولم أعُد أحتاج لمن يُلاعبني دخل إبراهيم إلى المطبخ سالكًا طريقه إلى أن يكون واحدًا من الطهاة في الأُسرة.

وحين ألَمَّ بنا الشباب في بواكيره الأولى التقينا به شبابًا أسود لا نور فيه؛ فقد أقبلَت الحرب العالمية الثانية وأُطفِئَت أنوار القاهرة وأُطفئ معها نور شبابنا. ولولا أن رمت بنا الهواية إلى الأدب والقراءة لقطعنا شبابنا فارغًا لا تُداعِبه أي متعة ولا صخب، ولكنَّنا نحن الذين أحببنا الأدب وانصرفنا إلى قراءته وجدنا متعتنا وضجيجنا جميعًا في القراءة. وكنا نجتمع في بيت أحدنا نُناقش ما قرأنا، ويمتد بنا النقاش حتى الوهن الأخير من الليل، فنقوم إلى بيوتنا وننقلبُ إلى أهلنا وقد أوهمناهم أننا كنا نُذاكر.

وفي ليلة سهرنا في بيت صديقنا الأستاذ عثمان نويه الذي كان بمثابة الأستاذ لنا، ولكن حبه للأدب كان يجعله يشاركُنا في حديث طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والدكتور حسين هيكل، تاركين مربع أرسطو والمنطق والفلسفة والجغرافيا.

وأوغل بنا الليل والوقت صيف والنسمة رُخاء، وقمنا وقام معنا صاحب البيت للمشي على غير هدًى.

ولم أجد معي سجائر. وقد كان العثور على سجائر في هذه الأيام ضربًا من المعجزات؛ ولهذا ظللتُ بخيلًا بها حتى اليوم.

ووجدتُ دكانًا يتخفَّى وراء الظلام يُنير مصباحًا خجولًا يحوطه بأسطوانةٍ ورقية من بقايا عُلبة سجائر قديمة. وكان باب الدكَّان لا يزيد عن ربع ضلفة من ضُلف الأبواب العادية.

– عندك سجاير نمرة ثلاثة؟

– لا.

– عندك بحاري؟

– لا.

– كرافن إيه؟

– لا.

– ملك مصر أو سفير.

– لا.

وانغمستُ في حديثي مع صاحب الدكان ونسيتُ أمر من معي، حتى وجدتُ يدًا تنبعث من الظلام تحمل نصف قرش وتضعُه على منضدة البائع لتقول في حسم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.

أدرك الأستاذ عثمان أنني أُحادِث الرجل بلغة لن يفهمها؛ فلو كان عنده شيء مما ذكرتُ لما سهر إلى آخر الليل ليهتبل ربحًا لن يزيد عن ملاليم. وأراد الأستاذ عثمان أن يُعلِّمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمَها. اثنين فلاج وهات مليم؛ أي إنه يعرف الثمن تمامًا. وقد تعلَّمتُ الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.

لمن أتكلم وماذا أريد أن أقول وكيف أصل بما أريد إلى فهم من أكلمه؛ تلك هي مشكلة المشاكل أمام الكاتب أو المتحدث.

تستطيع أن تكون أستاذًا عظيمًا في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها من تخاطبهم؛ فهناك كلام يُقال في المدرَّج بأسلوبٍ معيَّن، وألفاظ بذاتها. وهناك كلام يُكتَب في المجلات المتخصصة. وهناك كلام يُكتَب للجرائد اليومية. وهناك حديثٌ خاص للندوات العامة. ومعرفة كل مجال وما يتطلَّبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس.

ولكنَّ كثيرًا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصِّصة، وكثيرٌ منهم يكتُب في الكتب كلامًا لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية. وتختلط الأمور عليهم وعلى قُرائهم ويقعون في أحابيل «الأستذة»، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم، حتى لا يُقال عنهم جُهلاء، ويُصبِح الكلام في الهواء لا قيمة له، ولا يجد له فاهمًا. كم يحتاج الأساتذة إلى عثمان نويه ليقول لهم اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.

لم يتسع الوقت

حين تقرَّر أن يُسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها لم يفكِّر في شيء آخر إلا أن يزور الأماكن المقدسة ويطوف حول الكعبة المكرمة ويقف أمام شباك النبي.

ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان، بل كان كل ما يفكِّر فيه هو تحدِّي هذه الرواسب التي تُسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلُّق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة.

وكان واثقًا أن الإنسان المتحضِّر لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلُّق بأوهامه.

وهو واثقٌ من نفسه وأفكاره قد ازداد بها وثوقًا حين اختار المذهب الشيوعي مذهبًا وانسلك في قالبه، وواجه كل ما واجهَه أصحاب المذهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.

والوظيفة التي يرتع فيها الآن ما هي إلا نهلة من فيض البحر الذي انسكَب على أبناء مذهبه؛ فما كانت الشركة البولندية لتُعيِّنه لو لم يكن شيوعيًّا غارقًا في الشيوعية، وهب لها نفسه وإلحاده، ويُقدِّم إليها أيضًا فقره لتَردَّه عليه غنًى ووفرة ورفاهية ورخاء.

وقد استطاعت الشيوعية أن تُوفِّر له ما لم تسطع الرأسمالية أن توفِّره لأحد من أمثاله؛ فسيارته كاديلاك من آخر طراز. نعم السيارة رأسمالية ولكن ما دام الشيوعي قد استخدَمها فإن سيارتَه هذه الكاديلاك بالذات تُصبِح شيوعية.

ومنزله من أفخم منازل الزمالك، وأثاث بيته غالي الثمن غلاءً فاحشًا. ولا يهم من بعدُ إن كان يتسم بالذوق السليم أو لا يتسم، ما يهمُّه أن يكون غالي الثمن.

أما ملابسه فهي في الحق مضحكة؛ فإنه فيما يبدو مصابٌ بعمى الألوان، فتراها تختلط على جسمه كقِصةٍ غير معقولة، أو كموسيقى صاخبةٍ يعزفها قومٌ لا قائد لهم ولا نوتة تجمع بينهم. ولكن كل وحدة من وحدات ملابسه ثمينة في ذاتها. واضح أنه بذل المال الكثير فيما يركب أو يسكن أو يلبس.

وكان يتيه دائمًا بين الناس بأنه لا يمد يده لأي دولةٍ شيوعية، وأنه شيوعي بالمبدأ لا بالجيب. وهو بطبيعة الحال يرى وظيفته هذه التي يشغلها والتي تسكُب عليه المال حقًّا طبيعيًّا له لا صلة لها بالشيوعية.

هو يرى ذلك أمام الناس حين يخاطبهم، ولكنه في دخيلة نفسه يعرف تمامًا أنه لو لم يكن شيوعيًّا لما زاد دخله عن دخل زملائه الذين تخرَّجوا معه، والذين يعجز مرتَّبهم أن يُطاوِل عُشر مرتبه.

هو واثقٌ كل الوثوق أن ذلك الخير الذي يمرح فيه سبُبه الوحيد الذي لا سبب غيره أنه شيوعي، ويعلم أن الكلية التي تخرَّج فيها قد منحَت الحياة الآلاف من أمثاله، أغلبهم أكثر منه علمًا ودربة على العمل وإتقانًا له.

ولكن الشيوعيِّين وحدهم من هؤلاء الآلاف هم الذين يستطيعون أن ينالوا ما تهبه له الحياة من حظوة. وأصحاب الجرأة فيهم هم الذين يستطيعون أن يُواجهوا الناس أنهم لا يمُدُّون يدهم لأي بلدٍ أجنبي. وهو من أصحاب الجرأة هؤلاء.

حين نزل إلى جدَّة قصد فندق الرياض؛ حيث كانت شركتُه قد حجزَت له حجرةً فاخرة ذات غرفةٍ ملحقة وتلفزيون. وبعد أن أودع الحجرة حقيبته ونظر إلى المرآة واطمأن على القصَّة غير المعقولة التي يضعُها على نفسه نزل إلى بهو الفندق ينتظر أصحاب العمل الذي جاء من أجله.

ولكنه فوجئ بصديقه رفعت جالسًا في البهو.

– أنت؟ أنتَ في السعودية؟

– عمل.

– فقط؟

– طبعًا سأعمل هذه العمرة التي تَحكُون عنها في دينكم.

– وأنت؟ ألكَ دينٌ آخر؟

– أنت تعرف.

– فعلًا، أنت مسكين. أنت بلا دينٍ على الإطلاق.

– أحمدُ الله على ذلك.

– بل احمَدِ الشيطان إن شئتَ.

– المهم أنتَ ماذا تفعل هنا؟

– أنا جئتُ من أجل هذه العمرة التي نؤمن بها نحن المسلمين.

– وهل قمتَ بالعمرة؟

– ليس بعدُ. أنا على موعدٍ مع الأصدقاء أن نقوم بها.

– أذهب معكم.

– ألا تخاف؟

– أخاف ممَّ؟

– ألا تخاف أن تؤمن؟ إن للكعبة روعةً، وإن لقبر الرسول ضياءً لا تراه العين، وإنما ينفذ إلى القلب وإلى حنايا المشاعر، فيرُجُّ الإنسان رجًّا عميقًا، وترى روحَكَ حلَّقَت إلى عليِّين تطوف مع النبي في رحلة آخر دينٍ أُرسل إلى الناس وتراه معذَّبًا في سبيل عقيدته، ثم تراه في خطبة الوداع أتمَّ دينه وبشَّرنا أن الله رضي لنا الإسلام دينًا، يخطُب في أصحاب حجه؛ إن دماءكم وأموالكم حرامٌ بينكم حرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في عامكم هذا.

ويهتفُ بهم وهو يختم رسالته إلى البشرية: اللهم هل بلغت؟ ويصيحون: نعم. ويهتف مرةً أخرى: اللهم فاشهد.

أتحتمل هذا جميعه؟

– قد لا يحتمله السذَّج من أمثالك، أما أنا فأحتمله. إني واثق.

– لكم أخشى أن أجدكَ أكثر سذاجةً مني ومن أصحابي المؤمنين.

– لقد جرَّبتُ نفسي مع الإيمان.

– حقًّا؟

– ووجدتُ نفسي غير قابل للإيمان على الإطلاق.

– هل أنت واثق؟

– كل الثقة.

– وكيف عرفت؟

– تعرَّضتُ لمحنة فلم أذكُر الله.

– ما نوع المحنة؟

– هل يهمُّك هذا؟

– كل الأهمية.

– كنت راكبًا سيارتي وغفَت عيني لأجد نفسي غائصًا بسيارتي في الماء. حاولتُ أن أفتح باب السيارة فاستعصى عليَّ. ورحت أُحاول وأنفاسي تختنق بي تشدني إلى الموت في جذبٍ آسرٍ عنيف، ولم أجد أمامي إلا أن أحاول الخروج من شباك السيارة، فرحتُ أدفع جسمي خلاله دفعًا، ثم لم أدرِ بعد ذلك من أمر نفسي شيئًا.

– أُنقذتَ وأنتَ مغمًى عليك؟

– نعم.

– ومتى كنتَ تُريد أن تذكُر الله؟

إننا نحن المؤمنين نذكُر الله حين نُصبِح عاجزين؛ فإن الله يأمرنا أن ندبِّر نحن أمر أنفسنا ونتوكل عليه ولا نتواكل.

وقد كنتَ أنت مشغولًا بإنقاذ نفسكَ وحين جاءت اللحظة التي يجب أن تقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله كنتَ مُغمًى عليك. يا صديقي، إن هذه التجربة لا تصلُح دليلًا تطمئن إليه أنك محصَّن ضد الإيمان.

– أترى ذلك؟

– لا شك في ذلك. هيه، أتأتي معنا؟

– لا، سأذهب وحدي.

وأثار الحديث الكثير من الوساوس في ضميره. ما مصيري إذا اهتزَّت مشاعري من الإيمان، واستيقظَت من سُباتها تلك البذرة القديمة التي ألقى بها في نفسي أبواي، وسقتها البيئة والتقاليد وتاريخ أجدادي الطويل ذاك في ظل العقيدة.

وما البأسُ أن أُومن وأظلَّ في عملي؟ هُراء. إن عملي متوقِّف على إلحادي. ولماذا ألقي بنفسي إلى صراع أنا في غنًى عنه؟ وما لي لا أُبعد مشاعري عن هذا الامتحان؟ قد أجوزه وأظل على إلحادي، أو قد أرسب وأعود إلى الإيمان، ويومئذٍ وداعًا للكاديلاك، والملابس الأنيقة والعيش السعيد.

وبعد أيامٍ التقى الصديقان في بهو الفندق.

– أراك تُنهي إقامتكَ بالفندق.

– عائدٌ إلى بيتي.

– هل أدَّيتَ العمرة؟

– لم يتَّسِع الوقت.

الألغوزة

حاول الكثيرون من الناس أن يُرضُوا كل الناس فكان نصيبهم الفشل الذريع. كان بعض أولئك المحاولين من أصحاب المناصب. وكان بعضٌ منهم آخر من أصحاب الأقلام. وكان بعضٌ آخرون لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولكن الأمر الغريب أن جميعهم على اختلاف أماكنهم أصابهم الخِذلان كل الخِذلان والفشَل غاية الفشل.

فإنه لم يحدُث في تاريخ أمة ولا في تاريخ العالم أن أجمع الناس على رأيٍ واحد؛ ولذلك لم يكن عجبًا أن يسخر الساخرون من التسعات المتلاحقة التي كانت تظهر في نتائج الاستفتاءات التي كانت تُجرى في مصر.

فإنه لا بد أن يكون كل إنسانٍ صاحب رأي، فإن حاول أن يُموِّه في هذا الرأي ويُخادِع الناس عنه أدرك الناس بحسِّهم المُلهَم الموهوب أن المتحدِّث إليهم لا يُحادِثُهم من قلبه، وإنما يُحاوِرهم بمنفعتِه ولسانِه في وهمٍ منه ساذج، أنه قادر على أن يُدخِل في رُوع الناس أنه صادق ولكن هيهاتَ.

الرحاب الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يُرضِيَه هو رحابُ الله، وفي هذه الساحة القدسية لا يستطيع إنسانٌ ما مهما يكن يظُن نفسه عبقريًّا أن يميل عن الحق قيدَ شَعرة؛ فهناك الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وكلما كان الإنسان غبيًّا ظن أنه يستطيع أن يُماكِر رب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي خلقَهم وملكَهم بكل خلجةٍ من خلجاتهم، وكان معبودهم الذي لا معبود لهم غيره.

وهكذا إذا كان الإنسان جديرًا بأن يكون إنسانًا تحتَّم عليه أن يُصدِّق الله فيما يقول أو يفعل، وهو لن يكون صادقًا مع ربه إلا إذا كان صادقًا مع نفسه، يقول رأيه الذي يعتقد ثم يتوكَّل بعد ذلك على الله. وليكن على ثقةٍ أن رأيه هذا سيُغضِب قومًا ويُرضي قومًا آخرين. ومن لا رأى له قيمة له. وما دام صاحبَ رأيٍ فلا بد أن يكون هناك رأيٌ آخر يعارضه.

لعلك سائلٌ نفسك فيمَ هذه المقدمة الطويلة، ولعلكَ أدركت فيمَ أسوقها.

لقد تم تعديل في الوزارة وهي الهيئة التنفيذية للدولة، فإذا حاول الوزراء الكثيرون الذين بقُوا أو الوزراء القليلون الذين وفَدوا على المنصب أن يُرضوا الشعب جميعه على حساب الشعب فإنهم بهذا يكونون أشدَّ خصومة لأنفسهم من المعارضين. إنما ينبغي أن يُراعُوا الله في كل ما يصدُرون عنه، وأن تكون أعينهم مثبَّتةً على المصلحة العُليا للبلاد. وقد يؤدِّي هذا بهم إلى إغضابِ بعض فئات، ولكنهم إذا توخَّوا الرأي السديد واستشاروا أصحاب الضمائر النقية والعلم الثابت والرأي النزيه فإنهم لا شك سيُرضون الأغلبية، والأغلبية هي مصر، ولن تكون الأغلبية في يومٍ من الأيام قلةً هنا أو جماعةً ضئيلة هناك.

فكم يحزُّ في نفوسنا نحن المصريين أن نجد الحمير تسير وهي تحمل أبشع ما تراه العين، ونسأل، وإذا الجواب أن أصحاب الحمير سيغضَبون، وكم يحزُّ في النفس أن نسمع أن العامل المصري لا يعمل أكثر من ساعتَين أو ثلاثَ ساعات، وعمال العالم الغني يعملون ثماني ساعات. وكم يحزُّ في نفوسنا أن نُرضي القلَّة على حساب الكثرة، لا لشيء إلا لأن أصحاب السلطة التنفيذية ينظرون إلى الأفراد ولا ينظرون إلى المجموع. وهيهاتَ لمن كان هذا شأنَه أن يصل إلى ما ينشُدُه من نجاح أو فلاح.

وإنه ليملأ النفس حسرةً مريرةً قاتلة أن نجد الحكومة تدعم السجائر وتُيسِّر للناس أن يشربوا السجائر بمعونةٍ من الشعب الذي لا يشرب، وتكون النتيجة العجيبة المحزنة المخزية أن يقدم العاقل الذي لا يدخِّن عونًا للمستهتر الذي يدخِّن — وعلى فكرة أنا للأسف أدخِّن وإن كنتُ قليل التدخين — ولكن لا أستطيع على أي عرفٍ وتحت أي مذهبٍ ولا بأي منطقٍ مهما يكن معوجًّا أن أتصوَّر أن يشرب الإنسان سمًّا تُعينُه الدولة على شُربه وتكون الحجَّة أن في هذا تخفيفًا عن الناس! على أي ناسٍ يقع هذا التخفيف؟ على قومٍ يقتطعون من أقوات عيالهم ليُحرِقوا صدورهم. ويا ليتهم يفعلون ذلك من حر مالهم أو من مال الوزير، وإنما هو من مال الشعب الكادح الذي يتعب ليأكُل أطفاله، وإذا الأمر يتضح أنه يتعب لكي يدخِّن الآخرون كدْحَه وكدَّه وشقاءه وتعبه.

ولما كانت بعض المصائب تدعو للضحك بل يقولون إن شر المصائب هي تلك التي تضحك، فإننا نجد السجائر مكتوبًا عليها أن ضررها وبيل وخطير.

ومضحكَة أخرى أنهم منعوا الإعلان عن السجائر في التليفزيون، وهكذا أصبح الأمر مجموعة من المتناقضات كلها يُضحِك وكلها يبكي في وقتٍ معًا.

فبدلًا من أن أتقاضى من الشركات الأجنبية أموالًا تنتفع بها الدولة لأُعلن عن سجائرهم، أمتنع عن ذلك محافظةً على صحة الشعب.

فأنا إذن رفضت المال في سبيل صحة الشعب، وهذا شيءٌ رائع عظيم.

ولكن الدولة نفسها التي صنعَت هذا، والتي تعفَّفَت في اعتزاز الحريصين على مصالح شعبهم، تبيع للشعب نفسه وليس لشعبٍ عدُو، ولا لشعبٍ آخر سجائرهم مدعومة بأموال الشعب.

إنني أتحدَّى أي اقتصادي أو عالم اجتماعي أو طبيب أو إنسان يستقيم فكره بعض الاستقامة أن يشرح لي هذه الألغوزة التي تتشابك سوانحها وموانعها وبلواؤها وأضاحيكها بهذه الصورة التي لا صلة لها بعقل آدمي.

ونسمع عن شركاتٍ أجنبية عرضَت أن تقوم بأعمال النظافة في مصر، فإذا بمن يقول إن هذا تدخُّلٌ أجنبي. وتلك عجيبة من عجائب الزمن يزيدها سخريةً أن نجد المطار قد عُهِد في نظافته إلى شركاتٍ أجنبية.

أيكون المطار ليس مصريًّا، أم هو ذلك الرعب من أصحاب الحمير حاملي القمامة؟

إن الشعب إذا لم يشعر أن حكومته رشيدة، وأنها تصدُر في كل ما تفعله عن الرأي السديد الذي يؤدي إلى المصلحة العليا استهان بها، وويلٌ لحكومة يستهين شعبها بها.

ولقد رأيتُ السعودية وهي تعهد لشركاتٍ أجنبية لتتولى النظافة فيها، وشهدتُ النجاح الباهر الذي حققته تلك الشركات. وما سمعنا أن هناك غزوًا حدث من هذه الدول للسعودية. وبعد؛ فكل هذا الذي نقول قديم، والذي لم نقله أكثر مئات المرات، ولكن ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! وقد تعدَّلَت الحكومة فمن حقها علينا أن نُذكِّرها ببعض ما نفكِّر فيه، ومن حقنا عليها أن تكون صادقة مع ربها ونفسها لتكون صادقةً مع شعبها. وأذكُر قول الشاعر:

مُنًى إن تكن حقًّا تكن أعذَب المُنى
وإلا فقد عِشْنا بها زمنًا رَغْدًا

لا يشبهه جيل

رحم الله العقاد الشامخ. كانت له جوامع الكلم في شعره، إلى جانب مكتبته العملاقة التي أفاضت على العالم العربي علمًا أصيلًا وعمقًا وتحليلًا لم تعرف لهما العربية من قبله مثيلًا. أذكره اليوم باكيًا عليه في ذاكره، وأذكُره اليوم وأنا أقرأ كتابًا جليلًا للأستاذ صبري أبو المجد عن أحد الشامخين من رجال ثورة ١٩١٩، هو الأستاذ أمين الرافعي. وقد وثبَت إلى ذهني وأنا أقرأ الكتاب أبيات العقاد الخالد وهو يرثي أحد أعلام ثورة ١٩١٩ فيقول:

سلوا الأوطان يُنبئكُم
بما يعلَمُه النيلُ
يُحيِّي ناصرَ المصريِّ
والمصريُّ مخذولُ
وأول رافعٍ صوتًا
وسيفُ الحرب مسلولُ
له في بَرِّها جيشٌ
كجيشِ النملِ موصولُ
وفي البحر أساطيلٌ
وفي الجو أبابيلُ
إذا لم ينعَه الأحيا
ءُ والدنيا أباطيلُ
نعاه في العزيزيَّـ
ـة مدفونٌ ومجدولُ
وجيلٌ في حمَى التاريـ
ـخِ لا يشبهه جيلُ

ألا ما أصدقَ العقاد! أي جيلٍ ذاك الذي أنبت كل هذه الأشجار السامقة الوارفة؟ اختر أي ميدانٍ شئتَ وانظر تجد جيل أمين الرافعي هو علمها ومنارتها وجبالها الشماء وروحها ونبضها. لقد أذكى فيهم الاحتلال روح التحدِّي، وصمَّموا أن يصيحوا في وجه المحتل بعلمهم لا بصوتهم. اخرج من بلادنا فما نحن بحاجة إلى حضارتك؛ فنحن أعمق منك في أغوار التاريخ حضارة، وما نحن بحاجة إلى علمك فنحن قادرون على أن نكون أعظم منك علمًا وفنًّا وثقافة. والعجيب أنهم أثبتوا القول بالعمل وبلَغوا ببلادهم وهي في ظل الاحتلال وفي فترةٍ قصيرةٍ ما تتقاصر أن تبلُغه كثيرٌ من الدول الحرة وإن تطاولَت بها السنون.

وقد كان أمين الرافعي واحدًا من هذا الجيل المذهل، والحقيقة أن سِنِّي لم تسمح لي أن أعرف الرجل، ولكنني نشأتُ وأنا أسمع أبي يمتدحه بما لم يمدح به إنسانًا آخر؛ فقد كان رحمه الله يرى فيه مثلًا أعلى في الرجولة والوطنية وشرف الكلمة وعمق الرأي والزهد في الدنيا، والوقوف إلى جانب الحق وإن كان الموت هناك له بكل مرصد.

وقد جاء كتاب الأستاذ صبري أبو المجد مُفصِّلًا لما كان يُجمِله رأي أبي. وقد كتبه في لغةٍ أخاذة وفي استطراد مُشوِّق، فنجد الأحداث فيه يأخذ بعضها برقاب بعض في غير عنَتٍ عليك، وفي تعمقٍ للأحداث حتى يبلُغ من حقائقها أقصى ما تستطيع أن تعطي.

يغري بعض الناس صحفيًّا ممن كانوا يعملون بجريدة الأخبار أن يذهب إلى دار السفارة البريطانية ليحصل على أخبار السودان. ويذهب مندوب الأخبار ويقول إنه قدَّم بطاقته ليدخل إلى السكرتير الشرفي بها، فإذا هو يقدِّمه على كل الصحفيين الآخرين. ويروح السكرتير يطري الرافعي وينوِّه بشرف خصومته، ثم يسأل الصحفي عما يريده فيُخبره، فيقول له إذن أنت تريد أخبارًا.

– نعم.

– ولكنك مراسل جريدةٍ خصيمة عنيدة تتهم الإنجليز بأنهم كلابٌ قذرة، ونحن لا نعطي هذه الأخبار إلا للصحف الموالية لنا، فهل لك وقد جئتَ إلى دارنا أن تُبلغ الأستاذ الرافعي أن هذه العبارة التي كتبها إبراهيم عبد القادر المازني تستحق الاعتذار حتى لا تتعرَّض الأخبار للمحاكمة.

ويخرج صحفي الأخبار ويُبلغ الرافعي رئيس التحرير بما كان من أمر السكرتير الشرفي، فإذا الرافعي يبدأ حملةً جديدةً أشد في ألفاظها وأقسى من السابقة، ويقول فيها بمنطقٍ لا يقبل الجدل: «إن الإنجليز يرون في الكلمات شيئًا يستحق المحاكمة، ولا يرون في ضرب الأبرياء الآمنين السودانيين ما يستحق المؤاخذة.»

وفي عام ١٩١٤ يشعُر الرافعي أن إنجلترا ستُعلِن الحماية على مصر، وأنها ستمنع الخديو عباس حلمي الثاني من العودة إلى مصر، وأنها تستعين بدلًا منه بالأمير حسين كامل. وكان من الطبيعي أن يدرك أن قرار إعلان الحماية لا بد من نشره في الصحف عند صدوره بسبب وجود الأحكام العرفية والرقابة على الصحف. وينتظر الرافعي إعلان الحماية، وقد بيَّت أمرًا؛ فما إن صدر الإعلان حتى أعلن هو إغلاق جريدة الشعب التي كان يُصدرها حتى لا يُنشر هذا الإعلان في جريدةٍ مصرية تحمل اسمه. ويصف الدكتور عبد العزيز رفاعي هذا القرار في كتابه ثورة مصر سنة ١٩١٩ بقوله: إن قرار أمين الرافعي بوقف إصدار جريدة الشعب هو أول احتجاجٍ مصري على الحماية البريطانية.

وهكذا كان الرافعي بذلك هو صوت مصري احتَج على إعلان الحماية البريطانية، وكان من الطبيعي أن يكون من أوائل المعتقلين.

وفي أثناء ثورة ١٩١٩ يقول الأستاذ صادق عنبر عن دور أمين الرافعي في لجنة الوفد المركزية: بقي أمين يدير دفَّة الحركة الوطنية في لجنة الوفد المركزية التي كان روحها وقوامها، فكان يُحرِّر قراراتها ونداءاتها، ويدير حركاتها لمصلحة القضية الوطنية بإخلاص ونزاهة، وهو الذي كتب المقالات الشهيرة الوطنية «ديننا والاستقلال» هاتفًا باسم أحد أعضاء الوفد سنة ١٩١٩ وسنة ١٩٢٠ فأحدثَت تأثيرًا كبيرًا في الرأي العام، وهو أول من دعا إلى مقاطعة لجنة ملنر في أنحاء القطر المصري، ووافقه الوفد على فكرته، فكانت هذه الحركة موضع إعجاب العالم بما أظهرَتْه الأمة من الاتحاد وتماسُك الصفوف وصِدق النظر. واستأنف جهاده في الصحافة بإصدار جريدة الأخبار، فنالت من المكانة لدى الجمهور ما كان للشعب واللواء من قبلُ.

ويقول الأستاذ أحمد وفيق: ما كان أمين الرافعي في أثناء وجود الوفد في الخارج إلا محور اللجنة المركزية ومديرًا لدفَّتها وقائدها الأعلى إلى الأمام، ودائمًا إلى الأمام في سبيل التمسُّك بالحق الكامل لمصر.

وبعد فإني أهنئ الأستاذ صبري أبو المجد لاختياره هذه الشخصية الرائعة لكتابه العظيم، ولو كان الفنانون السينمائيون مصريين حقًّا لأرَّخوا لتاريخ مصر بهؤلاء الأعلام الأفذاذ وليس بتاريخ المواخير ورائدات الفجور عفا الله عنهم وعنهن. ولست بمستطيعٍ أن أختم مقالي هذا ولا أذكُر أبياتَ أمير الشعراء في رثاء أمين الرافعي:

يا أمينَ الحقوقِ أدَّيتَ حتى
لمْ تخُن مصرَ في الحقوق فتيلَا
ولو اسطعتَ زدت مصر من الحقِّ
على نيلها المبارك نيلَا
تُنشِد الناسَ في القضية لحنًا
كالحَواريِّ رتَّل الإنجيلَا
ما تُبالي مضيتَ وحدَك تحمي
حوزةَ الحقِّ أم مضيتَ قبيلَا

ويقول فيها:

أخذ الموتُ من يد الحق سيفًا
خالديَّ الغِرار عضبًا صقيلًا
من سيوف الجهاد فولاذه الحقُّ
فهل كان قينه جبريلَا
لمسَته يد السماء فكان اﻟـ
ـبَرقَ والرعدَ خفقةً وصليلَا
وإباءُ الرجال أمضى من السَّيْـ
ـفِ على كفِّ فارسٍ مسلولَا

ألم يقل لكَ العقادُ إنه جيلٌ لا يُشبِهه جيل.

هذه الجدران

الأمر الذي لا شك فيه أن صوتي جميلٌ غاية الجمال؛ فأنا أستطيع أن أرفعه حتى أبلغ به عنان السماء، وأستطيع أن أُوشوِش به كعاشقٍ يلقي بكلمات الشوق والهُيام إلى محبوبته.

وإذا أنا ارتفعتُ به أطربتُ وأشجيتُ وجعلتُ الحجارة الصمَّاء تتفطَّر من الإعجاب والتفرُّح والهناء. وأنا إذا شوشتُ أسمعتُ وبلغتُ ما أريد أن أبلغ من القلوب مهما تكن قلوبًا غلفًا عليها أقفال.

هكذا خلقَني ربي؛ فالصوت الجميل موهبة ليس ينالها أحدٌ إلا بأمر السماء. وقد أمر سبحانه فكنتُ. ولا رادَّ لأمره، ولا معقِّب على مشيئته.

ولكن الإنسان الذي ينسكب عليه فضل السماء مكتوبٌ عليه أن يصبح مثار أحقاد البشر ممن لم يُنعِم الله عليهم بسابق نعمه.

ولو تمثل هذا الحقد في النيران التي تلتهم قلوب الحاقدين لهان الأمر، واستمتعتُ به متعتي بجمال صوتي وبروعته، ولكن الحقد عند الحاقدين عليَّ يتمثَّل في سلاحٍ قتَّال يكاد يقضي على مستقبلي جميعًا؛ فالحاقدون يقفون حائلًا بيني وبين الناس، فلا يسمعني أحدٌ لأنهم لا يسمحون لأحدٍ أن يسمعني. ربما سألتَ نفسك الآن: ما دمتَ لم تُسمِع أحدًا صوتك فمن أين جاءتك هذه الثقة أن صوتك جميل؟ ولكن يا صديقي الثقة تنبُت في النفس كالشجرة المباركة، لا تعرف من أين نبتَت ولا كيف تشاهقَت غصونها وطاب ثمرها واشتدَّت ساقها، وضربَت جذورها في أعماق الأعماق.

وهكذا هي ثقتي بنفسي. هي ثقةٌ مؤيَّدة بروح القدس، وما لها من نهاية وليس في يقينها ذرةٌ من شك.

ولقد تواضعتُ وذهبتُ إلى بعض هؤلاء الذين يُطلِقون عليهم كبار الملحنين، وما كنتُ في حاجة إليهم لأنني ألحِّن أنا لنفسي أغنياتي، وأنا أيضًا الذي أكتب كلماتي، ولكن لا بد لي أن أتواضع حتى أقيم صلة بيني وبين هؤلاء الذين أخذوا مكان الصدارة في الأغنية العربية في حين غفلة من الزمان. ذهبتُ إلى الملحن الكبير سعيد زياد: أريدك أن تضع لي لحنًا يا أستاذ.

– هكذا مرةً واحدة.

– ومستعدٌّ أن أُعطيَكَ أجرك مضاعفًا.

فقد فاتني أن أقول لك إنني موفور المال، والغناء بالنسبة لي ليس مصدر رزق وإنما هو إعلان لفضل الله عليَّ. وأنا أيضًا لا تهمُّني الشهرة. كل ما في الأمر أنني واثق من جمال صوتي وأريد أن أُمتعَ الناس ولا أرجو منهم جزاءً ولا شكورًا.

ولكن الغريب أن الملحِّن المرتزق قال في كبرياء وتعالٍ: أنا يا ابني لا أُلحِّن لأي أحد.

– كيف؟

– لا بد أولًا أن أسمعك.

– تسمعني إن شاء الله.

– وأريد أن أعرف ما هي ثقافتك الموسيقية.

– ثقافتي، لماذا؟

– ألم تسمعني؟!

– المدهش أنني سمعتُكَ.

– وما وجه الإدهاش فيما سمعتَ؟

– الكلمة غريبة على أذني.

– كيف؟

– الذي أعرفه أن الصوت موهبة.

– هذا حق، ولكن الموهبة لا بد أن تُثقَّف.

– وكيف تُثقَّف الموهبة؟

– بالدراسة.

– هل يُدرس الغناء؟

– كما ندرُس الموسيقى.

– ولكنني أنا أغني وألحِّن وأؤلِّف الأغاني بغير دراسة.

– هكذا بعلمٍ لدنِّي؟!

– بعلم لدني أو لدنك لا أدري، وإنما أنا أغني وكفى.

– غنِّ.

وما كدتُ أكمل الكوبليه الأول حتى وجدتُ الملحِّن يثور بي ثورةً شيطانية.

– قم. امشِ. ملعون أبوك وأبو من قال لك إنك تغني.

وتمالكتُ نفسي.

– لا أسمع صوتك، قم امشِ.

وحاولتُ أن أقول شيئًا فعاجلَني: ولا كلمة، اخرج.

وحين خرجتُ رجعتُ إلى نفسي، ما الذي جعل هذا الرجل يثور هذه الثورة المحمومة، أنا أعلم أن صوتي جميل، ولكن لم أكن أعلم أنه جميل إلى هذا الحد. لقد أفقد الرجل عقله واتزانه. وما ثورته هذه إلا رعبُه وهلعُه أن يصل صوتي إلى الآذان بلحنٍ من ألحاني فيُصبِح هو ضائعًا لا قيمة له؛ فإني واثق أن الجمهور إذا سمع صوتي فسينصرف عن كل الأصوات الأخرى وسيرفض ألحان جميع الملحِّنين، فلم يكن عجيبًا إذن أن يثور الملحِّن هذه الثورة، بل كان العجيب ألا يثور.

حاولتُ أن أتقدَّم للإذاعة، وذهبتُ إلى هناك وسجَّلتُ اسمي ضمن من يرغبون في اختبار أصواتهم. وتحدَّد الموعد، وذهبت فيه. ما هذا؟ إن اللجنة جميعها من الملحنين والمغنين. قلتُ: لعل الجماعة تكون أكثر عدلًا من الفرد. وغنَّيت. أكملتُ الجزء الأول من الأغنية، وقيل لي كفى. وظهرت النتيجة؛ لا يصلُح. عجبتُ! ثم سرعان ما زال عجبي، وعجبتُ من نفسي. كيف ظننتُ أن أجد العدالة عند هؤلاء؟ كيف توهَّمتُ أن أجد العدل عند الجماعة حين أفقدها عند الفرد؟ وهل الجماعة إلا مجموعة أفراد؟

إن كل ملحِّن من هؤلاء أدرك بخبرته السر الإلهي الذي أتمتع به ملحنًا ومغردًا. ضاقت بي المسالك ولكنني أبيتُ لظلٍّ من الشك أن يتسرَّب إلى يقيني أنني أتمتَّع بأعظم موهبةٍ موسيقية عرفها التاريخ.

فكَّرتُ أن أذهب إلى شارع محمد علي؛ فقد رأيت في أفلامٍ مصرية كثيرة أن أغلب المشاهير من المطربين بدأ حياته هناك.

ظلَلتُ أتردَّد على مقاهي الشارع الضيق حتى كان يومٌ جلستُ إلى أحد المقاهي وسمعتُ جاري يقول لرفيق جلسته: ألا تعرف لي مغنيًا لاطشاه الشمس يحيي لي فرح الليلة؟

– ماذا؟ أنت الذي تسأل هذا السؤال؟ وكل المغنين الذي لطشتهم الشمس صبيانك.

– كثُرتِ الأفراح وكلهم الليلة مرتبط.

– إذا كنتَ لا تعرف فلا تنتظر أن يعرف أحد. ودون ريث تفكير قلتُ بصوت مرتفع: أنا.

ويبدو أن جاري لم يتصوَّر أن الكلام موجَّه إليه فراح يكمل حديثه.

– أي مطرب حتى وإن لم يطرب. وصحت من جديد: أنا. أنا يا أستاذ.

والتفت إليَّ جاري وقال: أتكلمني يا أخ؟

– نعم يا أستاذ.

– أنت تغني؟

– أنا مطرب لا مثيل له، لا ينقصني إلا الجمهور.

– وأنا عندي الجمهور.

– ألا تسمعني؟

– أسمعكَ في الفرح إن شاء الله.

– أمرك.

وذهبتُ إلى الفرح. كان في شقة ببيتٍ قديم بحي شبرا، ولكن أصحاب الفرح أقاموه في سطح المنزل. وكان السطح كبيرًا مزدحمًا بالناس من شتى الأعمار. ويبدو أن صاحب الفرح كان من مدمني الشرب؛ فالخمر الرخيصة متناثرة بقوة على الموائد، والحضور يتُوقون إلى السرور فهم على استعداد أن يختلقوه اختلاقًا إن لم يتوافر لهم.

وهكذا كان استقبالهم للراقصة رائعًا فالأصوات جئير وصراخ. وأغلب الظن أنها كانت أصوات الحيوان في الإنسان كشفها سُعار الخمر فانفجرَت زئيرًا أو نهيقًا أو عُواء، أيها شئتَ؛ فكلها أصوات حيوان.

وأعقبها الفتى الذي يلُقي المنولوجات والنكات، وقد كان استقباله مزيجًا من السرور والغضب؛ فقلما تُرضي النكتة جميع المستمعين لها، وخاصة إذا كانوا جمعًا حاشدًا وجمهورًا غفيرًا، ولكن على أية حال مر الأمر بسلام، وانتهى المنولوجست من نمرته ونزل دون أن تحدُث خسائر في الأرواح.

وقدَّمَني متعهد الحفل بالموسيقار العبقري وصاحب الصوت الملائكي. وراحت الفرقة تعزف الموسيقى التي اتفقتُ معها عليها وبدأتُ الغناء.

لم أكد أغني البيت الأول حتى سمعتُ صياحًا في السطح جميعًا. إعجاب لا شك. هدأ الصياح قليلًا … ليرتفع صوتٌ منفرد: أضعتَ الكاسين، الله يخرب بيتك.

قلتُ في نفسي إنه إما ملحن أو مطرب يحقد عليَّ. ومضيتُ في الغناء وإذا صوتٌ آخر: أهذا كلام؟ أدُعينا هنا لكي نتهزأ؟

وتصوَّرتُ أن الكلام موجَّه إلى شخصٍ آخر، ولكن ما هي إلا لحظة حتى رأيتُ الكراسي تتطاير في الهواء، وقبل أن أرى وجهتَها غبتُ عن الوعي.

أفقت على المقهى الذي التقيت فيه بالمتعهد، ولم يكن أحدٌ معي لأسأله ما الذي حدث. ولكني أدركتُه.

لقد خرج الناس عن وقارهم، وأصابهم صوتي بالنشوة المجنونة العارمة فراحوا يقذفون في الهواء كل ما تصل إليه أيديهم، وكانت الكراسي أقرب شيء إليهم. ولم يدركوا في غمرة السعادة التي داخلَتهم من غنائي أنهم قد يُصيبون مصدر السعادة نفسه، فهوت الكراسي على رأسي ورءوس العازفين لي.

وانتهز المتعهِّد فرصة الغيبوبة التي أسلمَتني إليها الكراسي التي هوت على رأسي فألقى بي على المقهى حيث لقيني أول مرة وتخلَّص مني. وأنا لا يهمني المال، ولكنني كنتُ أرجو أن يكون إعجاب الناس بي أقل مما كان حتى يقبَل وكلاء الفنانين الاتفاق معي وأصل إلى الناس وأُمتعهم. هذه القصة التي لم يعرفوا لها مثيلًا في حياتهم، ولن يعرفوا.

والآن ماذا أنا صانع، وما سبيلي الذي ينبغي عليَّ أن أتخذه حتى أحقِّق هذه الأمنية التي وهبتُ نفسي لها؟

انطويتُ على نفسي وعيناي تراقبان في حدَّةٍ الأخبار الفنية. رحتُ أقرأ أنباء الحفلات بعينَي نمرٍ متربِّص لا يفوتني من أمرها شاردة ولا واردة، حتى كان يوم قرأتُ في جرائد الصباح أن النادي الرياضي سيقيم حفلةً غنائية بمناسبة فوزه بالكأس، فطرأَت على رأسي فكرةٌ حاسمة.

فقد جاء في النبأ أن المطرب الشهير فوزي المعلاوي سيُغني في الحفل، فأدركتُ أن تلك هي فرصتي، وأنني لن أجد خيرًا منها لأحقِّق للناس ما لا يحلمون به من سعادة وطرب.

لبستُ خير حُللي، وكانت حلةً سوداء بها خطوطٌ بيضاء ناصعة البياض من قماشٍ إنجليزي فاخر نجح الترزي أن يفصِّلها عليَّ تفصيلًا رائعًا يزيد من مظهر رشاقتي التي لا مثيل لها، ورجَّلتُ شعري عند أعظم حلَّاق. وحين نظرتُ إلى المرآة داخلَني الخوف أن يراني الناس فيحسُدوا جمالي ورشاقتي واتساق طلعتي وقامتي وأناقة ملبسي، التي زاد منها رباط العنق الذي اشتريتُه مستوردًا من أعظم بيوت الأزياء في باريس، وقد انعقد حول ياقة قميصٍ مستورد من سويسرا.

وسارعتُ إلى بيتي أردُّ عن نفسي عيون الحاسدين، ولم أنسَ قبل أن أقصد إلى المنزل أن أشتري تذكرةً في الحفلة.

وقبعتُ في المنزل أترصَّد الساعة حتى أصبح الموعد مناسبًا، ونزلتُ من بيتي وذهبتُ إلى مقر الاحتفال.

فوزي المعلاوي لا يدخل مع الفرقة الموسيقية، ولكنه يترك الفرقة تعزف جزءًا كبيرًا من المقطوعة ثم يدخل حتى يضمن التصفيق له أن يكون واضحًا في الإذاعة، ولا يضيع صداه في زحمة فتح الستار والتصفيق المتخاذل للفرقة.

وانتظرتُ حتى أعلن مذيع الحفل عن فقرة فوزي المعلاوي، وفُتحت الستارة، وصفَّق الحشد الهائل تصفيقًا هينًا للفرقة وبدأَت الموسيقى العزف، ولكنها لم تكَد حتى رآني الناس أتسلَّق المسرح من الصالة، ورحتُ من فوري أغني أغنية المعلاوي. وما له، لا بأس؛ فما دمتُ لا أستطيع أن أغني أغنياتٍ من شعري ومن تلحيني فلْأتواضَعْ وأغنِّ كلماتٍ لشاعرٍ آخر وبلحنٍ لم أؤلِّفه. لا بأس أن تكون هذه هي البداية.

بُهت الجمع الحاشد، وارتسمَت الدهشة في كل الوجوه، واضطرب أعضاء الفرقة الموسيقية، وأصبحوا لا يدرون ماذا يفعلون؛ فقد كانوا يتوقَّعون أي شيء إلا هذا الذي صنعتُه. توقَّف بعضهم عن العزف واستمر بعضٌ آخرون، ولكن ضابط الإيقاع الذي ينقر الطبلة كان أسرعهم إلى العمل؛ فقد كان رجلًا ضخم الجثة قوي البنيان، ولا شك أنه خبيرٌ موسيقي. وقد أدرك في اللحظات القليلة التي استمع إليَّ فيها أنني سأمحو فوزي المعلاوي من الوجود، بل وسأمحو معه كل المغنين السابقين منهم واللاحقين.

هي فِقرةٌ واحدةٌ غنَّيتُها، ثم وجدتُ نفسي طائرًا في الهواء، ثم لم أعلم من أمري بعد ذلك شيئًا.

وحين أفقتُ وجدتُ نفسي ملقًى بجانب سور الصالة، مثل لقمةٍ وجدها مؤمن في الطريق فأزاحها إلى جانب حائطٍ ليمنع الناسَ أن يدوسوا النعمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤