بين الخطيئة والغفران

مسكينٌ ذلك الإنسان، يبدأ حياته طفلًا فالدنيا حوله نور وطهر ونقاء، وتتزاحم عليه من الكبار دعاوَى الشرف والزهد والعدالة. ويتعرَّف على دينه فيجده ضياء وإشراقًا وسموقًا، ثم يدلُف إلى باب الحياة، وويلٌ له حين يدلُف إلى باب الحياة تُحيط به مغريات الجسد وحاجات الإنسان إلى الغنى، ويجد أن الإنسان لا يصيب مالًا وافرًا إلا إذا فقد طهرًا أو كرامةً أو نقاء. وتُلحُّ عليه الحياة بسُعارها، ويتمزَّق بين أضواء الطفولة وبراءتها وبين مُغرِيات العصر وسفالاته. والاختيار له وحده؛ فالله سبحانه في علياء سمائه هدى عباده النجدَين، وألهَم النفوسَ فُجورَها وتقواها، وجعل لكلِّ إنسانٍ طائره في عنقه، وترك له حق الاختيار؛ فهو إما جانحٌ إلى قويم من النجدَين أو جامحٌ إلى مُعوَجٍّ منهما.

ويُشفِق رسول الله على أمته جميعًا، ويقول في شموخ الإنسان الصادق وعظمة الأنبياء: «حُفَّت الجنَّة بالمَكارِه.» فالذي يختار الطريق إلى الجنة يُكرِه نفسه أن تختار غير ما تهوى، ويلويها أن تميل إلى ما تهفو إليه من متعةٍ عاجلة محقَّقة. وتتكالب المغريات على الإنسان الضعيف فيَزِلُّ ثم يثوبُ إلى رشده فيطلُب الغفران. ويقول الشاعر:

وإني لأرجو الله حتى كأنَّني
أرى بجميلِ الظن ما الله فاعلُه

فهو واثقٌ من الغفران؛ لأن الله سبحانه شرع الغفران للخطَّائين. ولو لم تُوجَد الخطيئة ما سَمَّى الله نفسَه بالغفور.

ويقول أبو نواس:

إن كان لا يرجوكَ إلا مُحسِنٌ
فبمن يلوذُ ويستجيرُ المُجرِمُ

ولكنَّ الإنسان لا يقمع نفسه عن الخطيئة بل يظل متعلقًا بها؛ تغريه متعتُها ويطيبه إغراؤها وتجتذبه نشوتها، فإذا وزَعَه من الإيمان وازعٌ ردَّه بالأمل في المغفرة. ويمضي إلى خطيئته لا يلوي على شيء، حتى إذا انحسر خمارُها، وثاب إلى نفسه اللوَّامة تاب وآب، وعاد يرجو الله سبحانه الغفران. وهل هناك أوسعُ من مغفرة الله؟ سبحانه هو بارئ النفوس وهو العليم بما يصنعه الشيطان من تجميل الشر، ومن جعل الشَّين زَينًا والمقبوح من الفعل مكسُوًّا بالرِّواء والبهاء والجاذبية.

ويظل الإنسان بين شدٍّ وجذب وبين إقبالٍ على المحرَّمات وانصرافٍ عنها. ويبلُغ أحدهم الكِبَر وتُحيط به الشيخوخة، ويضطَره العجز إلى الاستقامة، ولكنها استقامةٌ هو مرغَمٌ عليها، ولم يقصِد إليها عن اختيار؛ فهو تائبٌ في غيرِ عفَّة. ولا يقعُد به الكِبَر أن يُصرِّح بذلك، فيقول ذلك البيت الشهير:

هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تسلَّفَت
أم اللهُ إن لم يعفُ عنها يُعيدُها؟

وما رأيت بيتًا يجمع التوبة والفجور في شطريه كما يفعل ذلك البيت؛ فهو يرجو الله أن يغفر له، وهو في الوقت ذاته لا يخجل أن يقول للذات العلية إذا كان لا بد من العقاب فلا بأس، ولكن أرجو أن تُتاح لي القدرة على إتيانِ ذنوبي مرةً أخرى لتتوافَر لي المتعةُ ما دامت المغفرة غير متاحة. وهكذا نجد أن الفجور قديمٌ قِدَم الصلاح، وأن الفجور لا يقف به أمد ولا ينتهي عند حد، كما أن الصلاح عميق الأغوار بعيد المدى. والإنسانية تتأرجَح بين الجانبَين بغير حَيرة وإنما عن بصيرة ووعي، وفي الوقت نفسه بين رغبةٍ عاجلة في متعةٍ عابرة وبين إيمانٍ عميق الجذور يرجُو وجه غفورٍ رحيم.

والإنسان ظالم لنفسه، هو الذي اختار أن يحمل الأمانة التي أشفقَت منها السموات والأرض والجبال وأبَيْن أن يحملنها. حتى إذا استجاب الله لسؤال الإنسان، وألقى على كتفَيه أمانة الاختيار، تخبَّط في حياته هذا التخبُّط، وراح يضرب في الأرض ونظره إلى السماء؛ فهو بين رغبات الأرض وبين إيمانه بالسماء في شدٍّ وجذب وإقبالٍ وإدبار.

ويضيقُ بعضُ الناس فيُعلِن إلحاده وكفره مختارًا اليأس، مُفضِّلًا له عن رعب الانتظار، موهمًا نفسه أن اليأس إحدى الراحتَين، ولكن هيهات؛ فالمُلحِدون أشد الناس عذابًا؛ لأنهم في البعيد من نفسهم يعلمون أنهم على باطل، وهم في أعماقهم يتمنَّون أن يحظَوا بالجنة التي وعد الله بها المتقين من عباده، ولكنهم يدركون أيضًا أنهم أبعد الناس عنها بما كفروا وألحدوا، ويظلُّون مع أنفسهم في صراعٍ مرير بين ما أعلنوا من إلحاد وما تشعر به قلوبُهم من أن صاحب هذا القرآن لا يقول إلا الحق. وما تزال أفئدتهم بين يأس وأمل وبين إقدام وإحجام فِعلَ اللص المبتدئ يمُد يدَه للسرقة برغبة الغنى، حتى وإن كان عن طريقٍ محرَّم، ويكُفُّ يده بأمل التوبة والغفران من الرحمن الرحيم، الذي وسع غفرانه ذنوب البشر، وشملَت رحمته المؤمن والعاصي والعابد والعربيد والقانت والزنديق. ويقول شوقي الخالد في رثاء إسماعيل أباظة باشا:

إلى الله إسماعيلُ وانزِل بساحةٍ
أطلَّ الندى أقطارَها والنواحِيا
ترى الرحمةَ الكبرى وراء سمائها
تلُف التُّقى في سَيبها والمعاصِيا
لدى ملكٍ لا يمنعُ الظلَّ لائذًا
ولا الصفحَ توَّابًا ولا العفوَ راجيًا

ويُعربِد أبو نواس ما شاءت له عربدتُه، ويقول شعرًا مُلحِدًا يتناقلُه الناس على مر العصور، ويُمعِن في الفسوق والمروق متخذًا من التطرُّف ستارًا يحتمي فيه، ثم تُطالِعه السنُّ، ويُدرِك أنه أوشك على النهاية، ويُصبِح صارخًا بنفسه:

«يا كبير الذنب.»

وتمُر أمام عينَيه حياتُه جميعًا، فيرى نفسه محاطًا بالنار لا يموت فيها ولا يحيا، ويتبدَّل جِلْدُه كلما احترق له جِلْد، ويأخذه الهول ويلتاع ويُدركُ أي عذابٍ هو ملاقيه، ولا يجد لنفسه الهالعة ملاذًا إلا عفو الله. ويُكملُ البيت:

يا كبيرَ الذنبِ عَفوُ
اللهِ من ذنبكَ أكبَر

ويتفكَّر ويصيح:

كن مع الله يكُنْ لَكْ
واتَّقِ الله لعلَّكْ
لا تكُن إلا مُعِدًّا
للمنايا فكأنَّكْ
إنَّ لله لَسهمًا
واقعٌ دونكَ أو بِكْ

ويصيح الزمان فإذا الصوت الذي سمعه ملحدًا كافرًا زنديقًا يعود فيملأ الدنيا إيمانًا ومناشَدةً للمرحمة، ودموعًا تخضِب الأرضَ في طلب غُفران السماء.

فالله غالبٌ على أمره. والمُلحِد من دنياه في عذابٍ وبيل، وهو في الأخرى لدى عالم الغيب والشهادة، وهو سبحانه وحدَه العالم بمصيره ومُنقلَبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤