الفصل الثاني عشر

كان بهجت جالسًا بمكتبه بالشئون القانونية بالوزارة، حين أقبل عليه رجلٌ مهيب الطلعة على قدْرٍ من الوجاهة، لا يخفى على من يراه، قال: بهجت بك العزوني؟

– أنا هو، تفضَّل، أهلًا وسهلًا.

وجلس القادم إلى الكرسي الذي يلاصق مكتب بهجت، وقال: أُقدِّم نفسي؛ أنا عصام شهاب الدين.

وعرف بهجت مُحدِّثه؛ فهو من كبار تجار البقالة في مصر كلها.

– أهلًا وسهلًا طبعًا، أسمع بسعادتك، ولو أنه لم يكن لي الشرف قبل اليوم.

– أهلًا بك. شكرًا.

– أمامك عقدٌ لي مطلوبٌ موافقة الوزارة عليه.

– أعرفه.

– وما رأيك؟

– يا عصام، مثلك لا يخفى عليه الرأي في هذا العقد.

– لك حق.

– فماذا أستطيع أن أفعل؟

– ماذا ترى؟

– العقد مخالف للقوانين واللوائح.

– وهل يستعصي عليك شيء؟

– أمام القانون؟

فقاطعه عصام قائلًا في حسم: عشرة آلاف جنيه.

وصمت بهجت فجأةً وكأنما أُصيب بالخرس، وفكَّر قليلًا ثم قال: خمسة عشر.

وقال عصام: اثنا عشر.

– اتفقنا.

– متى أتسلَّم العقد؟

– متى أتسلم المبلغ؟

– اليوم بعد الظهر، الساعة السادسة.

– أين؟

– في قهوة بوديجي.

– سيكون العقد معي أُسلِّم وأستلم.

– وهو كذلك.

تمَّت صفقة الأسهم كما أعد لها حمدي، واشترت كريمة أسهم شركة الغزل بجزءٍ من نصيبها، وأصبحَت الأسهم باسمها، وسافر وحيد وزوجته بعد تمام البيع بأيامٍ. ولم يمُرَّ شهران على هذا جميعه حتى لقي الباشا ربه، طاويًا تاريخًا سياسيًّا واقتصاديًّا جديرًا بكل إجلالٍ وإكبار.

ومرت أيام العزاء الذي لم يشهده الحاج سعيد العزوني؛ فقد أصبح لا يُعزِّي ولا يُهنِّئ ويكاد لا يتكلم، ولولا مجدي لما وجدت الأرضُ الباقية أي عناية أو رعاية.

وبهجت طبعًا لم يفكِّر أن يطالب أباه أو أخاه بريع الأفدنة العشرة؛ فقد أصبحَت طموحاته أكبر من ذلك بكثير.

خلا بزوجته يومًا.

– أسهُم شركة الغزل.

– ما لها؟

– ثمنها نزل.

– مثل كل الأسهم.

– لماذا لا نستفيد منها؟

– ماذا تقصد؟

– إذا بِعتِها لي يمكن أن أكون عضوًا بمجلس الإدارة و…

فقاطعته.

– هل معكَ ثمنها؟

فقال في تبجُّحٍ: وهل تحتاجين إلى ثمنها؟

– كل إنسانٍ أولى بماله.

– إلا الزوج والزوجة فمالهما واحد.

– الإسلام لم يقُل هذا.

– ولكن العرف بين الناس والحب بين الزوجَين يقولانه.

– تكتب لي ورقة أن البيع صوري.

– أكتب عشرين ورقة.

– لا بأس، أنا كنتُ عارفة منذ تكلمتَ عن هذه الأسهم أن عينك عليها، وأنك لن تُفلِتها من يدك أبدًا.

ومن هذا الحديث ومن كثيرٍ أمثاله وضح لبهجت أن زوجته تفهمه تمام الفهم، وأنها إذا كانت تُطلِق يده في أملاكها، فما هذا إلا لأنها تعلم أنه سيأخذ ما يريد، ولئن يسرقها زوجها خيرٌ من أن يسرقها الغريب.

مر على زواج بهجت وكريمة بضعة أشهر أوشكَت أن تكتمل عامًا.

وبدأَت كريمة تشعر بتغيُّرٍ جسماني دُهشَت له كل الدهشة، حتى لا تكاد تُصدِّق أن ما تُحِس به أمرٌ واقع، وليس وهمًا أو تخيلًا ولا نوعًا من الرغبة التي تُئوي تجسيد الآمال البعيدة، لتصبح حقيقةً ماثلة لا مراء فيها ولا شك يدور حولها. وحين ذهبَت إلى الطبيب تأكَّد ما توقَّعَت. إنها حامل حملًا مؤكدًا. وانفجر الفرح في نفس كريمة معربدًا صاخبًا أنساها كل ما مر بحياتها من آلام وأحزان، بل كاد يُهوِّن عليها ما تشهده من طمع زوجها فيها. وكان من الطبيعي أن يفرح بهجت بهذا النبأ، وهل هناك أقوى من البنوة آصرة توثيق ارتباطه بزوجته؟ كما فرحَتَ أمه التي لم تعرف الفرح منذ نكبة زوجها المالية، بل إن الحاج سعيد نفسه علَت شفتَيه تلك الابتسامة التي توارت عن نفسه ووجهه، وإن بدت اليوم واهنةً هزيلة متهافتة ضامرة، فهو منذ خسارته الفادحة لم يُفِق من بلواه، وتجرَّأَت الحاجة عايدة أن تقول له: يا حاج سعيد، افرح فإنك خاصمتَ الفرح، بل خاصمتَ الدنيا كلها منذ زمانٍ بعيد.

– ولن أصالحه أبدًا.

– سيأتي لك حفيدٌ من ابنك البكر.

– وماذا أستطيع أن أُعطي له إلا الفقر والعوَز؟

– عنده ما يكفيه، وهو في غير حاجةٍ إلى مالك.

– الشيء الذي يُدهِشني أنني لم أمُت حتى الآن.

– أعوذ بالله … بعد الشر.

– وهل هناك شرٌّ مما أنا فيه؟

– التجارة مكسب وخسارة.

– أنا لست تاجرًا، أنا دخلت في ميدانٍ لا شأن لي به، وحسرتي على نفسي أنني كنتُ مستغنيًا عن تلك المخاطرة كل الاستغناء.

– وماذا تقول في قدَر الله؟

– أنا الذي اخترت.

– يا حاج، صلِّ على النبي. إن الإنسان لا يستطيع أن يرُدَّ قدَره.

– ربنا وهب لنا العقل لنختار، وقد أسأتُ الاختيار وأنا أعاني ما أعانيه؛ لأني أنا نفسي الذي دمرَّتُ نفسي.

– المهم مبروك علينا حفيدنا.

– يا عالم، هل سأراه أم أنني لن أراه؟

وكأنما كان الحاج سعيد مطلعًا على الغيب وهو يقول كلمته العَفْوية هذه؛ فقبل أن تلد كريمة كان الحاج سعيد قد انتقل إلى رحمة الله.

ولم تكن وفاتُه ذات أثَر إلَّا على زوجته الحاجة عايدة، التي فقدَت فيه رفيق العمر وأبا ولدَيها وأنيس وحدتها، ولو أن أُنسَه انقطع منذ هذا الذي حدث.

أقام بهجت ومجدي مأتمًا وقورًا لأبيهما، واستقبلا العزاء فيه بالبلدة، وانقضى اليوم ومضى الابنان كلٌّ في سبيل. العجيب أن بهجت لم يطالب أخاه بريع الفدادين؛ أولًا لأن هذا الريع أصبح لا يمثل له قيمةً مع ما هو فيه سعةً وبحبوحة؛ وثانيًا لأنه قدَّر أن مجدي سيقوم بشأن أمه؛ وثالثًا لأنه يعلم أنه قادرٌ بمهارته في الزراعة والحسابات الزراعية أن يجعله لا يُصِيب من أرضه مليمًا، فقال في نفسه: أجعلها جميلًا بدلًا من أن أُرغَم عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤