الفصل الخامس عشر

مرَّت سنواتٌ ثلاث وانتقل وحيد إلى القاهرة، وصاحبَت كريستين الأُسرة مع أن فريد وصبحي أصبحا في المدرسة، ولم يعودا في حاجةٍ شديدة إلى مربية، ولكن اطمئنان سعدية ونقاء نفسها من الشك، إلى جانب ما اتفق عليه وحيد وكريستين، قد جعل علاقتهما بريئة، مؤيدًا هذا جميعَه تعلُّقُ الولدَين بكريستين، كل ذلك جعل سفرهما مع الأسرة أمرًا طبيعيًّا.

وما إن استقَر بهما المقام في بيتهما بالقاهرة، حتى فُوجئَت أُسرة كمال باشا وجدي بوفاة تفيدة هانم المعايرجي، مع أنها لم تشكُ مرضًا. وكان البيت الكبير مكتوبًا باسم البنات الثلاث، ومع ذلك لم تفكِّر واحدة منهن في أمره.

تزوَّج وحيد القناوي من كريستين فيليب، واستطاع وحيد أن يجد شقةً بحي العباسية كانت ملتقى الزوجَين، وطبعًا لم يعرف أحد بهذه الزيجة إلا مأذون العباسية والشاهدان اللذان أحضرهما، واللذان لا يعرفان شيئًا عن وحيد ولا عن زوجته طبعًا.

ومرت سنوات كانت كريمة تلحظ زوجها فيها يقيم كثيرًا من الدعوات في منزله، كما أنه يُلبِّي دعواتٍ أخرى مثيلة … واتسعَت دائرته الاجتماعية بصورةٍ كانت لا ترتاح لها كريمة، ولكنها رأت أن تُجاري زوجها الذي كان يدَّعي أن التعرف على الناس ثروة لا تُقدَّر بثمن. وكان من الطبيعي أن يشتهر اسم بهجت العزوني في جميع الأوساط، وعند كل ذي مكانة … سواء استمد مكانته من وظيفته أو من ثرائه. وتمضي الأيام وتتولي ثورة ٢٣ يوليو الحكم، ولا يضار أحدٌ من أسرة كمال باشا وجدي؛ فالأرض الزراعية كانت دون الحد الأدنى ولم يعُد لهم أسهم، فبالنسبة لهم كأن الثورة ما جاءت.

كان بهجت أكثر الأُسرة تمجيدًا للثورة، وإصرارًا على التقرُّب من رجالها، وعاونه على ذلك أحد أصدقائه القُدامى من رجال القوات المسلحة، وراح يهتبل الدعوات التي يعرف أن رجال العهد مَدعوُّون فيها، كما حاول هو أن يدعو المقرَّبين، وقليلًا ما كانت تنجح هذه الدعوات.

تنَبه حمدي الذي أصبح يشغل منصبًا مرموقًا في البنك، أنه لا بد أن يسارع بالتصرُّف في بيت الباشا، وإلا فهو معرَّض للاستيلاء بدعوى تحويله إلى مقرٍّ للتنظيم الثوري، فاقترح على الأسرة أن يؤجروا البيت لسفارةٍ من السفارات، ووافق الجميع على هذا الاقتراح. وتمكَّن حمدي أن يؤجره لسفارة روسيا واشتَرط في العقد أن يتم تجديدُ الإيجار في كل عام، بحيث إذا احتاج إلى البيت أخلَتْه السفارة، وفَرحَت الأُسرة بهذا العقد.

لم يعد وحيد من الوجوه المقبولة بوزارة الخارجية، مع أن أحدًا لم يعرف شيئًا عن زواجه بأجنبية، ففُوجئ برئيسه يستدعيه.

– أنت صهر كمال باشا وجدي.

– نعم.

– وأنت تعرف أن الثورة لا تُرحِّب بأقارب الباشاوات وأصهارهم في السلك الدبلوماسي، خاصةً وأن الدور عليك في هذه الأيام لتكون بدرجة مستشار.

– وماذا ترى؟

– ليس أنا الذي رأى. لقد ترفقوا بك وصدر قرارٌ بنقلك إلى وزارة المالية بدرجتك الوظيفية.

وأَحسَّ وحيد بغصةٍ ولكن الحمد لله؛ فأنا كنتُ سأُنقَل أو غالبًا أُرفَت إذا علموا بزواجي من كريستين. ولم يطُل صمتُه وإنما رفع رأسه إلى رئيسه ممتاز بك حامد.

– متى أنفِّذ النقل؟

– القرار صدر فعلًا.

– لمن أذهب في وزارة المالية.

– إلى السكرتير العام منير بك أبو الفتوح.

– وهو كذلك، أجمع أوراقي اليوم.

– الصلة بيني وبينك تبقى على ما هي عليه.

– أنت أخٌ أكبر، يا ممتاز بك.

– وتعلم أنني لا دخل لي في هذا النقل.

– أنا واثق.

ووقف ممتاز بك وصافح وحيد وانتهت صلة وحيد نهائيًّا بوزارة الخارجية.

في إحدى الدعوات التي كان يحضُرها بهجت تقدَّم إليه شخصٌ قصير القامة، واسع العينَين، مسطَّح الجبهة، واضح الخبث.

– بهجت بك العزوني؟

– تحت أمرك.

– أنا سليمان ذكري من رجال الأعمال، وأعتبر التعرف بك شرفًا أسعى إليه من زمنٍ بعيد.

– يا مرحبًا.

– تُرى أتسمح لي أن أدعوك إلى غداء أو عشاء؟

– والله لا مانع.

– إذن بعد غدٍ نتعشَّى سويًّا في مطعم سان جيمس.

– وهو كذلك.

وتوثَّقَت الصلة بين سليمان ذكري وبهجت، الذي لم يستطع أن يعرف عنه إلا ما قاله من أنه ليس متزوجًا، ويقيم بشقة بعمارة الإيموبيليا، وتكرَّرتْ بينهما الدعوات ولم يغب عن بهجت أنه لم يدعُه إلى بيته قط، وكلما حاول أن يدعوه بهجت إلى بيته هو، تخلَّص من هذه الدعوة قائلًا: أنا أضيقُ بالبيوت فلتكن دعوتُك إلى أي رستوران.

ولم ينسَ سليمان أن يعقد مع بهجت بضع صفقات، حرص فيها أن يجعل ربح بهجت فيها فاحشًا جسيمًا.

عيَّن بهجت زميله القديم فوزي عمران رئيسًا للشئون القانونية بالشركة؛ فقد كان يعلم عنه أنه لا يملك إلا مرتَّبه، وأنه يستطيع أن ينتفع بفقره نفعًا موفورًا، وكان فوزي عند ظن بهجت به وتضافرت بينهما المصالح، واستقرت الأمور لبهجت في الشركة بالصورة التي رسمَها فأتقن رسمها.

أتُراك تذكُر إدريس؟ … لا … ما أحسبك تذكره. إنه الخادم الخاص للباشا، الذي استقبل بهجت في أول يوم ذهب للغَداء في بيت الباشا، حين تسلَّم عمله سكرتيرًا للباشا حين كان خارج الوزارة.

إدريس هذا كان مقربًا لكريمات الباشا، أثيرًا لدى ثلاثتهن؛ فحين ماتت تفيدة هانم كانت سعدية وزوجها وحيد عائدَين منذ قريب من الخارج؛ ولذلك توجَّهتْ سعدية برجاء إلى أختَيها أن تتركا لها عم إدريس ليعمل ببيتها، ولم تجد الاختان مانعًا خاصةً أنه كان لكلٍّ منهما خدمها. وهكذا أصبح عم إدريس كبير الخدم ببيت وحيد وسعدية، وطلبَتْ إليه سعدية أن يختار هو من يعاونه في شئون البيت، ونفَّذ إدريس طلبها.

كانت سعدية قد لاحظَت بمرور الوقت أن وحيد يتغيَّب عن الغداء دائمًا في الأيام التي تطلب فيها كريستين إجازة، وفي المرات الأولى صرفَت الوهم عن ذهنها محاولةً أن تُطمئِن نفسها أن الأمر ربما كان مجرد صدفة.

فلما تكرَّرتِ الصُّدَف فكَّرتْ أن تحاول معرفة المكان الذي يذهب إليه وحيد في هذه الأيام …

ولم تجد من تستأمنه على سِرِّها إلا إدريس، فاستقدمَتْه وقالت له: يا إدريس، أنت تعرف مكانتك عندنا.

– عمري كله قضيته مع الباشا.

– اسمع، أنا أشك في شيء.

– خيرًا.

– وحيد يتغيَّب عن البيت في مواعيد إجازة كريستين بالذات، وأخشى أن يكون بينهما شيء.

– لا قدَّر الله.

– أريدك أن تتبعَه يوم إجازة كريستين بالذات.

عرف إدريس العمارة التي بها شقة وحيد وكريستين في العباسية، واستطاع أن يتعرف على البواب الذي أخبره أنها زوجته، وأن صاحب العمارة أبى أن يُؤجِّر لهما الشقة إلَّا بعد أن اطَّلع على عقد الزواج، وهو زواجٌ شرعي على يد مأذونٍ رسمي.

اندلَع الحريق في قلب سعدية، وأغلقَت باب غرفتها وراحت تفكِّر فيما تفعل. إن يكن وحيد قد أجرم في حقها هذا الجرم، فما ذنب فريد وصبحي وقد أصبحا في السن التي يحتاجان فيها إلى أبٍ أشدَّ الحاجة.

ماذا هي صانعة معه؟ أتخبره أنها عرفَت أم تكتُم الأمر؟ … تكتُم الأمر؟ هيهاتَ وألفُ هيهات.

ظلت في دوامةٍ من الأفكار إلى أن انتهت إلى ما ينبغي عليها أن تفعله.

حين جاء وحيد إلى البيت حَرصَت سعدية أن يكون حديثها معه بمنجًى عن مسامع ولدَيها.

– أنا عرفتُ كل شيء.

ولم يُحاول أن يُنكِر أو يتظاهر بالدهشة، أو يدَّعي غير الحقيقة فقد كان وجهه قد شَحب، وتوقَّف لسانه في فمه، ووجد نفسه في دوارٍ مفيق، وحرَّك شفتَيه في صعوبةٍ بالغة، ليجمع عليها «أنا آسف» متخاذلةً متهافتة، تُعلِن في صُراخٍ ما يُحيط به من وجومٍ وشبه تجمُّد.

قالت له سعدية في حسم: أنت بين اثنتَين لا ثالث لهما؛ إما أن تُطلِّقها وتعيش في هذا البيت، لتُمثِّل فيه دور الزوج ولتكن أبًا حقيقيًّا لولديك، أو تُطلِّقني وتترك البيت، وأنت تعرف أنني أستطيع أن أُرغِمكَ على الطلاق.

ليس في الأمر خيار. هكذا قرَّر وحيد دون أن ينبس ببنتِ شَفَة.

وتم طلاق وحيد من كريستين، واشترط عليها ليمنحها بعض المال مع تذكرة السفر، أن تقول لفريد وصبحي إنها مضطرة إلى السفر إلى والدها المريض.

وتم الأمر كما قرَّرتْ سعدية، لن يعرف ابناها شيئًا، كما أنها حَرصَت ألا تُبلغَ أختَيها بشيء.

صدَّق فريد وصبحي ما قالته كريستين وودعَّاها آسفَين، إنما الأمر الذي لم يفهماه تلك الحجرة التي خُصِّصَت لأبيهما بعد أن كانت غُرفتُه هي غرفة أمهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤