الفصل السادس عشر
مرَّت سنوات واجتازت مصر عام ٥٦م، ولم تؤثِّر حكومة الثورة حتى ذلك العام في عمل الشركات؛ ولهذا كانت الخسارة التي تُمنى شركة الغزل بها على يد بهجت، تدعو إلى الدهشة من أمجد علوان ومن كل أصحاب الأسهم، ولم يجد أمجد شخصًا يأتمنه على بحث أسباب هذه الخسائر إلا شحاتة عبد الكريم، أقدم موظَّف في العقود، بعد أن عيَّن بهجت فوزي عمران رئيسًا للشئون القانونية.
وكان شحاتة معدًّا نفسه لهذا الطلب تمام الإعداد … فقدَّم كل ما عنده إلى أمجد بك علوان، وكان أمجد يدرك تمامًا ما ينبغي أن يفعله.
دقَّ جرس التليفون في بيت بهجت العزوني ورفع الخادم السماعة.
– آلو … من؟
– أنا، يا ابني، اسمي أمجد علوان.
– البك غير موجود.
– أنا أريد الست.
– دقيقة واحدة …
وحين أمسكَت كريمة السماعة وقالت: ألوه، أنا كريمة كمال.
– أنا أمجد علوان.
– أهلًا أمجد بك.
– أريدك أن تأتي غدًا مع بهجت إلى مكتبي.
– لماذا يا أمجد بك؟
– ستعرفين حين تأتين.
– وهو كذلك.
– لي عندك رجاء.
– تفَضَّل.
– لا تُخبريه أنني طلبتُك.
– وكيف أجيء معه؟
– من الأحسن أن تجعليه يأتي لمكتبه، ثم تتبعيه أنتِ بسيارتك.
– فهمتُ.
– مع السلامة.
وتمَّ الأمر كما أراده، حتى إذا استقرَّت كريمة بمكتبه في الصباح، رفع سماعة التليفون.
– بهجت بك … هل عندك أحد؟
وجاءه الرد.
– لا … أنا تحت أمرك.
– تعالَ إلى مكتبي بضع دقائق.
وجاء بهجت، وأُصيب بالذهول حين رأى زوجته بمكتب رئيس مجلس الإدارة، وأمر أمجد سكرتيره ألا يُدخل أحدًا إليهم مهما يكن شأنه، وبدأ أمجد الحديث.
– بهجت بك، حدث في الشركات اختلاساتٌ حصرتُها، فوجدتُها تزيد على خمسة وعشرين ألف جنيه.
وانتتر بهجت واقفًا؛ فقد كان في عمايةٍ تامة عن الأبحاث التي أجراها عليه أمجد، وقال أمجد في هدوءِ رجلِ الأعمال المخضرم.
– المسألة أكبر بكثيرٍ من التمثيليات يا بهجت بك.
– ماذا تقصد؟
– أقصد أنكَ وحدكَ المسئول عن هذه الاختلاسات والرشاوي التي أخذتَها، والتي خسرت الشركة مقابلها مبالغَ طائلة.
– أنا؟!
– طبعًا، كان هناك من يستُر عليك، وربما كنتَ تُعطيه بعضًا من هذه المبالغ.
– أنا أرفض هذا الاتهام ولا أقبله.
– وأنا كنتُ أنتظر منك أن تقول هذا؛ ولهذا رجوتُ السيدة العظيمة حرمكم أن تُشرِّفني بالحضور اليوم.
وقال بهجت في محاولةٍ متبجِّحة: وزوجتي ما شأنها بعملي؟
وظلت كريمة على صمتها وقال أمجد: بل الشأن كله شأنها؛ أولًا الذي عيَّنك موظفًا في هذه الشركة هو المرحوم والدها، وثانيًا الأسهم التي وثبتَ بها إلى عضو مجلس إدارة ثم إلى عضوٍ منتدب أسهمها هي، وإن كانت تنازلَت عنها لك، والخسارة التي وقعَت للشركة بسبب الاختلاسات أصابت أسهُمَها، كما أصابت أسهم جميع أصحاب الأسهم في الشركة، وأولًا أيضًا ولا أقول ثانيًا أن كريمة هانم وهي من هي لن تقبل لوالد عطاء أن يدخل السجن.
وقاطعَه بهجت مذعورًا.
ولم تملك كريمة نفسها هي أيضًا أن تقول في لهفة: السجن يا أمجد بك؟
وفي هدوءٍ وجَّه أمجد حديثه إلى كريمة غير مُلقٍ بالًا لبهجت، وكأنه غير موجود.
– هذه أسهم المساهمين وأموال ناس وليست أموالي وحدي يا كريمة هانم، فإما أن أدخل أنا السجن وهذا غير معقول؛ لأنني لم أنتهب شيئًا، وإما أن يدخل بهجت بك السجن. وقبل أن تُجيبي اقرئي هذا التقرير ولا داعي أن تدخلي في التفاصيل؛ فكل كلمة ستقرئينها عندي ما يثبتها، وما يُدخل بهجت بك السجن لا محالة.
وأخذَت كريمة الملف من أمجد، وهو يقول: التقرير في الصفحات الأُولى وهي ثلاث، والأوراق الأخرى المستندات، يكفي أن تطَّلعي على التقرير.
وراحت كريمة تقرأ ومنذ اللحظات الأولى أخذَت الدهشة تنتاش وجهها، وكانت ترفع رأسها ناظرةً في احتقارٍ إلى بهجت أو في ذهولٍ كسيف لأمجد، حتى إذا أتمَّت القراءة ضمَّت دفَّتَي المِلَف، وقدَّمتْه إلى أمجد قائلة: طبعًا أنت لا تتوقع مني أي تعليق.
وقال أمجد في كياسة: أنا أُقدِّر أن الفترة القصيرة التي مَررتِ بها الآن، ربما تكون أبشع عندك من أحزان السنين جميعًا، وأنا أعرف أنكِ مررتِ بظروفٍ كثيرة لم تكن سعيدة.
– أشكرك أنك مدرك ما أنا فيه الآن، وتأكد سعادتك أن الدقائق التي عشتُها الآن لم أكن أتصوَّر أنني سأواجهُها في حياتي كلها.
– أرجو أن تكون نظرتُكِ لي عادلة؛ فمكانتُكِ عندي ومكانةُ الباشا كلها إجلالٌ وإكبار.
– لقد جاء دوري لأشكرك، وأنا أعرف أنه لولا هذه المكانة التي تتحدث عنها، لكنتَ بادرت بإبلاغ النيابة فورًا دون أن تفكِّر في إشراكي في الموضوع.
– أُقسِم بشرفي أنكِ وحدكِ التي جَعلتِني أُخيِّر بهجت بك بين أن يدفع المبلغ أو أبلغ النيابة.
– أعرف ذلك تمامًا.
وكان بهجت طوال هذا الحوار صامتًا في شعورٍ عميق بالذل والهوان، حتى لقد راح ينكمش وتتداخل أعضاء جسمه بعضها في بعض، وألقت إليه كريمة نظرةً مقيتة تشتعل بلهيب الثورة والغضب، ثم التفتَت إلى أمجد وسألَتْه: كم تتيح لنا من الوقت؟
– إذن المبلغ سيُدفع … الحمد لله … تُرى لو قلنا في ظرف أسبوع نظرًا لموقفي الحرج …
وقاطعته كريمة: سأُحضِر أنا المبلغ في خلال هذا الأسبوع.
– عظيم.
– كم ثمن الأسهم التي باسم بهجت اليوم؟
– حوالي عشرة آلاف جنيه.
ونظَرتْ إلى بهجت وقالت له أول كلمةٍ وجَّهَتها إليه طَوال هذا اللقاء.
– خذ ورقة واكتب أمرًا ببيع الأسهم، واكتب على ورقةٍ أخرى أنكَ تسلمتَ ثمنها.
وقام بهجت عن كرسيه وكأنه آلةٌ كهربية تستقبل الأوامر وتنفذها، وكتَب ما أمَرتْ به كريمة وأعطى الورقتَين لأمجد وكريمة تقول له: الباقي سيكون عندك قبل الأسبوع إن شاء الله.
– أَرحتِني، أسعدكِ الله.
والتفتَت إلى بهجت قائلةً في حسم: هيَّا.
وتقدَّمتْ إلى الباب وهو يتبعها وما زال في حالة الآلة الكهربية. وبعد أن أغلق أمجد باب مكتبه قالت كريمة لبهجت: هل عندك أحدٌ في مكتبك؟
– لا … لا أبدًا.
– فلنذهب إليه.
وفي وجلٍ قال: ألا نذهب إلى البيت؟
– هناك أشياءُ أُحب أن أعملَها قبل أن أذهب إلى البيت. اتبَعْني إلى مكتبك.
وقالت كريمة لسكرتيرة بهجت في حسم: لا تجعلي أحدًا يدخل علينا.
ولم تنتظر ردَّها، وإنما دخلَت إلى مكتب بهجت، وما إن توسَّطَت الحجرة حتى أمرته: أغلق الباب.
وأغلق الباب ولم تجلس كريمة، مما جعل بهجت يظل واقفًا ليرى ماذا تريد، ولم تهمله بل سألَتْه في حزم: كم بقي معك من المبلغ؟
وفي رد فعلٍ تلقائي قال: يا كريمة.
وبلا تريثٍ قالت في نفس الحزم بل ربما في حسمٍ أشد.
– كم بقي معك من المبلغ؟
وفي لعثمةٍ قال: خمسة آلاف جنيه.
– في أي بنك؟
– بنك مصر.
نذهب الآن إلى هناك ونسحب المبلغ، وخرجَت وهو يتبعها وأمرته أن يركَب معها سيارتها، ويترك سيارته أمام الشركة على أن يُحضرها السائق فيما بعدُ، وامتثل لأمرها، وأمام الموظَّف المختص في بنك مصر، جلسَت كريمة وأمرَتْ بهجت: اطلب حسابك.
– يا كريمة، هذا غير …
ولم تتركه يكمل.
– اطلُب حسابَك.
وسرعان ما جاء الحسابُ فوجدَته ستة آلاف جنيه، أمَرتْه أن يسحبها فورًا فسحبها، وحين ركبا السيارة قالت للسائق: اذهب إلى بنك القاهرة.
وامتُقِع وجه بهجت ولحظَت هي امتقاعه، فقالت له: طبعًا غير معقول أن نُودِع مبالغ بالبنك الذي يعمل به حمدي زوج أختي.
ومرةً أخرى قال وهو في دُواره ولعثمته: لكن يا كريمة …
وأسكتته قائلة: ولا كلمة.
وفي بنك القاهرة تكرَّر ما حدث في بنك مصر، ووجدَت أن حسابه به ألفا جنيه سحبهما تنفيذًا لأمرها، واستولت على الجنيهات الألَفين، كما استولت على الستة آلافٍ الأخرى وقالت للسائق: اذهب إلى البيت واترك هذه السيارة، واذهب إلى شركة البك لتُحضِر سيارته.
وحين خلت بهما حجرة المعيشة قالت كريمة بوجهٍ جامد: أنت تعرف طبعًا أنني ليس عندي مبالغُ سائلة، والأرض من حق عطاء، والحلي التي عندي كنتُ أريد أن أستبقيها لعروسه، ولكني سأبيع منها ما يفي ببقية المبلغ الذي اختلَسْته.
وحاول بهجت أن يفتح فمه.
– يا كريمة أرجو أن …
فقاطَعَته: أرجو ألا تتكلم في الموضوع إطلاقًا، والله وحده يعلم كيف سأعيش معك بعد ذلك، ولكن أي كلام سيزيدني احتقارًا لك، وأسفًا على أنني وافقتُ على الزواج منك.
ولم يجد بهجت شيئًا يصنعه إلا أن يترك البيت، ويخرج قاصدًا إلى سليمان ذكري في مكتبه، ولم يمهله سليمان بل عاجله.
– ماذا؟ … لماذا جئت إلى مكتبي؟
– وأي عجيب في ذلك؟
– لا شيء، مجرد أننا لا نستطيع أن نجلس براحتنا، وعلى كل حالٍ لماذا لم تذهب إلى مكتبك؟
– لن أذهب منذ اليوم.
– لا أريد أن أعرف السبب.
– اختلفتُ معهم وتبيَّن لي أنني لن استطيع الاستمرار.
– فما قولُكَ أن تعمل معي؟
– مبدئيًّا أنا موافق، ولو أنَّني لا أعرف طبيعةَ عملك.
– ستعرفها، لا تعجل، ولكن المهم أنك ستعمل خارج المكتب.
– أحسن.
– هلُمَّ بنا.
– إلى أين؟
– إلى مكان … هلُم.
وخرجا، وقضى بهجت الوقت مع سليمان وتَناوَل معه الغداء؛ آملًا أن يترك فرصةً لكريمة لتكون صالحة للكلام معه. إنها طبعًا ستُحاوِل أن تعصف بي، وليس لي حيلة إلا الصمت، والزمن كفيل بالأمر بعد ذلك.
وجد كريمةَ جالسةً بمفردها في غرفة المعيشة، فما إن جاء حتى بادرَتْه قائلة: أنا مضطرة أن أُبقي عليكَ في البيت؛ لأني لا أُريد لعطاء أن يكون بغير أب، ولكن الحقيقة سيكون بلا أب، فلا شأن لك به مطلقًا إلا التحيَّة العابرة؛ فمنذ اليوم سأتولاه أنا تمامًا، وأرجوك أن تحاول بكل جهدك أن تقضي يومك خارج البيت، فيما عدا مواعيد الطعام والنوم.
وأخيرًا قال: إني أعرف أنني أخطأتُ، ولكن إذا لم تغفر الزوجة لزوجها فمن يغفر له؟
– أنت تعلم حرصي على ديني وكرامتي، فأنا لا أترك فرضًا من فروض الله إلا أدَّيتُه، وأنت حتى لا تصوم ولو على سبيل التظاهُر، لقد اتضح لي من زمنٍ بعيد أننا من معدنَين مختلفَين كل الاختلاف، وأنا أنوي أن أجعل عطاء بعيدًا عنك في خلقك ودينك كل البعد، وما أقوله لك اليوم لا نقاش فيه ولا مراجعة ولا تراجُع أيضًا.
– أمرك.