الفصل الثاني
كمال باشا وجدي من الوزراء الذين لا ينتمون لأحزاب، وهكذا كان يصل إلى كرسي الوزارة كلما تألفَت وزارةٌ مستقلة، أو إذا أرادت إحدى الوزارات الحزبية أن تستفيد بخبرته الفائقة في شئون البورصات أو الشركات المساهمة.
وقد كان عضوًا بكثيرٍ من مجالس إدارة الشركات، حتى إذا دخل الوزارة ترك مكانه من مجالس الشركات، التي كانت تُصرُّ على أن تحتفظ بكرسيه خاليًا حتى يعود إليه.
وأُسرة كمال باشا وجدي مكونة من زوجته تفيدة هانم المعايرجي، وهي سيدةٌ واسعة الثراء، وكانت أثيرةً لدى زوجها، لا يَرُد لها طلبًا، وكان هو يشرف على أملاكها زراعيةً كانت أو كانت أموالًا سائلة أو أسهمًا لشركات.
ولكمال باشا ثلاثُ بنات من زوجته التي لم يتزوج غيرها، هن كريمة وسعدية وميرفت.
وليس لكمال باشا أولاد، وقد كان رجلًا منفتح العقل فلم يعْنِه في شيء ألا يكون له أولاد.
ولمَّا كان يدري أن زوجته تفيدة هانم مشغولة كل الشغل بحياتها الاجتماعية، كما يدري أنه هو أيضًا من حياته العامة في زحمةٍ من العمل، ولمَّا كان حريصًا أن تكون بناته على درجةٍ عالية من الثقافة وإتقان اللغات، فقد رأى ووافقَتْه زوجته أن يُدخِل البنات في باكورة حياتهن إلى مدرسة «السكركير» في القسم الداخلي.
ولم يكن أهل ذلك الزمان يُعنَون أن يحصل البنات على شهاداتٍ عالية، خاصةً إن كانوا على قدْرٍ من الثراء يرفع عن كاهل البنات أن يسعَين إلى العمل بشهاداتهن.
وحين ذهب الحاج سعيد إلى كمال باشا كانت كريمة متزوجةً من ممدوح بك زيدان، وكانت هي في الثالثة والثلاثين من عمرها، وكان زوجها في الأربعين، وكانا قد تزوَّجا منذ عشر سنوات، ولم يُنجبا وقاما بالفحوص المفروضة في مثل هذه الحالات، فتبيَّن لهما أنه ليس لدى أحدٍ منهما أيُّ مانع لحدوث الحمل، فانتظر كلاهما أمر الله في إيمانٍ وأمل.
وكانت سعدية متزوجة من وحيد القناوي الذي يعمل سكرتيرًا بوزارة الخارجية، وكانت سعدية في الخامسة والعشرين من عمرها ووحيد في الثانية والثلاثين، وقد أثمر زواجهما ولدَين، هما فريد وصبحي. أما ميرفت فقد كانت تصغُر سعدية بعامَين، وكان زوجها حمدي عمران يعمل مراجعًا حسابيًّا بالبنك الأهلي، وقد أنجبا بنتًا هي إنجي، وولدَين هما سراج وسمير.
وكانت صلة الحاج سعيد بكمال باشا وطيدةً، بما كان لتفيدة هانم من أراضٍ بناحية هندامة، حيث الحاج سعيد وأرضه.
فقد كان كمال باشا كثيرًا ما يطلب منه الإشراف على بعض الأمور الزراعية، وكان الحاج سعيد يقوم بمطالب الباشا خير قيام.
فلم يكن غريبًا أن يسعى الحاج سعيد إلى كمال باشا ليُعيِّن له ابنه في إحدى الوظائف الإدارية، التي يرى بهجت أنه لا يصلُح لغيرها، وسأل كمال باشا: ومتى تخرَّج بهجت يا حاج سعيد؟
– العام الماضي يا معالي الباشا.
وصمت الباشا قليلًا، ثم تحدث في أناةٍ وتدبر: والله أنا أفكر له في شيءٍ … على كل حال أَحضِره إليَّ الأسبوع القادم، وربنا يهيئ الخير.
ومضى الأسبوع، وصحب الحاج سعيد ابنه إلى كمال باشا في القاهرة، وكان بهجت شابًّا في الرابعة والعشرين من عمره، فتيَّ الجسم، ليس في ملامحه ما يمكن أن يجعله يُوصَف بالجمال، كما أنها بعيدة عن القبح، إنما وجهه من ذلك النوع الحيادي الذي لا يجعلك تلحظ من شأنه معالمَ خاصة … إنه وجهٌ مثل سائر الوجوه تراه وما تلبث أن تنساه، وكأنك ما رأيتَه، سأله كمال باشا: لماذا لا تريد أن تعمل بالمحاماة ما دمتَ لم تستطع أن تُعيَّن في النيابة؟
– أنا يا معالي الباشا — حتى أكون صريحًا معك — أكره المذاكرة وكثرة القراءة والدراسة، والمحامي إن لم يكن صبورًا قادرًا على هذه الأمور ففشلُه مؤكد.
– أنا مسرورٌ من صراحتك أولًا، كما أني مسرور من معرفتكَ ما تُحسن وما لا تُحسن.
– أطال الله عمركَ يا معالي الباشا.
– أنت تعرف أن التعيين في الحكومة صعب؛ فالحرب لم تترك بلدًا إلَّا وجعلت ميزانيتَها واقتصادها مضطربَين كل الاضطراب.
– لو لم نكن نعرف أن الأمر صعبٌ ما لجأنا إلى معاليك.
– هل أنت مُصمِّم أن تعمل بالحكومة؟
– يا معالي الباشا، أنا أملي أن أعمل فقط.
– اسمع يا حاج سعيد، أحضر ابنك وتعاليا إليَّ بعد غد.
وإن شاء الله ستسمعان خيرًا.
وجاء الرجل وابنه في الموعد الذي حدَّده الباشا فطالعهما.
– أنا عينت بهجت في شركة الغزل الاقتصادي التي أعمل عضوًا بمجلس إدارتها.
وصاح بهجت: أطال الله عمرك يا معالي الباشا.
وقال الحاج سعيد: كنت واثقًا أنك لن تخيب لي رجاءً.
وفاجأهما الباشا بقوله: أنا لم أكمل كلامي.
وقال الحاج سعيد: وهل بعد هذا كلامٌ يا معالي الباشا؟
– أهم من الذي قلتُه.
– تحت أمرك.
– أنا أريد لنفسي سكرتيرًا خاصًّا يُرتِّب أوراقي بالبيت، ويتابع حساباتي وحسابات الهانم، ولا أجد أحدًا أثق فيه مثل ابن الحاج سعيد.
وقال بهجت: هذا شرفٌ كبيرٌ، وأي فرصة للتعليم أكبر من أن أكون بجانب معاليك؟ إن فرحي بهذا أعظم من فرحي بالوظيفة الرسمية.
– ستتسلم عملك غدًا في الشركة، وعليك بعد ذلك أن تأتي إلى هنا مباشرة، وستجد غداءك جاهزًا تتناوله وتنتظرني حتى أصحو من القيلولة، وسأريك ماذا أريد منك.
– وهو كذلك يا معالي الباشا، أمرك نافذ.
وقال الحاج سعيد: أكرمك الله يا معالي الباشا، كما أكرمتني في ابني.