الفصل السادس

أصبح بهجت كل شيء في المعاملات سواء بالشركة أو بالوزارة، وتوثَّقَت صِلاته مع الجميع، وقد حرص ألا يجد فرصةً للتعرُّف على الموظَّفين الذين يتولَّون المناصب الحسَّاسة في الوزارات والشركات إلا اهتبلَها.

غير مُلقٍ بالًا إلى الوزراء الذين كانوا يَغْدون إلى الباشا في مكتبه أو رؤساء مجالس إدارة الشركات. الوزير إن كان وزيرًا اليوم فهو في الغد جالسٌ بالمقهى، وكذلك الحال مع رؤساء الشركات؛ فإنهم وصَلوا إلى أعلى السُّلم، فلم يَبقَ أمامهم إلا الخروج ليحُل آخرون محلهم.

إنما الحزم أن أَصرِف همي كله إلى الشباب الذي سيُصبِح في الغد مسيطرًا على كل شيءٍ؛ فسِنِّي الآن لا تتيح لي إلا أن أعمل لحساب نفسي، فلماذا أبذل الجهد مع الوزراء ورؤساء مجالس الإدارة؟ إنما الآخرون البعيدون عن الأعين والذين في أيديهم عصَب الشئون المالية والإدارة، هم الذين ينبغي أن أجعل منهم أقرب الأصدقاء.

بينما كان بهجت في مكتبه بالوزارة إذا به يُفاجأ بممدوح زيدان قادمًا إليه، فهَبَّ واقفًا وكان طبعًا قد تعرَّف به والتقى كلٌّ منهما بالآخر مراتٍ كثيرة بمنزل الباشا.

وسارع بهجت قائلًا: أهلًا ممدوح بك، شرَّفتَ، أتريد الباشا؟

– أهلًا يا بهجت، استرح، أنا أريدك أنت لا الباشا.

– أنا؟!

– نعم أنت، وهل أنت؟ وهل أنت قليل؟ وأريدك في شيءٍ مهم أيضًا.

– اعتَبِره تَمَّ.

– هكذا دون أن تعرفه؟

– يكفي أنه أمرٌ صادرٌ منك.

– هذا هو العشم … فأنت أخٌ عزيز.

– العفو يا سعادة البك، هذا تفضُّل منك لا أستحقه.

– اسمع يا عمِّ بهجت.

– أذني وقلبي تحت أمرك.

– أنا عندي أعمالٌ كثيرة مُتشعِّبة، والباشا يمدح نشاطك وإخلاصك، والأمر لا يحتاج إلى دليلٍ؛ فقد اختارك أنت بالذات لتكون سكرتيرًا له.

– الباشا رجل عظيم، وأنا أتعلَّم منه الكثير.

– أنا أريدك أن تشرف على أعمالي في أوقات فراغك، وسيكون مُرتَّبك مني مثل المرتب الذي تتقاضاه من الباشا لتُراعي شئونه الخاصة.

– أنت رجلٌ عظيم يا ممدوح بك، والعمل معك يزيدني شرفًا، ومسألة المرتَّب ليست مهمة.

– بل مهمة كل الأهمية؛ فالمرتب يجعلك تشعر أن الأمر جد، وأنكَ تقوم به مقابل مال، وأي عملٍ لا يكون مقابلَه مالٌ لا يتسم بالجدية.

– متى تحب أن تبدأ العمل؟

– سعادتك تعرف أنني أذهبُ إلى الشركة بعد الظهر.

– أعرف. إنما أريدك بعد السابعة.

– وهو كذلك.

– خاصةً أن عملكَ معي أغلبه سيكون متابعة القضايا الخاصة بي مع المحامين، المحامون لا يكونون في مكاتبهم إلا في المساء.

– المحامون … هل هم أكثر من واحد؟

– ثلاثة، حتى لا يشعر واحدٌ منهم أنه يستطيع أن يتراخى في أعمالي وفي الدعاوى المرفوعة مني أو عليَّ.

– بسم الله، ما شاء الله، تفكيرٌ سليم … أكون عند سيادتك غدًا الساعة السابعة.

– وأنا في انتظارك.

وأتاح عمل بهجت مع ممدوح الفرصة له أن يعرف كل شيء عن أمواله، كل هذا وليس له ولد، له في ذلك حِكم! والعجيبة أنه رجلٌ لطيفٌ ومستقيم، وكلما عُرضَت عليه عمليةٌ ظن أنها غير سليمة أو فيها شك أو فيها ظلم لأحدٍ أبى أن يقبلها أو يقترب منها. سبحان مُقسِّم الأرزاق! كل هذه الأموال وليس له ولد، والفقراء ينوءون بكثرة العيال.

كانت العلاقة بين ممدوح وزوجته كريمة ودودةً راضية سَلِسة؛ فقد كان كلٌّ منهما يحب الآخر ويحترمه، ويحرص على إرضائه؛ فممدوح كان يتحرَّى أن يُغدِق المجوهرات على كريمة، وكأنه يريد أن يُعوِّضَها بذلك عما حرمها الله.

وكانت هي لا تني عن الذهاب إلى الأطباء بأمل أن يهب الله لها مولودًا، ذكرًا كان أم أنثى؛ ليُشيع السعادة في البيت الثري المحروم من الهناء.

وقد سافَرتْ مع زوجها ست مراتٍ إلى أوروبا سعيًا وراء أطبائها؛ لعل واحدًا منهم يُحقِّق لهما هذا الأمل … وكان ممدوح يبادر إلى الاستجابة إلى رغبتها في السفر كلما أبدتها.

كانا جالسَين بغرفة المعيشة في بيتهما الضخم المليء بالتحف، والمكوَّن من طابقَين بمصر الجديدة.

– ممدوح.

– أفندم.

– سمعتُ عن طبيبٍ جديد في باريس.

– وماله … متى تريدين السفر؟

– إن كان الأمر متروكًا لي فمن اللحظة التي نحن فيها.

– في أي يومٍ نحن من أيام الله؟

– اليوم الأحد.

– نسافر الأحد القادم، إن شاء الله.

– صحيح؟

– وهل تأخَّرتُ عنك في طلبٍ أبدًا؟

– أطال الله لي عمرك.

– آه!

– ماذا؟

– ألمٌ شديد … شديد يا كريمة.

راح ممدوح يستجدي أنفاسه من الهواء في جهدٍ عنيف، وسارعَت كريمة إلى التليفون، وما هي إلا دقائقُ حتى كان الأطباء يزحمون البيت، ولكن الموعد كان قد حل … استردَّ الروحَ واهبُها، وصدق الشاعر:

إذا حَمَّ القضاء فلا أُساةٌ
فقَد يجري القضا بيدِ الأُساةِ

ولو أن الأطباء في هذه المرة كانوا أبرياءَ من موت ممدوح؛ فقد كانت أزمةً قلبية حادة، وكان أمر الله، وما شاء تَمَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤