دوروثي مود رينش (١٨٩٤–١٩٧٦)

سالي هوروكس

واصلت دوروثي رينش — في بلدين مختلفين — سيرة علمية انطوت على منشورات في الرياضيات والفلسفة والفيزياء والكيمياء الحيوية. بدايةً، كانت عالمة رياضيات ناجحة تهتم بالفلسفة، وعلى وجه الخصوص المنهج العلمي، ثم انتقلت أبحاثها، في بداية الثلاثينيات، نحو الأحياء والكيمياء، بتطبيق خبرتها الرياضية على المسائل البنيوية. قوبل الهيكل الحلقي الذي اقترحته لجزيئات البروتين بالاستحسان في البداية، ولكن فيما بعد عارضه علماء بارزون، منهم لينوس باولنج، كما عارضه عدد متزايد من الأدلة التجريبية. وانعكست هذه الصراعات المهنية بالاضطراب في حياتها الخاصة. تزوجت مرتين وقضت معظم مسيرتها المهنية في مناصب أكاديمية ضعيفة غير ثابتة قريبة مكانيًّا من زوجها بدلًا من أن تسعى لمناصب أكثر أمنًا في أماكن أخرى.

•••

ولدت دوروثي مود رينش في ١٣ سبتمبر ١٨٩٤ في روزاريو بالأرجنتين، وكانت الابنة الكبرى لهيو إدوارد هارت رينش، مهندس ميكانيكي، وزوجته أدا ميني سوتر. ترعرعت في سوربيتون، بمقاطعة سَري حيث التحقت بمدرسة سوربيتون الثانوية. في ١٩١٣ حصلت على منحة لكلية جيرتون جامعة كامبريدج حيث درست الرياضيات، محققة تقدير ممتاز في امتحانات الجزء الثاني في ١٩١٦، أما في العلوم الأخلاقية، التي استلهمت دراستها من برتراند راسل، فحصلت على تقدير جيد في امتحانات الجزء الثاني في ١٩١٧. أثناء السنة الأكاديمية ١٩١٧ / ١٩١٨ كانت باحثة في جيرتون، وفي ١٩١٨ حصلت على جائزة جامبل المحترمة (التي تُمنح للخريجين المميزين) من أجل عملها في الأعداد الموغلة. في العام نفسه تم تعيينها محاضِرة في الرياضيات بكلية لندن الجامعية. بعد عامين في لندن عادت إلى جيرتون كزميلة بحثية في يارو. في ١٩٢١ حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة لندن. أثناء هذه الفترة كانت من أفراد الدائرة المثقفة المحيطة ببرتراند راسل، وهي مَن عرَّفته على زوجته المستقبلية دورا بلاك، صديقتها من جيرتون. وفي هذه البيئة تشبعت بالأفكار المناصرة للمرأة والأفكار الاشتراكية. بعد زواجها في العام التالي من الفيزيائي الرياضي جون ويليام نيكلسون، الذي كان في ذلك الوقت زميل كلية باليول، ظلت في كامبريدج لمدة عام قبل أن تنتقل إلى أكسفورد حيث أصبحت مدرِّسة خصوصية لدوام جزئي في ليدي مارجريت هول وكذلك مدرِّسة في كليات أخرى للبنات في أكسفورد.

خلال هذه الفترة كانت أبحاثها منصبَّة على التحليل الكلاسيكي والميكانيكا الكلاسيكية والفيزياء الرياضية، والمنطق الرياضي ونظرية المنهج العلمي. في ١٩٢٩ حصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وبذلك كانت أول امرأة تنال هذا الشرف. وكانت نشطة في قسم الرياضيات التابع للجمعية البريطانية لتقَدُّم العلوم، كما خدمت في اللجنة الدولية لتدريس الرياضيات. من أواخر عشرينيات القرن العشرين بدأت اهتماماتها البحثية في التنوع، فبعد أن عملت لفترة قصيرة في علم اجتماع تنشئة الطفل — ربما كاستجابة لجهودها الشخصية من أجل ربط عملها المهني بالأمومة بعد أن رُزقت ابنتها باميلا في ١٩٢٧ — انتقلت إلى البيولوجيا النظرية، وعلى وجه الخصوص تطبيق التقنيات الرياضية على المسائل البيولوجية. كانت أواخر العقد الثاني فترة عصيبة بالنسبة لرينش؛ ففي عام ١٩٣٠ انفصلت رسميًّا عن زوجها، الذي وصفته بالعبارة التالية: «عالم رياضيات جيد دُمِّرَ» (نتيجة لإدمان الخمور). انتهى زواجهما في ١٩٣٨. خلال بدايات الثلاثينيات حضرت رينش دورات دراسية في فيينا وباريس لتنمية فهمها للأحياء والكيمياء. وفي ١٩٣٢ كانت عضوًا مؤسِّسًا في تجمُّع علم الأحياء النظري، وهو عبارة عن مجموعة من علماء الكيمياء البيولوجية وعلماء البلورات المهتمين بشكل خاص بتركيب البروتينات والكروموسومات، وكرست منشوراتها الأولى في مجالها الجديد لتقديم النماذج الجزيئية الممكنة للكروموسومات. وبعد ذلك تحولت إلى تركيب البروتينات، وقوبلت أفكارها في البداية بالاستحسان، وكان ذلك ملحوظًا في منتدى كولد سبرينج هاربور لعام ١٩٣٨ حول البروتينات، ولكنها سرعان ما تورطت في نزاعات، ولا سيما مع لينوس باولنج، وأعربت عن استيائها مما وصفته بأنه معاملة غير منصفة من مجتمع كيميائي لا يرغب في إعطاء الدخلاء الحق في التعبير عن آرائهم والاستماع لهم.

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى الولايات المتحدة، ولم يكن من السهل عليها الحصول على وظيفة؛ ربما لأنها تمكنت من استعداء الكثير من الشخصيات ذات النفوذ أثناء نزاعها سالف الذكر قبل أن تصل إلى الولايات المتحدة. قضت عامها الأول هناك كزميل زائر في قسم الكيمياء بجامعة جونز هوبكنز قبل أن تحصل على وظيفة أستاذ زائر مشترك في ثلاث كليات في ماساتشوستس، وهي أميرست وسميث وماونت هوليوك في ١٩٤١. ومما ساعد في حصولها على هذه الوظيفة زوجها المستقبلي الذي طالما ناصر نظريتها الحلقية، أوتو تشارلز جليزر، رئيس قسم الأحياء ونائب رئيس كلية أميرست. تزوج الاثنان في أغسطس ١٩٤١، ولحسن حظ رينش كانت هذه الزيجة ناجحة بخلاف زيجتها السابقة. ومنذ ١٩٤٢ شغلت منصب أستاذ باحث في الفيزياء في كلية سميث، حيث عملت مع البروفيسور جلاديس أنسلو. وفي ١٩٤٣ أصبحت مواطنة أمريكية، ورغم تمويلها المحدود للغاية فقد تمكنت من الاستمرار في أبحاثها. أشرفت على عدد محدود من الطلاب الجامعيين وأقامت منتديات، وفي الصيف كانت تحاضر في معمل الأحياء المائية في وودز هول بماساتشوستس الذي كان لزوجها علاقات وثيقة معه. شاركت مع جون فون نيومان في عمله الإحصائي في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون. كما أنها واصلت الدفاع باستماتة عن نظرياتها المتعلقة بتركيب البروتين ضد الكثير جدًّا من الأدلة التي تنفيها.

واصلت رينش العمل في كلية سميث حتى تقاعدت في ١٩٧١ عندما انتقلت إلى وودز هول. وتوفيت عام ١٩٧٦، بعد وفاة ابنتها باميلا إثر حريق.

العمل العلمي

تنقسم مسيرة رينش البحثية المنتجة إلى مرحلتين مهمتين. أثناء المرحلة الأولى ركزت جهودها على الرياضيات ولكنها نشرت عن المنطق وعن نظرية المعرفة، متأثرة ببرتراند راسل وهارولد جيفريز. تألَّف إنتاجها بين عامي ١٩١٩ و١٩٢٩ من ٤٢ منشورًا، بعضها كان عملًا مشتركًا مع أبيها ومع زوجها. وبعد نشر كتاب في علم الاجتماع وهو «الانسحاب من الأمومة» باستخدام اسم مستعار هو جان أيلينج في ١٩٣٠ حوَّلت انتباهها إلى علم الأحياء النظري، منتجة ١٥٠ منشورًا آخر، منها ثلاثة كتب: «تحويل فورييه والعوامل التركيبية» (١٩٤٦)، و«الجوانب الكيميائية لتركيب الببتيدات الصغيرة» (١٩٦٠)، و«الجوانب الكيميائية لتركيب سلسلة عديدي الببتيدات والنظرية الحلقية» (١٩٦٥).

كانت بؤرة اهتمامها هي البحث عن حلول رياضية لمسائل التركيب في الجزيئات البيولوجية، ولا سيما البروتينات. كانت مرتبطة بشدة بنظريتها الحلقية الخاصة بتركيب البروتين، والتي طورتها في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، وسعَتْ لتركيبٍ يستطيع أن يفسر امتزاج التنوع البيولوجي والوحدة التركيبية التي تتسم بها البروتينات، ويتطلب التركيب الذي اقترحته رابطًا ثنائي البعد بدلًا من الرابط الخطي بين مونومرات الحمض الأميني في البروتينات، الذي يشكل ألواحًا وليس سلاسل. يؤدي طي هذه الألواح إلى مجموعات من المجسمات الثُّمانية الوجوه المغلقة، وغيرها من الأشكال المصمتة المكونة من بقايا الحمض الأميني. عندما اقترحت رينش الفكرة بدا أنها تتوافق تمامًا مع البيانات التجريبية الموجودة. وفي منتدى كولد سبرينج هاربور لعام ١٩٣٨ الذي أقيم حول البروتينات أقنعت الكثير من المشاركين بقيمة عملها وكسبت دعم بعض العلماء البارزين، ومنهم إرفينج لانجموير. أقنعها ذلك ببدء تقديم نموذجها كنظرية وليس كفرضية عاملة. قوبلت أفكارها في البداية بالاستحسان، ويرجع ذلك في جزء منه على الأقل إلى أنها بدا أنها تقدم طريقة جديدة للتقدم في دراسة البروتينات التي كان يسيطر عليها علماء الكيمياء الفيزيائية الذين طالما رأوا أن البروتينات ليس لها تركيب جزيئي محدد. وكوفئت رينش بمنحة لمدة خمس سنوات من مؤسسة روكفلر لدعم عملها.

بدأت الاعتراضات على نظريتها في الظهور من بين مجتمع دراسة البلورات بالأشعة السينية، ولا سيما العاملين المرتبطين بجيه دي برنال، الذين عارضوا زعمها أن نظريتها مدعومة ببيانات الأشعة السينية. ألمح دبليو إتش براج إلى أن بيانات الأشعة السينية كانت في الواقع غير كافية لدعم تقييم حاسم لأي نظرية تركيبية. وربما ساهمت هذه الخلافات مع دارسي البلورات بالأشعة السينية في اتخاذها قرارًا بالانتقال إلى الولايات المتحدة، حيث تورطت في نزاع حاد حول تركيب البروتين مع لينوس باولنج، الذي رأى — إلى جانب عدد من علماء الكيمياء الآخرين — أن التركيب الذي اقترحته، بالرغم من أناقته هندسيًّا، يتعارض مع المبادئ الأساسية لحقلهم المعرفي. وتبين أن هذا النزاع كان مدمرًا للغاية لجهودها من أجل الحصول على وظيفة أو تمويل لأبحاثها وكذلك لإحساسها بالاطمئنان والرفاهية.

أما ارتباط رينش بجليزر والمناصب التي تمكَّن من أن يساعدها في الحصول عليها بعد عام ١٩٤١ فقد جلبت لها الاستقرار الشخصي الذي كانت تفتقده. وواصلت رينش في عملها العلمي دعم التركيب الحلقي الذي اقترحته وكرست جهودها البحثية لتعزيزه في مواجهة التهميش المتزايد للاتجاه الذي تتحرك إليه النقاشات حول التركيب الجزيئي للمركبات البيولوجية. وهمَّش دورها إلى جانب غيرها من العلماء الرواد الذين ركزوا على البروتينات عندما بدأت الأبحاث تتجه إلى الأحماض النووية في الخمسينيات. أما عن إسهامها الأطول بقاءً بعد الحرب العالمية الثانية فهو في الغالب كتاب «تحويل فورييه والعوامل التركيبية» (١٩٤٦) الذي استُغل إلى أقصى درجة على جانبي المحيط الأطلنطي.

كانت دوروثي رينش عالمة رياضيات موهوبة لم تَلْقَ محاولاتها معالجة المسائل المثيرة للتحدي في مجال جديد التقدير الذي تستحقه من هؤلاء الذين عارضت رؤاهم. كثيرًا ما جاءت التقييمات اللاحقة لعملها متحيزة ضدها أيضًا، مصورة إياها في صورة المضللة العنيدة، أو متحسرة على عدم موافقة أي مؤسسة علمية ذكورية على تقدير عبقريتها. وقد جاءت هذه التقييمات المتباعدة نتيجة لدفاعها المستمر عن النظرية الحلقية في مواجهة الأدلة المتزايدة التي تدعم التأويلات البديلة واستعدادها لمواجهة خبراء يملكون من المعرفة الكيميائية أو البيولوجية أكثر مما تملك هي. ويرى المتعاطفون معها أن رفضها إعادة النظر في فرضيتها لا ينبغي أن ينقص من إسهاماتها الحقيقية في تطوير البيولوجيا الجزيئية من خلال منهجها الرائد، ولا يقلل من الحافز الذي قدمه عملها لدراسة البروتينات ولفكرة أن تركيب البروتين ينبغي التفكير فيه من ناحية البناء الجزيئي التفصيلي. وقد ظل كتابها «تحويل فورييه والعوامل التركيبية» (١٩٤٦) من الأدوات المهمة التي يستخدمها علماء البلورات لسنوات طويلة.

المراجع

  • Abir-Am, p. G. (1987) Synergy or Clash: Disciplinary and Marital Strategies in the Career of Mathematical Biologist Dorothy Wrinch, in Uneasy Careers and Intimate Lives, Women in Science 1789–1979 (eds p. G; Abir-Am and D. Outram), Rutgers University Press, New Brunswick, NJ, pp. 239–280.
  • Abir-Am, p. G. (1993) Dorothy Maud Wrinch (1894–1976), in Women in Chemistry and Physics: A Biobibliographic Sourcebook, (eds Louise S. Grinstein, Rose K. Rose, and Miriam H. Rafailovich), Greenwood Press, Santa Barbara, pp. 605–612.
  • Carey, C. W. Jr. (1999) Dorothy Maud Wrinch, American National Biography 24 Oxford University Press, New York, pp. 69–71.
  • Creese, M. R. S. (2004) Dorothy Maud Wrinch (1894–1976), in Oxford Dictionary of National Biography, Oxford University Press; online edn, Oct 2007 http://www.oxforddnb.com/view/article/53495, accessed 28 July 2010.
  • Grinstein, L. S., Rose, R. K., and Rafailovich, M. H. (1993) Dorothy Maud Wrinch, in Women in Chemistry and Physics: A Biobibliographic Sourcebook, (eds Louise S. Grinstein, Rose K. Rose, and Miriam H. Rafailovich), Greenwood Press, Westport, CT, pp. 605–612.
  • Hodgkin, D. C. and Jeffreys H. (1976) Obituary - Dorothy Wrinch, Nature, 260, 564.
  • Laszlo, p. (1986) Dorothy Wrinch: the mystique of cyclol theory or the story of a mistaken scientific theory, Molecular Correlates of Biological Concepts , vol. 34A of Comprehensive Biochemistry, Elsevier Science Publishers, ch. 13.
  • Rayner-Canham, M. and Rayner-Canham, G. (1998) Women in Chemistry: Their Changing Roles from Alchemical Times to the Mid-Twentieth Century, American Chemical Society and the Chemical Heritage Foundation, Washington, DC.
  • In DNB and American National Biography. http://pubs.acs.org/doi/abs/10.1021/ed064p2 86.1 article on her by Linus Pauling.
  • http://pubs.acs.org/doi/abs/10.1021/ed061p8 90 article to which Pauling is responding.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤