لوسيا دو بروكير (١٩٠٤–١٩٨٢)

بريجيت فان تيجلين

عُينت لوسيا دو بروكير مساعِدة للبروفيسور جيه تيمرمانس (١٨٩٩–١٩٨٦) في ١٩٢٧. وبعد التهنئة المعتادة من رئيس جامعة بروكسل الحرة، نصحها بألا تطمح في منصب أعلى من هذا. أثبت المستقبل أن تحفظات رئيس الجامعة كانت خاطئة؛ لأنها أصبحت أول امرأة تُعيَّن أستاذًا في الكيمياء في بلجيكا، وكذلك أول امرأة تُعيَّن أستاذًا في كلية علوم بلجيكية. كانت مدرِّسة متميزة تُعلِّم الكيمياء العامة لمئات الطلاب، وتوجه الكثير من الكيميائيين المتخصصين. كانت أيضًا اشتراكية واعدة جدًّا ومفكرة حرة شاركت في الكثير من الجمعيات والأنشطة الاجتماعية.

•••

ولدت لوسيا فلورنس تشارلوت في ١٣ يوليو عام ١٩٠٤ في بروكسل، وكان والدها لوي دو بروكير سياسيًّا معروفًا وعضوًا في الحزب الاشتراكي، بل إنه دخل السجن لنشره منشورًا مقاومًا للنظام العسكري في ١٨٩٨. ورغم آرائه جُنِّد في الجيش البلجيكي في ١٩١٤ عن عمر يناهز الرابعة والأربعين. وبعد الهزيمة، عندما كانت لوسيا في العاشرة من عمرها، هربت الأسرة إلى إنجلترا. قادته مسيرته السياسية الناجحة إلى تبوُّء العديد من المراكز في بلجيكا وإلى تمثيل بلده في مناصب دولية كثيرة، مثل عصبة الأمم. وكان أيضًا مناصرًا مبكرًا لتعليم المرأة، كما كانت أم لوسيا، جيرترود جينزبيرج، نفسها متعلمة؛ الأمر الذي كان غير معتاد على الإطلاق في ذلك الوقت؛ لذا لم يكن من المفاجئ أن تجد لوسيا من يشجعها على دخول الجامعة بعد إنهائها للمدرسة في بلجيكا وفي بريطانيا العظمى أثناء الحرب العالمية الأولى. ولم يكن هذا بالمهمة البسيطة؛ لأن دخول الجامعة وقتها كان يقتضي معرفة اللغتين اللاتينية واليونانية، ولم تكن هاتان اللغتان تدرَّسان في مدارس البنات في ذلك الوقت.

figure
لوسيا دو بروكير، صورة مقدمة من المؤلفة.

كانت لوسيا شديدة الإعجاب بالتزام والدها الاجتماعي، ووقَّرت ذكراه طوال حياتها. ولا بد أن التزامها هي شخصيًّا قد نبع من تشربها لمبادئه المثالية منذ الصغر، ولكنها لم تشَأْ أن تسير على نهج أبيها بالكامل؛ فهي لم تهدف قطُّ إلى امتهان السياسة، ورغم أنها كانت شديدة الانجذاب إلى التاريخ؛ فقد اختارت العلوم. كانت تعتقد أنها تفتقد الموهبة الأدبية، ولكنها تمتلك موهبة الاستدلال المنطقي المطلوبة للنجاح في العلوم. وكانت تعلم أنها تستطيع الالتحاق بأي وظيفة بمنتهى السهولة بمساعدة أبيها إذا أنهت دراستها ﻟ «الفلسفة والآداب»، ولكن لم يكن هذا ما كانت تريده بالضبط، كانت تريد أن يرجع نجاحها لعملها فقط. ثمة سبب آخر جعلها تختار الكيمياء، وهو إعجابها بامرأة، وهي ديزي فيرهوخن، التي كانت تشغل منصب «رئيس عمل» في الكيمياء العضوية بجامعة بروكسل الحرة (وهو منصب أعلى من مساعد في المهن العلمية ولكنه لا يؤدي إلى أي ألقاب أكاديمية كلقب أستاذ). في الواقع لا نعرف الكثير عن ديزي فيرهوخن، وما زال التاريخ يحتاج إلى البحث في مثل هذه الشخصيات الثانوية التي مهدت الطريق للعالمات فيما بعد.

في ١٩٢٧ قدمت رسالتها المعنونة «امتصاص الإلكتروليتات بواسطة الأسطح البلورية»، التي تلقَّت عليها جائزة من الأكاديمية الملكية البلجيكية. كان بحثها بالكامل يركز على امتصاص الأيونات المعدنية بواسطة الأسطح البلورية، باستخدام أربع تقنيات تجريبية مختلفة لمقارنة النتائج. كانت الدقة والانضباط هما الطابع المميز لعملها التجريبي. وبينت من بين أشياء أخرى أن أيون ثلاثي اليوديد مُثَبَّت على نحو عمودي على سطح كبريتات الباريوم؛ مما جعلها على خلاف مع الكيميائي الأمريكي ذي الأصل الألماني آي إم كولتوف (١٨٩٤–١٩٩٣)، وتم حل هذا الخلاف عندما تبادل الاثنان عيناتهما واكتشفا أنهما مختلفتان بسبب اختلاف طرق التحضير. شغلت منصبًا أهَّلها للتدريس على المستوى الجامعي في ١٩٣٣؛ ومن ثم عملت معلمة بديلة لبعص الوقت. وفي ١٩٣٧، حصلت على منصب محاضِر في جامعة بروكسل الحرة للكيمياء العامة، الأمر الذي جعلها أول امرأة تدرِّس في كلية علوم بلجيكية. وتغير تركيزها البحثي مع الحرب؛ فبعد أن انتقلت مع أبيها إلى إنجلترا في ١٩١٤، درست تآكل الرصاص بواسطة ماء الصنبور وتآكل سبائك الألومنيوم والماغنيسيوم بفعل الهواء الجوي، بالإضافة إلى أمور أكثر خصوصية مثل تآكل التوصيلات النحاسية الخاصة بأبواق السيارات المصفحة بفعل رمل الصحراء! كذلك رأست قسم الكيمياء الصناعية في وزارة الشئون الاقتصادية لحكومة المنفى البلجيكية في لندن.

وبمجرد أن عادت إلى بلجيكا في ١٩٤٤، أعادت تنظيم منهج الكيمياء ووجدت الدعم المالي لدعوة أساتذة أجانب. وعُينت في ١٩٤٦ مديرًا لمعمل الكيمياء العامة، وفي ١٩٥١ مديرًا لمعمل الكيمياء المعدنية والتحليلية، وكان فريقها يطلِق عليها لقب «صاحبة المعمل». أصبحت مهتمة بالغروانيات والجزيئات الضخمة، التي فحصت الخصائص الفيزيائية الكيميائية لها عندما تكون في محلول. وخلال سنوات عديدة، تعاونت مع إيليا بريجوجين في بحث مشترك عن الديناميكا الحرارية في المرحلة السائلة؛ فقدمت النتائج التجريبية في حين كان هو مسئولًا عن التطورات النظرية.

في عام ١٩٥٣ مُنحت جائزة ويتريمز من قِبل الأكاديمية الملكية البلجيكية تقديرًا لها على عملها العلمي. وأصبحت أبحاثها أبطأ في الستينيات؛ نظرًا لأنها كانت تدرس المزيد والمزيد من الدورات الدراسية، وعُينت أستاذًا كاملًا في ١٩٤٥ (أثناء الحرب العالمية الثانية أُغلقت جامعة بروكسل الحرة تمامًا على يد الاحتلال الألماني) وأعطيت مسئولية تدريس الكيمياء العامة. صممت دورة دراسية جديدة تمامًا مبنية على المبادئ الأساسية والتفكير والاستدلال بدلًا من الذاكرة، كما كان معتادًا في دورات المبتدئين، ومع ذلك تتضمن العديد من البراهين التجريبية الأصلية. بعد ذلك قبلت واجبات تدريسية أخرى، تتراوح بين الكيمياء التحليلية إلى الغروانيات والجزيئات الضخمة إلى الكيمياء الفيزيائية أو غير العضوية. وشاركت منذ ١٩٣٩ أيضًا في تدريب مدرِّسي العلوم المستقبليين. وأتاح لها الانتباه إلى المبادئ الأساسية والخبرة التي اكتسبتها من التدريس أن تكتب كتابًا تاريخيًّا: «تطور التفكير العلمي: تطور أفكار الذرات والعناصر.»

عملت رئيسًا لكلية العلوم في ١٩٦٢-١٩٦٣، وفي ١٩٦٥ شاركت في مجلس إدارة معاهد سولفاي الدولية للفيزياء والكيمياء المرتبطة بجامعة بروكسل الحرة. وعندما اجتازت الجامعة دعوة طلابية مدوية للإصلاح في ١٩٦٨، عملت رئيسًا للمجمع العامل على لوائح جامعة بروكسل الحرة الجديدة؛ مما يدل على مدى الثقة التي كانت تحظى بها بين زملائها وطلابها على حد سواء، بالإضافة إلى ذلك فقد كانت عضوًا في مجالس إدارات الكثير من الهيئات المعنية بالشئون العلمية، داخل الجامعة وخارجها. ونظرًا لاهتمامها الزائد الدائم بالاتجاهات الجديدة في تدريس العلوم ونقلها، شاركت في تأسيس جمعية الباحثين الشباب في بلجيكا في ١٩٥٧، والتي كانت تشجع الأنشطة العلمية للشباب، وما زالت الجمعية تتمتع بنشاط بالغ حتى الآن. أيضًا يبين اهتمامها الشديد بجيل الشباب تأسيسها لجمعية لوسيا دي بروكير، التي أنشأتها بمناسبة تقاعدها لتتيح لطلاب الكيمياء الشباب من جامعة بروكسل الحرة البقاء بالخارج.

كانت ملابسها بسيطة غير مبهرجة؛ فكانت إما ترتدي بزة سوداء وإما رمادية، هذا إذا لم تكن تتجول مرتدية معطف المعمل. ولكن خلف هذه الصورة المتقشفة، فإن كلَّ من تعامل معها سرعان ما كان يكتشف شخصيتها المتحمسة الدقيقة المجتهدة. كانت مفعمة بالنشاط والكرم والوعي الاجتماعي، وتحضر أي اجتماع باستعداد كامل. كانت دائمًا مولعة بتوصيل معرفتها وعلمها. وأثارت شخصيتها، وكذلك مواهبها التعليمية ومهاراتها البحثية، إعجاب آلاف الطلاب على مدار السنين حتى تقاعدت في عام ١٩٧٤. ومع ذلك كانت سمعتها أطيب على الصعيد الاجتماعي السياسي؛ ففي عام ١٩٣٤، اختيرت لتكون أول رئيسة للجنة النسائية العالمية لمكافحة الحرب والفاشية، وشنت حملة تتفق مع إيمانها الراسخ لتأييد النظام الجمهوري في إسبانيا عام ١٩٣٦.

باعتبارها مفكرة حرة، انضمت إلى جماعة الماسونيين في اتحاد الإخلاص والسلام الذي حصلت فيه على لقب خبير مبجل بين عامي ١٩٦٤ و١٩٦٦. ونظرًا لمشاركتها في الكثير من دوائر المفكرين الأحرار اكتشفت أن ما يعوق فعاليتهم هو تشتتهم، وفي ١٩٦٩ قامت بمبادرة مركز العمل العلماني لتنسيق جميع جهود هذه المؤسسات المتخصصة المتفرقة، ولا سيما عند الحديث إلى السلطات العامة.

نظرًا لكونها أول مدرِّسة أكاديمية من النساء، فكثيرًا ما كانت تُسأل في المقابلات عن مسألة تكافؤ الفرص، ولم تنضم إطلاقًا إلى أي جماعة لمناصرة المرأة. كانت مقتنعة أن حرية المرأة لا يمكن تحقيقها دون دعم الرجل، أو خارج المؤسسات الموجودة؛ ولذلك فعلى المرء أن يستمر في العمل داخل المجموعات المختلطة في كل مستويات المجتمع، وأيضًا أن يقبل التحدي أو التحفظ، كما فعلت هي عندما أصبحت أستاذًا كاملًا في ١٩٤٥: كان عليها أن تَعِدَ بأنها سوف تستقيل في غضون أسبوعين لو واجهت سلطتها أية مشكلات مع مجموعة مكونة من عدة مئات من الطلاب! كانت تعتبر أن الأمور في تحسن، ومع ذلك فكانت تسلِّم بأنه في حالة تساوي كفاءة الرجال والنساء، فإن الرجال يتفوقون بميزة على النساء. لم يكن الصراع قد انتهى بعد، وفي هذا المجال، كان القطاع الخاص أبطأ من القطاع الأكاديمي في قبول المرأة في المناصب العليا.

مع ذلك كان اهتمامها الأساسي منصبًّا على تعليم الأجيال الصغرى، من البنين والبنات، وكان من رأيها أن الجامعة لا ينبغي أن تُخرج متخصصين ذوي مهارات عالية وإنما أفرادًا مدرَّبين على تطبيق المنهج العلمي وقادرين على تكييف أنفسهم طوال حياتهم: «ما نحتاجه هو رجال ونساء لديهم الشجاعة ليظلوا طلابًا إلى آخر نفَس في حياتهم، رجال ونساء ينتهزون كل فرصة لتحسين أو تصحيح معلوماتهم.» (خطاب للطلاب في ١٩٦٠). وبينما كانت تؤكد على الخطر والريبة أو المحنة التي تهدد عددًا متزايدًا من الأشخاص في المجتمع، كانت تتحدث أيضًا بثقة عن الدور الاجتماعي والمسئولية التي ينبغي أن تقع على عاتق الجيل القادم من العلماء. وما زالت هذه الرسالة صالحة حتى الآن، وما من شك في أن التدريب المهني في الكيمياء كان ولا يزال يتفق تمامًا مع منظور لوسيا دي بروكير.

المراجع

  • Nasielski, J. (2007) de Brouckère, Lucia, in Nouvelle Biographie Nationale, Academie Royale de Belgique, t. IX, pp. 111–114.
  • van de Vijver, G. and Lemaire, J. (1993) Science et Libre Examen: un Homage à Lucia de Brouckère, Espace de Libérté/CAL, Brussels.
  • van Tiggelen, B. (2004) Lucia, dite Lucie, de Brouckère (1904–1982), in Chimie et Chimistes de Belgique, Labor, Brussels, pp. 88-89.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤