مارجريت كاثرين بيري (١٩٠٩–١٩٧٥)

جان-بيير أدولف

بعد عامين من اكتشاف هنري بيكريل للنشاط الإشعاعي في ١٨٩٦، اكتشف بيير (١٨٥٩–١٩٠٦) وماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤) عنصرين جديدين، وهما البولونيوم والراديوم، ببساطة عن طريق إصدارهما لأشعة غير مرئية، وتلا ذلك اكتشاف ثلاثة عناصر مشعة أخرى: الأكتينيوم والرادون والبروتكتينيوم. وتملك هذه العناصر، إلى جانب عنصرَي اليورانيوم والثوريوم، المشعَّين أيضًا واللذين تم اكتشافهما مسبقًا، خاصية مشتركة: شغل أماكن خالية بعد عنصر البزموت في الجزء الطرفي من الجدول الدوري؛ لذا، يمكن أن نتوقع أن كل العناصر التالية للبزموت في الجدول الدوري هي عناصر مشعة. في ١٩٣٩، اكتشفت مارجريت بيري العنصر ٨٧، الذي كان أحد العناصر المفقودة في الجدول الدوري، وكان ديميتري إيفانوفيتش مندليف (١٨٣٤–١٩٠٧) يتوقع أن هذا العنصر الذي أطلق عليه «إيكا-سيزيوم» سيكون أعلى العناصر في الإيجابية الكهربية، وقد أُطلق على هذا العنصر اسم الفرانسيوم.

•••

ولدت مارجريت كاثرين بيري، أصغر أخواتها الخمس، في ١٩ أكتوبر ١٩٠٩ في فيليمومبل، بالقرب من باريس. وفي مارس من عام ١٩١٤ توفي والدها، الذي كان يملك طاحونة دقيق، إثر خسارته خسارة فادحة في البورصة؛ مما أدى إلى مواجهة هذه الأسرة البروتستانتية التي تنتمي للطبقة الوسطى صعوبات مالية، نتج عنها حرمان الأطفال من أي أمل في التعليم العالي. والتحقت بيري بمدرسة فنية للبنات، وهي مدرسة حكومية تخرجت فيها كيميائية في ١٩٢٩، وفي العام نفسه، تم تعيينها في معهد الراديوم بباريس، حيث أهَّلها ذكاؤها ومهارتها وشغفها للعلم والفهم لجذب انتباه مديرة المعهد، التي حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٠٣، وفي الكيمياء عام ١٩١١، ماري كوري. وسرعان ما أصبحت بيري مساعدتها الشخصية ومحل ثقتها، ويمكن اعتبار قضاء مارجريت لسنوات عملها الأولى بصحبة ماري كوري منحة منحها لها القدَر، وخطوة أولى نحو اكتشاف مذهل.

بعد اكتشاف الفرانسيوم، قامت بيري بدراسات جامعية في السوربون أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي العام نفسه الذي ناقشت فيه رسالة الدكتوراه الخاصة بها (١٩٤٦)، عُينت أستاذًا باحثًا في المركز القومي للبحث العلمي. وفي ١٩٤٩ دعيت لمنصب جديد في الكيمياء النووية بجامعة استراسبورج، كان وقتها المنصب الوحيد في فرنسا خارج باريس. في ١٩٥٧ أصبحت رئيس قسم الكيمياء النووية في مركز البحوث النووية. لم تتزوج قط ولكنها كرست كل وقتها لمسئولياتها العلمية والتعليمية في اللجان الوطنية والدولية. وحصلت على وسام الشرف من رتبة فارس (١٩٥٨) ثم ضابط (١٩٦٠)، كما حصلت بيري على العديد من الأوسمة والجوائز، منها الجائزة الكبرى لمدينة باريس (١٩٦٠) وجائزتان من الأكاديمية الفرنسية للعلوم (١٩٥٠ و١٩٦٠). وفي ١٩٦٢، رُشحت لعضوية الأكاديمية، وهو ما كان أمرًا محظورًا على النساء (حتى لماري كوري وإيرين جوليو-كوري) منذ تأسيسها في ١٦٦٦.

figure
مارجريت كاثرين بيري (الصورة مقدمة من المؤلفة).

بعد ١٩٤٦ بوقت قصير، لاحظت بيري حرقًا متزايدًا في يدها اليسرى، وشُخِّص على أنه سرطان تسبب فيه عملها لسنوات طويلة في العناصر المشعة، ولا سيما الأكتينيوم، وبعد فترات إقامة طويلة وعديدة في المستشفى انتقلت إلى نيس، ولكنها ظلت على اتصال وثيق بمعملها. وظلت فترات المرض الطويلة تتخللها أسابيع قصيرة من الراحة؛ نظرًا لتقدم مراحل هذا المرض الذي حصد روحَيْ ماري كوري وابنتها إيرين جوليو-كوري. وفي ١٩٦٧ حضرت بيري الاحتفال المئوي بولادة ماري كوري في وارسو، وكان هذا آخر ظهور لها في المجتمع الدولي لعلماء الكيمياء النووية. بحلول يوليو ١٩٧٣ أصبح مرضها أكثر حدة؛ مما أجبرها على البقاء في مستشفى كوري بباريس وأخيرًا في عيادة وادي السين في لوفيسيان، حيث توفيت في ١٣ مايو عام ١٩٧٥، عن عمر يناهز الخامسة والستين، وكانت واحدة من آخر رواد الكيمياء الإشعاعية من فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية من معمل كوري. وقد قرأ صديقها ألفريد كاستلر (١٩٠٢–١٩٨٤) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٦ نعيها أمام أكاديمية العلوم. وقُدِّم لها آخر وسام استحقاق وطني وهي طريحة الفراش قبل ذلك بعام واحد.

عندما بدأت بيري العمل في معهد الراديوم في ١٩٢٩، كانت أول مهمة ألقيت على عاتقها هي تنقية الأكتينيوم، وهو عنصر مشع اكتشفه أندريه دبيرن (١٨٧٤–١٩٤٩) في ١٨٩٩. دائمًا ما يكون الأكتينيوم مختلطًا مع عناصر أرضية نادرة (اللانثانيدات)، ومن الصعب جدًّا فصله عنها. ولم تكن سلسلة الأكتينيدات قد دُرست بالقدر نفسه الذي دُرست به عائلتا العناصر المشعة الطبيعية الأخرى؛ أي سلسلتا الراديوم والثوريوم. وحتى العمر النصفي للأكتينيوم لم يكن مؤكدًا حتى ذلك الوقت. ويعد هذا العنصر «أندر» بكثير من العناصر الأرضية النادرة المصاحبة له (اللانثانيدات). وكان على بيري أن تركز الأكتينيوم بين اللانثانيدات الأخف، وهي عملية تتطلب المئات من عمليات التبلور التجزيئي، ولم يكن من الممكن وقتها رؤية الإشعاع الصادر من الأكتينيوم؛ حيث إنه شعاع بيتا ضعيف جدًّا، وكان تقدم عملية تركيز العنصر يرصد من أشعة بيتا وجاما التي تنبعث من العناصر المشعة، وكان تحقيق التوازن الإشعاعي يستغرق ثلاثة أشهر. كان الوعي والمثابرة والحماس من المتطلبات الأساسية لهذه المهمة الصعبة.

وبحلول منتصف الثلاثينيات نجحت بيري في تحضير مصدر الأكتينيوم الأكثر تركيزًا على الإطلاق في ذلك الوقت، وطلبت ماري كوري هذه العينة لقياس طيف انبعاث العنصر، وهو الفحص المطلوب للتحديد الحاسم للعنصر. وشاركت بيري، التي كانت في ذلك الوقت قد حصلت على معرفة جيدة بالتحليل الطيفي، في المشروع الذي توقَّف نتيجة لوفاة ماري كوري في الرابع من يوليو عام ١٩٣٤. وكان فقد «الراعية» صدمة كبيرة بالنسبة لبيري، وكانت تستعيد ذكرى السنوات الخمس التي قضتها بالقرب من ماري كوري، وربما في علاقة شبه يومية معها، في الكثير من المناسبات بتأثر شديد.

بدأت بيري بعد ذلك العمل تحت توجيه دبيرن وابنة ماري كوري، إيرين جوليو-كوري (١٨٩٧–١٩٥٦). وكان كلاهما مهتمًّا بالأكتينيوم، وطلب كلاهما من بيري، بشكلٍ منفصل ودون علم الآخر، متابعة عملية تركيز وتنقية الأكتينيوم. كانت إيرين جوليو-كوري ترغب في تحديد العمر النصفي للأكتينيوم بدقة، في حين كان دبيرن مهتمًّا بالبحث عن «عناصر مشعة جديدة» غير موجودة. في خريف ١٩٣٨، لاحظت بيري أن الأكتينيوم، الذي تمت تنقيته حديثًا من كل العناصر المشعة الوليدة، يُصدر إشعاع بيتا غير معروف حتى ذلك الوقت، ويزداد شدةً على مدار ساعتين، ثم يظل ثابتًا. أثناء الساعات والأيام التالية زاد نشاط إشعاع بيتا مرة أخرى مع تكوُّن العناصر المشعة الوليدة الطويلة العمر. وتمكنت بيري بدقتها وسرعتها في إجراء التجارب من ملاحظة هذه الظاهرة التي لم تُكتشف منذ أربعين عامًا من قِبل كيميائيي العناصر المشعة الأقدم والأقل مهارة.

في يناير ١٩٣٩، بعد عدة اختبارات، استنتجت بيري أن جزءًا من عملية تحلل عنصر الأكتينيوم ٢٢٧ ينتج عنه عنصر مشع يُصدر إشعاع بيتا. وهذا العنصر المشع له الخصائص الكيميائية لعنصر فلزي قلوي من المفهوم أن يكون هو العنصر الذي رقمه الذري ٨٧. بعد فترة قصيرة، حددت بيري أصل هذا العنصر على نحو مؤكد لا يقبل الشك من خلال إصدار أشعة ألفا من عنصر الأكتينيوم ٢٢٧. وبداية من الرقم الذري ٨٩، قاد تحليل أشعة ألفا إلى المكان الخالي ٨٧ في الجدول الدوري. اكتشفت بيري، وهي التي كانت فنية متواضعة ليس لديها شهادة جامعية، في التاسعة والعشرين من عمرها، أول نظير للفرانسيوم بالعدد الكتلي ٢٢٣. ووفقًا لما كان متبعًا في ذلك الوقت، أطلقت عليه اسم أكتينيوم كيه. وبينت قياساتها الدقيقة أن ١٫٢ في المائة من ذرات الأكتينيوم تتحلل إلى الفرانسيوم، الذي قدَّرت عمره النصفي ﺑ ٢١ دقيقة، وهي نتائج قريبة من أحدث قيم تم اكتشافها (٢٢ دقيقة و١٫٣٨ في المائة). تم إعلان اكتشاف العنصر ٨٧ بتحفظ في ٩ يناير عام ١٩٣٩ في الجلسة الأسبوعية للأكاديمية الفرنسية للعلوم من قِبل عالم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٢٦ جان برين (١٨٧٠–١٩٤٢).

بعد اكتشاف الأكتينيوم كيه، شجع دبيرن وإيرين جوليو-كوري بيري على الدراسة الجامعية أثناء إجراء تجاربها، فحصلت على دبلومة أهلتها لمناقشة أطروحة بعنوان «العنصر ٨٧: أكتينيوم كيه» بتاريخ ٢١ مارس ١٩٤٦. وكان آخر سطر في الأطروحة كالتالي: «الاسم فرانسيوم مقترح للمربع ٨٧.» اتُّخذ هذا الاسم رسميًّا بعد سنوات قليلة، ولكن الرمز تغير إلى Fr وتم تغيير AcK إلى 223Fr. وكانت لجنة مناقشة الأطروحة تضم دبيرن وإيرين جوليو-كوري. وكان من العبارات التي أسعدت بيري أيما سعادة بعد مناقشة أطروحتها تعليق إيرين على الأطروحة بقولها: «لو كانت أمي حاضرة اليوم، لسعدَت كثيرًا.»

الفرانسيوم هو العنصر المشع الطبيعي الرابع الذي اكتُشف في فرنسا بعد البولونيوم والراديوم والأكتينيوم، وهو آخر عنصر يُكتشف في الطبيعة، ويعد أندر العناصر الطبيعية وأقلها استقرارًا، ولا يزيد محتواه الإجمالي في القشرة الأرضية في أي وقت عن عدة مئات من الجرامات، في مقابل ٧٤٠٠ طن من البولونيوم الذي اكتشفته كوري. ويسرد أحدث جدول النوكليدات أو النظائر ٢٤ نظيرًا للفرانسيوم، من بينها وأطولها عمرًا الأكتينيوم كيه (عمره النصفي ٢٢ دقيقة) الذي اكتشفته بيري. وتمتلك كل العناصر التي وراء الفرانسيوم (٨٧)، حتى الدوبنيوم (١٠٥)، نظائر تعيش فترة أطول من الأكتينيوم كيه.

عندما عُرض منصب أستاذ الكيمياء النووية بجامعة استراسبورج على بيري، قبلت الترشيح بمنتهى الإخلاص «محاولةً توصيل روح العمل بحماس وسعادة، لعلِّي بهذه الطريقة أرد جميل ماري كوري، أستاذتي المحبوبة والموقرة.» وكانت في ذلك الوقت مهتمة بالتطبيقات البيولوجية للفرانسيوم، متمنية أن تفيد في التشخيص المبكر لمرض السرطان. ورغم النتائج المشجعة؛ فقد تم إيقاف المشروع بسبب عدم وجود كمية كافية من الأكتينيوم ونقص الاهتمام الذي أبداه الأطباء.

استفادت بيري استفادة عظيمة من مركز ماري كوري العلمي المرموق، وحازت احترام وإعجاب كلٍّ من طلابها وزملائها والعاملين معها. ومع ذلك، فلم يكن يجمع بين السيدتين الكثير، كانت خلفية بيري العلمية الأولية بسيطة للغاية، في حين أن كوري كانت تحمل شهادة جامعية في الرياضيات والفيزياء، وكانت معرفتها تشمل أحدث ما ظهر من نظريات ونتائج في زمانها. وقد نتج اكتشاف ماري كوري للبولونيوم والراديوم عن الاستدلال من المشاهدات السابقة، أما اكتشاف الفرانسيوم فقد تم بمحض الصدفة. وقد عانت كلتاهما من الأمراض الناتجة عن الإشعاع وتوفيت كلتاهما في نفس العمر تقريبًا، ولكن كوري ظلت تعمل حتى الأسابيع الأخيرة من حياتها، في حين ظلت بيري تصارع المرض ١٦ عامًا.

شكر وتقدير

أتوجه بالشكر والتقدير للبروفيسور جورج بي كوفمان، أستاذ الكيمياء الشرفي بجامعة ولاية كاليفورنيا، بفريسنو وزميل جوجنهايم، على تعليقاته ومراجعته للنص.

المراجع

  • Adloff, J. p. and Kaufmann, G. B. (2005) Marguerite Catherine Perey (1909–1975). in Out of the Shadows: Contributions of 20th Century Women to Physics (eds N. Byers and G. Williams); Cambridge University Press, Cambridge, England, pp. 371–384.
  • Adloff, J. p. and Kauffman, G. B. (2005) Francium (Atomic number 87), The Last Discovered Natural Element. Chem. Educ., 10, 387–394.
  • Adloff, J. p. and Kauffman, G. B. (2005) Marguerite Perey (1909–1975): A Personal Retrospective Tribute on the 30th Anniversary of Her Death. Chem. Educ., 10, 378–386.
  • Adloff, J. p. and Kauffman, G. B. (2005) Triumph over Prejudice: The Election of Radiochemist Marguerite Perey (1909–1975) to the French Académie des Sciences. Chem. Educ., 10, 395–399.
  • Kastler, A. (1975) Notice nécrologique sur Marguerite Perey (1909–1975). Compt. Rend. Ac. Sc., 280, vol. Vie académique, 124–128.
  • Kaufmann, G. B. and Adloff, J. p. (1993) Marguerite Catherine Perey (1909–1975) in Women in Chemistry and Physics (eds L. S. Grinstein, R. K. Rose, and M. H. Rafailovich); Greenwood Press, Wesport, CT, pp. 470–475.
  • Perey, M. (1946) L’élément 87: Actinium K. Thesis, Faculté des sciences de l’Université de Paris, March 21, 1946. J. Chim. Phys., 43, 152–168.
  • Perey, M. (1939) Sur un élément 87, dérivé de l’actinium. Compt. Rend. Ac. Sc., 208, 97–99.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤