الفصل الثالث

لقد ضربوا مثلًا عظيمًا

إعلان الحقوق

تعريف كلمة إعلان: تصريح، أو إخبار، أو عرض، أو إعلان بصراحة أو جهارًا أو بصفة رسمية؛ بيان أو تأكيد جازم؛ تأكيد أو إعلان أو تصريح بأسلوب جازم أو رسمي أو قانوني … تصريح أو بيان علني مُعبَّر عنه في وثيقة أو سند أو قانون عام.
قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية،
النسخة الإلكترونية الثانية

لماذا يتعين عرض الحقوق في إعلان؟ لماذا تشعر البلدان والمواطنون بضرورة مثل هذا البيان الرسمي؟ تشير حملات إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية إلى إجابة واحدة: البيان العلني الرسمي يؤكد على التغيرات التي طرأت على التوجهات الفكرية الضمنية. على أن إعلاني الحقوق لعامي ١٧٧٦، ١٧٨٩ ذهبا إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهما لم يوضحا التحولات التي حدثت في التوجهات الفكرية والتوقعات العامة فحسب، وإنما ساعدا أيضًا في انتقال السيادة من الملك جورج الثالث والبرلمان البريطاني إلى جمهورية جديدة في حالة الإعلان الأمريكي، ومن حكومة ملكية تدعي الحق في السلطة العليا إلى أمة وممثليها في حالة الإعلان الفرنسي. في عامي ١٧٧٦ و١٧٨٩، فتح كل من الإعلانين آفاقًا سياسية جديدة. فمنذ ذلك الحين فصاعدًا اندمجت حملتا مناهضة التعذيب والعقوبات القاسية مع عدد هائل من قضايا حقوق الإنسان الأخرى، التي لم تبرز صلتها بحقوق الإنسان إلا بعد الإعلانين.

يعطي تاريخ لفظة «إعلان» أول مؤشر لتحول السيادة. اشتُقت لفظة declaration الإنجليزية التي تعني «إعلان» من اللفظة الفرنسية déclaration. تشير الكلمة في الأساس في اللغة الفرنسية إلى قائمة بالأراضي تُمنح إلى أحد اللوردات الإقطاعيين مقابل التعهد بالولاء. وعلى مدار القرن السابع عشر، ارتبطت اللفظة على نحو متزايد بالبيانات العامة الصادرة عن الملك. وبعبارة أخرى، ارتبط فعل الإعلان بالسيادة. ومع انتقال السلطة من اللوردات الإقطاعيين إلى الملك الفرنسي، انتقلت أيضًا سلطة إصدار الإعلانات. وفي إنجلترا، حدث العكس أيضًا: عندما كان الرعايا يريدون إعادة التأكيد على حقوقهم من الملوك، كانوا يحررون إعلاناتهم الخاصة. هكذا أضفت «الماجنا كارتا» («الوثيقة العظمى») الصادرة سنة ١٢١٥ الصفة الرسمية على حقوق البارونات الإنجليز في مقابل حقوق الملك الإنجليزي؛ وأكدت «عريضة الحقوق» لعام ١٦٢٨ «الحقوق والحريات المختلفة للرعايا»؛ وصدَّقت «مذكرة الحقوق» البريطانية لعام ١٦٨٩ على «الحقوق والحريات الحقيقية والعريقة والثابتة لأبناء هذه المملكة».1

في عامي ١٧٧٦ و١٧٨٩، بدت كلمات مثل «وثيقة»، و«عريضة»، و«مذكرة» غير كافية لمهمة ضمان الحقوق (وينطبق الشيء نفسه على الإعلان العالمي لعام ١٩٤٨). انطوت كل من لفظة «عريضة» و«مذكرة» في فحواها على معنى الطلب والالتماس إلى قوة أعلى (فالمذكرة هي في الأصل عريضة تُقدم إلى الحاكم)، أما «الوثيقة» فتعني عادة ميثاقًا أو صكًّا قديمًا. أما كلمة «إعلان» فكانت أقل تعبيرًا عن القدم والخنوع. زد على ذلك أن «الإعلان»، بخلاف «العريضة» و«المذكرة» أو حتى «الوثيقة»، يمكن أن يدل على النية في امتلاك السيادة. وعليه، بدأ جيفرسون «إعلان الاستقلال» بتعليل ضرورة التصريح به قائلًا: «حين يتعين على شعب من الشعوب، في سباق الأحداث البشرية، أن يفصم عرى الروابط السياسية التي تربطه بشعب آخر، وأن يحتل بين دول المعمورة المكانة المنفصلة المتساوية التي تؤهله لها قوانين الطبيعة وسنن خالقها، فإن الاحترام الحق لآراء البشرية يفرض عليه «الإعلان» [وهذا هو شاهدي] عن الأسباب التي دفعته إلى هذا الانفصال.» ولم يتسبب تعبير «الاحترام الحق» في حجب النقطة الرئيسية، وهي أن المستعمرات تعلن نفسها دولة منفصلة ومتساوية وتمتلك سيادتها. (انظر الملحق إذا أردت الاطلاع على النص الكامل للإعلان.)

على النقيض، في عام ١٧٨٩، لم يكن النواب الفرنسيون مستعدين بعد للإفصاح صراحةً عن رفضهم لسيادة ملكهم. غير أنهم حققوا تقريبًا نفس الأهداف من خلال الحذف المتعمد لأي ذكر للملك في «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»: «إن ممثلي الشعب الفرنسي، الملتئمين في جمعية وطنية، إذ يؤكدون أن الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات، يعلنون أنه قد قر عزمهم على أن يعرضوا في إعلان للعموم [وهذا هو شاهدي] حقوق الإنسان الطبيعية، الثابتة، المقدسة.» تعين على الجمعية أن تفعل أكثر من مجرد إلقاء الخطب أو صياغة القوانين حول قضايا بعينها؛ كان عليها أن تُثبِت كتابةً من أجل الأجيال القادمة أن هذه الحقوق لم تنبع من اتفاق بين الحاكم والمواطنين، ولا من عريضة رُفعت إليه أو عهد منحه، وإنما من طبيعة البشر نفسها.

جمع الإعلانان بين النظر إلى الماضي والتطلع إلى المستقبل في الوقت نفسه. ففي الإعلانين، ادعى المعلنون أنهم يؤكدون على حقوق موجودة بالفعل ولا يرقى إليها الشك. لكنهم بهذا صنعوا ثورة في السيادة ووضعوا أساسًا جديدًا تمامًا للحكومة. أكد «إعلان الاستقلال» على أن الملك جورج الثالث سحق حقوق ساكني المستعمرات الموجودة مسبقًا، وأن أفعاله بررت تأسيس حكومة منفصلة: «متى أصبح أي شكل من أشكال الحكم خطرًا على هذه الغايات [ضمان الحقوق]، فإن من «حق» الشعب أن يغيره أو يلغيه، وأن يقيم نظامًا جديدًا للحكم.» بالمثل أعلن النواب الفرنسيون أن هذه الحقوق قد جرى تجاهلها ببساطة أو إهمالها أو ازدراؤها، ولم يدَّعوا أنهم ابتكروها. غير أن الإعلان اقترح منذ ذلك الحين فصاعدًا أن هذه الحقوق تشكل أساس الحكومة، مع أنها لم تكن موجودة في الماضي. وحتى فيما زعم النواب أن هذه الحقوق موجودة بالفعل وأنهم يدافعون عنها فقط، فإنهم خلقوا شيئًا جديدًا تمامًا: حكومات معتمدة على ضمان الحقوق العالمية.

إعلان الحقوق في أمريكا

لم يبدأ الأمريكيون بخطة واضحة للانفصال عن بريطانيا العظمى، ولم يتخيل أحد في ستينيات القرن الثامن عشر أن الحقوق ستؤدي بهم إلى مثل هذه التجربة الجديدة. إن إعادة تشكيل ملكة الحس ساعدت على جعل فكرة الحقوق أكثر واقعية لدى الطبقات المثقفة، كما حدث في المناقشات حول التعذيب والعقوبات القاسية على سبيل المثال، غير أن فكرة الحقوق تغيرت أيضًا بتغير الظروف السياسية، وبات لدينا لغتان مختلفتان من لغات الحقوق في القرن الثامن عشر: لغة «الحصر» (اقتصار الحقوق على شعب معين أو ثقافة قومية) ولغة العمومية (حقوق الإنسان بصفة عامة). واستخدم الأمريكيون واحدة أو الأخرى أو مزيجًا منهما معًا، تبعًا للظروف. أثناء أزمة «قانون الطوابع» الذي صدر في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، أكد مؤلفو الكتيبات السياسية على حقوقهم باعتبارهم سكان المستعمرات بداخل الإمبراطورية البريطانية، في حين أن «إعلان الاستقلال» أثار بوضوح الحقوق العالمية لكل البشر. وبعد ذلك وضع الأمريكيون تقليدهم الحصري الخاص في دستور عام ١٧٨٧ وفي وثيقة الحقوق لعام ١٧٩١. وعلى النقيض، اعتنق الفرنسيون على الفور تقريبًا اللغة العمومية للحقوق، ويُعزى هذا في جزء منه إلى أنها تقوض المزاعم الحصرية والتاريخية للحكم الملكي؛ ففي المناقشات التي دارت حول «الإعلان الفرنسي»، حث الدوق ماثيو دي مونتمورنسي زملاءه من النواب على أن يحذوا حذو الولايات المتحدة قائلًا: «لقد ضربوا لنا مثلًا عظيمًا في النصف الجديد من الكرة الأرضية؛ فلنضرب نحن مثلًا للعالم أجمع.»2
قبل أن يعلن الأمريكيون والفرنسيون حقوق الفرد، عاش المؤيدون البارزون للعمومية على هامش القوى العظمى. ولعل هذا التهميش هو نفسه الذي مكن عددًا من المفكرين الهولنديين والألمانيين والسويسريين من أن يكونوا المبادرين في المناداة بعالمية الحقوق. ففي وقت مبكر، نحو عام ١٦٢٥، طرح فقيه كالفيني هولندي اسمه هوجو جروشيوس فكرة أن الحقوق قابلة للتطبيق على كل أفراد الجنس البشري ولا تقتصر على بلد واحد بعينه أو فئة معينة، وقد عرَّف «الحقوق الطبيعية» على أنها شيء مملوك ذاتيًّا ويمكن إدراكه بمعزل عن مشيئة الله، واقترح أيضًا أن الناس بمقدورهم استخدام حقوقهم — بدون مساعدة الدين — لإرساء الأسس التعاقدية للحياة الاجتماعية. وصور تلميذه الألماني صامويل بوفندورف، أول أستاذ جامعي في القانون الطبيعي بجامعة هايدلبيرج، إنجازات جروشيوس في كتابه عن التاريخ العام لتعاليم القانون الطبيعي الذي نُشر عام ١٦٧٨. ومع أن بوفندورف وجه النقد إلى جروشيوس في بعض النقاط، فإنه ساعد على تعزيز سمعة جروشيوس باعتباره مصدرًا أساسيًّا لنمط عالمية الحقوق.3
اعتمد منُظِّرو القانون الطبيعي السويسريون على هذه الأفكار في أوائل القرن الثامن عشر، وكان أكثرهم تأثيرًا جان جاك بورلماكي الذي كان يدرس القانون في جنيف، والذي جمع كتابات القانون الطبيعي المتنوعة في القرن السابع عشر إلى كتاب «مبادئ القانون الطبيعي» (١٧٤٧). على غرار أسلافه، قدم بورلماكي القليل من المحتوى القانوني أو السياسي المحدد إلى فكرة الحقوق الطبيعية العالمية؛ وكان غرضه الأساسي هو إثبات وجودها وانبثاقها عن المنطق والطبيعة الإنسانية. وقد حدَّث المفهوم عن طريق ربطه بما أطلق عليه الفلاسفة الاسكتلنديون المعاصرون «الحس الأخلاقي الداخلي» (ومن ثم تكهن بحجتي في الفصلين الأولين من هذا الكتاب). استُخدم عمل بورلماكي، الذي ما لبث أن تُرجم إلى اللغات الإنجليزية والهولندية، على نطاق واسع كمنهج دراسي لمادة القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر. واتخذ روسو وغيره من بورلماكي نقطة انطلاق.4
عزز عمل بورلماكي نهضة أكثر عمومية للقانون الطبيعي والحقوق الطبيعية في أنحاء غرب أوروبا ومستعمرات أمريكا الشمالية. نشر جان باربيراك، وهو بروتستانتي آخر من مدينة جنيف، ترجمة فرنسية جديدة لعمل جروشيوس الرئيسي في عام ١٧٤٦؛ وكان قد أصدر قبلًا ترجمة فرنسية لأحد أعمال بوفندورف حول القانون الطبيعي. وظهرت سيرة ذاتية لجروشيوس مليئة بالمداهنة كتبها الفرنسي جان ليفسك دي بورجيني في عام ١٧٥٢، وتُرجمت إلى الإنجليزية عام ١٧٥٤. وفي عام ١٧٥٤، نشر توماس رازرفورث محاضراته التي ألقاها في جامعة كامبريدج حول جروشيوس والقانون الطبيعي. من ثم كان جروشيوس، وبوفندورف، وبورلماكي معروفين جميعهم حق المعرفة لدى الثوار الأمريكيين أمثال جيفرسون وماديسون اللذين قرآ في القانون.5
قدم الإنجليز مفكرَيْن مهمَّيْن يناديان بالعالمية في القرن السابع عشر هما توماس هوبز وجون لوك. ذاع صيت أعمالهما في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية، كما ساعد لوك بالأخص في تشكيل الفكر السياسي الأمريكي، فكان تأثيره في الفكر الأمريكي أشد من تأثيره في الآراء الإنجليزية على الأرجح. ويرجع سبب أن هوبز كان أقل تأثيرًا من لوك إلى أن هوبز رأى أن الحقوق الطبيعية لا مفر من أن تخضع إلى سلطة مطلقة كيما تحول دون نشوب «حرب الكل ضد الكل» التي ستقع حتمًا ما لم تكن هناك سلطة كتلك. وفيما عرَّف جروشيوس الحقوق الطبيعية على أنها حق الحياة، والجسد، والحرية، والكرامة (قائمة بدت أنها وضعت العبودية على وجه الخصوص موضع تشكك)، عرفها لوك على أنها حق «الحياة، والحرية، والملكية». ولمَّا أكد لوك على حق المِلكية، فإنه بذلك لم يعترض على العبودية، إنما سوَّغ عبودية الأسرى الذين يُؤخذون في حرب عادلة. بل واقترح لوك سن تشريع لضمان أن: «يتمتع كل رجل حر في ولاية كارولينا بالسلطة والنفوذ المطلقين على عبيده من السود.»6
لكن على الرغم من تأثير هوبز ولوك، فإن كثيرًا من النقاش الإنجليزي حول الحقوق الطبيعية في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ما لم يكن معظمه — ومن ثم النقاش الأمريكي أيضًا — ركز على الحقوق التاريخية المحددة للرجل الإنجليزي المولود حرًّا، وليس على الحقوق القابلة للتطبيق على صعيد عالمي عام. عللت كتابات ويليام بلاكستون في خمسينيات القرن الثامن عشر سبب تركيز أبناء بلده على حقوقهم الخاصة وليس على الحقوق العالمية: «فيما مضى، كانت هذه [الحريات الطبيعية]، سواء المكتسب بالوراثة، أو التي تُنال بالشراء، هي حقوق البشر أجمعين؛ لكن فيما يُحط من قدر هذه الحريات وتُدمر الآن في معظم بلدان العالم الأخرى تقريبًا، يمكن القول إنها تظل حقوقًا لشعب إنجلترا على نحو فريد ومؤكد.» وأكد الفقيه البارز أنه حتى إن كانت الحقوق عالمية في وقت من الأوقات، فوحدهم الإنجليز رفيعو المقام هم من تمكنوا من الحفاظ عليها.7
على أنه منذ ستينيات القرن الثامن عشر فصاعدًا، بدأ عنصر النظرة العالمية للحقوق يتضافر مع عنصر النظرة الحصرية في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية. فعلى سبيل المثال: أكد رجل القانون جيمس أوتيس بمدينة بوسطن في كتيبه «تأكيد حقوق المستعمرات البريطانية وإثباتها» (١٧٦٤)، على كلٍّ من الحقوق الطبيعية للمُستعمَرين («جمعت الطبيعة كل هذه الحقوق في حالة من المساواة والحرية الكاملة»)، وحقوقهم السياسية والمدنية باعتبارهم مواطنين بريطانيين: «كل رعية من الرعايا البريطانيين وُلد في قارة أمريكا، أو في أي مستوطنة أخرى من المستوطنات البريطانية، يحق له بموجب قانون الله والطبيعة، والقانون العام، وقانون البرلمان … التمتع بكافة الحقوق الطبيعية، والأساسية، والمتأصلة، التي لا يجوز المساس بها، والتي يتمتع بها إخواننا المواطنون في بريطانيا العظمى.» مع ذلك، بداية من: «حقوق إخواننا الرعايا» التي نادى بها أوتيس عام ١٧٦٤، تطلب الأمر خطوة عملاقة أخرى لبلوغ «الحقوق الثابتة لكل إنسان» التي نادى بها جيفرسون عام ١٧٧٦.8
زادت قوة النظرة العالمية للحقوق في ستينيات القرن الثامن عشر وفي سبعينيات القرن نفسه بصفة خاصة فيما اتسع الصدع في العلاقات بين مستعمرات أمريكا الشمالية وبريطانيا العظمى. فإن أراد ساكنو المستعمرات إنشاء بلد جديد منفصل، بالطبع ما كانوا يستطيعون أن يعتمدوا فقط على حقوق الإنجليز أحرار المولد؛ وإلا كانوا يرمون إلى الإصلاح وليس الاستقلال. قدمت الحقوق العالمية حجة أفضل، وعليه، بدأت خُطب الانتخابات الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر تستشهد بأعمال بورلماكي بالتحديد دفاعًا عن «حقوق البشر». وظهرت أيضًا اقتباسات لجروشيوس، وبوفندورف، ولوك على وجه الخصوص، وسط أكثر الاقتباسات المتكررة لمؤلفي الكتابات السياسية، وتوافرت كتابات بورلماكي بأعداد كبيرة في المكتبات الخاصة والعامة. وفيما أخذت السلطة البريطانية في الانهيار عام ١٧٧٤، اعتبر سكان المستعمرات أنفسهم في حالة أشبه بالحالة الطبيعية غير المتمدنة التي قرءوا عنها. وكان بورلماكي قد شدد على أن «فكرة الحق، وأشد منها فكرة القانون الطبيعي، مرتبطتان ارتباطًا جليًّا بطبيعة الإنسان. ومن ثم لا بد أن نستدل على مبادئ هذا العلم من «طبيعة» الإنسان هذه نفسها، ومن «تكوينه»، ومن «حالته»». تحدث بورلماكي فقط عن طبيعة الإنسان على وجه العموم، ولم يقصر كلامه على حالة سكان المستعمرات الأمريكيين أو تكوين بريطانيا العظمى، وإنما تحدث عن تكوين البشر عالميًّا وحالتهم. مكن هذا التفكير العالمي سكان المستعمرات من تخيل الانفصال عن العرف وعن السيادة البريطانية.9
وحتى قبل أن يعلن الكونجرس الاستقلال، عقد سكان المستعمرات مؤتمرات بين الولايات كي تحل محل الحكم البريطاني، وأرسلوا مفوضيهم محملين بتعليمات المطالبة بالاستقلال، وبدءوا في صياغة دساتير الولايات التي اشتملت عادة على مذكرات حقوق. وأكد إعلان فيرجينيا للحقوق الصادر في الثاني عشر من يونيو عام ١٧٧٦ أن «كل الناس بحكم الطبيعة أحرار ومستقلون ولهم حقوق أصيلة معينة»، الحقوق التي عُرفت على أنها حقوق «التمتع بالحياة والحرية، عن طريق اكتساب وحيازة الممتلكات، والسعي إلى السعادة والسلامة ونيلهما». والأهم من ذلك أن إعلان فيرجينيا تطرق إلى طرح قائمة من الحقوق المحددة مثل حرية الصحافة وحرية المعتقد الديني؛ ومن ثم ساعد في وضع نموذج ليس فقط لإعلان الاستقلال ولكن أيضًا من أجل «وثيقة الحقوق» النهائية لدستور الولايات المتحدة. وبحلول ربيع عام ١٧٧٦، تحركت عملية إعلان الاستقلال — وإعلان الحقوق العالمية وليس الحقوق البريطانية — بخطى أسرع في الأوساط السياسية.10
هكذا مزجت الأحداث التي وقعت بين عامي ١٧٧٤ و١٧٧٦ مؤقتًا طريقتي التفكير الحصرية والعالمية في مسألة الحقوق في المستعمرات الثائرة. فردًّا على بريطانيا العظمى، نوَّه سكان المستعمرات إلى حقوقهم الموجودة بالفعل بصفتهم رعايا بريطانيين، وفي الوقت نفسه طالبوا بأحقيتهم في الحق العالمي، بأن يكون لهم حكومة تكفل لهم حقوقهم الثابتة بصفتهم أشخاصًا متساوين. إلا أنه لمَّا كانت المطالبة بالنوع الثاني من الحقوق تُبطل في الواقع حقوقهم الأولى، فعندما تحرك الأمريكيون بخطى أكثر حسمًا نحو الاستقلال، شعروا بضرورة إعلان حقوقهم كجزء من عمليه الانتقال من الحالة الطبيعية غير المتمدنة والعودة إلى الحكومة المدنية؛ أو الانتقال من حالة الخضوع للملك جورج الثالث إلى كيان سياسي جمهوري جديد. ولم يكن ممكنًا إعلان الحقوق العالمية في المستعمرات الأمريكية دون اندلاع الثورة التي أوجدتها مقاومة السلطة البريطانية. ومع أنه لم يكن هناك إجماع على أهمية إعلان الحقوق ولا على نص الحقوق التي ينبغي الإعلان عنها، فإن الاستقلال فتح الباب إلى إعلان الحقوق.11
حتى في بريطانيا العظمى، بدأت فكرة أكثر عمومية عن الحقوق تزحف إلى الخطب في ستينيات القرن الثامن عشر. كان الحديث عن الحقوق قد خمد مع استعادة الاستقرار بعد ثورة عام ١٦٨٨ التي أنتجت «مذكرة الحقوق». وفي بريطانيا تراجع عدد الكتب التي ورد في عناوينها ذكر للفظة «الحقوق» تراجعًا متزايدًا منذ أوائل العقد الأول من القرن الثامن عشر وحتى خمسينيات نفس القرن. ولمَّا اشتد النقاش العالمي حول القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، بدأت ترتفع أعداد الكتب من جديد في ستينيات القرن الثامن عشر، وبدأت في الازدياد منذ ذلك الحين. ففي كتيب طويل ظهر عام ١٧٦٨ يندد بالمحسوبية الأرستقراطية في توزيع المناصب الدينية في كنيسة اسكتلندا، نادى المؤلف بكل من «الحقوق الطبيعية للبشرية»، و«الحقوق الطبيعية والمدنية للبريطانيين الأحرار». وبالمثل، أكد الواعظ الأنجليكاني ويليام دود أن الممارسات الدينية للكنيسة الكاثوليكية «تعارضت مع الحقوق الطبيعية للأشخاص عمومًا وللإنجليز بصفة خاصةً». واستخدم المعارض السياسي جون ويلكس عبارة «حقوقكم المكتسبة كرجال إنجليز» دائمًا عند عرض حجته في ستينيات القرن الثامن عشر. وفي «خطابات جونيوس»، وهي خطابات مجهولة الكاتب نُشرت ضد الحكومة البريطانية في أواخر ستينيات القرن الثامن عشر وأوائل سبعينيات القرن نفسه، استُخدمت أيضًا لغة «حقوق الشعب» للإشارة إلى الحقوق في ظل الأعراف والقوانين الإنجليزية.12
أبرزت الحرب بين سكان المستعمرات والتاج البريطاني الصفة العالمية إلى الضوء على نحو أكثر اكتمالًا في بريطانيا نفسها. فقد اقتبس مقال صدر عام ١٧٧٦ موقَّعًا بالأحرف «إم دي» عن بلاكستون قوله ما معناه أن سكان المستعمرات «لا يستخدمون من القوانين الإنجليزية سوى القدر المناسب تطبيقه في موقفهم»؛ لذا، إذا انتهكت «البدع» الإجرائية «حقوقهم الأصلية باعتبارهم [إنجليزًا] أحرارًا»، فإن القيد الحكومي ينكسر، ويمكن أن نتوقع منهم أن يمارسوا «حقوقهم الطبيعية». جعل ريتشارد برايس مسألة الاحتكام إلى عالمية الحقوق واضحة جلية في كتيبه عظيم الأثر الصادر عام ١٧٧٦ «ملاحظات على طبيعة الحرية المدنية، ومبادئ الحكومة، والعدل وسياسة الحرب مع أمريكا». ظهر ما لا يقل عن خمس عشرة طبعة من الكتيب في لندن عام ١٧٧٦، وأُعيد طبعه في نفس العام في كل من دابلن، وإدنبرة، وتشارلستون، ونيويورك، وفيلادلفيا. أرسى برايس دعمه لسكان المستعمرات على «المبادئ العامة للحرية المدنية»، أي: «ما يبيحه العقل والمساواة وحقوق البشرية»، وليس ما تمنُّ به سوابق قانونية أو لوائح تشريعية أو مواثيق (وكان هذا هو عرف الحرية الإنجليزية في الماضي). وتُرجم كتيب برايس إلى الفرنسية، والألمانية، والهولندية. وكتب المترجم الهولندي، جوان ديرك فان دير كابلين توت دين بول، إلى برايس في ديسمبر عام ١٧٧٧ يخبره بدعمه الشخصي للقضية الأمريكية في خطاب طُبع فيما بعد وجرى تداوله على نطاق واسع: «أرى الأمريكيين رجالًا شجعانًا يدافعون بطريقة معتدلة، وشجاعة، وجديرة بالثناء عن حقوقهم، بصفتهم بشرًا، التي لم تمنحها إياهم السلطة التشريعية الإنجليزية وإنما وهبهم الله نفسه إياها.»13
أثار كتيب برايس بلبلة عظيمة في بريطانيا. وما لبث أن ظهر نحو ثلاثين كتيبًا ردًّا على كتيبه تتهمه بالوطنية الزائفة، وإثارة الانشقاق، وقتل الأصول، والتحريض على الفوضى، والتحريض على الفتنة، بل والخيانة. وضع كتيب برايس «الحقوق الطبيعية للبشرية»، و«حقوق الطبيعة البشرية»، ولا سيما «الحقوق الثابتة للطبيعة البشرية» على أجندة قارة أوروبا. كان التساؤل المهم، كما قال أحد المؤلفين بوضوح هو: «هل توجد حقوق أصيلة في الطبيعة البشرية، وثيقة الارتباط بالإرادة، ولا سبيل إلى المساس بها؟» وادعى هذا المناوئ أنه من السفسطة الادعاء أن «حقوقًا معينة للطبيعة البشرية هي التي تعد ثابتة». ولا بد من التخلي عن تلك الحقوق — فعلى المرء أن «يتنازل بمحض إرادته عن توجيه ذاته» — كيما يتسنى دخول حالة المدنية. وتُظهِر المجادلات العنيفة أن معنى الحقوق الطبيعية، والحرية المدنية، والديمقراطية شغل عقول كثيرين من أفضل الساسة البريطانيين الذين قتلوه بحثًا.14
يذكرنا الفارق بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية الذي أثاره معارضو برايس بأن التعبير عن الحقوق الطبيعية أنشأ عرفًا مضادًا استمر إلى يومنا هذا. وعلى غرار الحقوق الطبيعية، التي نمت في معارضة الحكومات التي رآها الناس حكومات مستبدة، كان العرف المضاد تفاعليًّا أيضًا، مما يؤكد أن الحقوق الطبيعية مصطنعة أو لا يمكن أن تكون ثابتة (ومن ثم هي غير وثيقة الصلة بالموضوع). وكان هوبز قد أكد بالفعل في منتصف القرن السابع عشر أن الحقوق الطبيعية كان لا بد من هجرها (ومن ثم فهي غير ثابتة) حتى يمكن تأسيس مجتمع مدني منضبط. دحض روبرت فيلمر، المؤيد الإنجليزي للسلطة الأبوية، حجة جروشيوس صراحةً في عام ١٦٧٩، واعتبر أن «الحرية الطبيعية» «سخافة». وفي كتابه «بطريركا» (١٦٨٠)، عارض مرة أخرى فكرتي المساواة والحرية الطبيعيتين للبشرية، مؤكدًا أن جميع الناس وُلدوا خاضعين لأبويهم؛ فمن وجهة نظر فيلمر، تأصل الحق الطبيعي الوحيد في السلطة الملكية التي تنبثق من النموذج الأصلي للسلطة الأبوية وخُتم عليه في الوصايا العشر.‎15

كان الرأي الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل من نصيب جيرمي بنتام الذي أكد أن القانون الوضعي (الفعلي وليس المثالي أو الطبيعي) وحده هو الذي يهم. كتب بنتام في عام ١٧٧٥ — قبل أن يشتهر بأنه رائد «النفعية» بوقت طويل — مقالًا نقديًّا حول مجلد بلاكستون بعنوان «تعليقات على قوانين إنجلترا»، أعرب فيه عن رفضه لمفهوم «القانون الطبيعي» قائلًا: «لا توجد أي «وصايا»، أي شيء «يتعين» على الإنسان بموجبه أن يقوم بأي من الأفعال التي يُزعم أن قانون الطبيعة الزائف يسمح بالتمتع بها. إذا علم أي إنسان بشأن أي منها فليطرحه أمامنا. وإذا كانت قابلة للطرح، فلا حاجة بنا إذن إلى أن نجهد أنفسنا في محاولة «اكتشافها»، كما يزعم مؤلفنا [بلاكستون] بعد ذلك بقليل بأنه يجب علينا اكتشافها، بالاستعانة بالعقل والمنطق.»

اعترض بنتام على فكرة أن القانون الطبيعي أصيل في الإنسان وقابل للاكتشاف بواسطة العقل. وبذا رفض في المقام الأول عُرف القانون الطبيعي برمته، ومن ثم الحقوق الطبيعية معه أيضًا. إن مبدأ النفعية (السعادة القصوى لأكبر عدد ممكن من البشر، وهي فكرة اقتبسها من بيكاريا)، الذي سيناقشه فيما بعد، كان بمنزلة أفضل معيار للصواب والخطأ. وحدها الإحصاءات التي عمادها الحقائق وليس الآراء التي عمادها المنطق هي التي يمكن أن تضع أساسًا يقوم عليه القانون. وفي ضوء هذا الرأي، فإن رفضه اللاحق للإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لن يدهشنا بنفس القدر. ففي كتيب يستعرض فيه بنتام كل مادة من مواد الإعلان الفرنسي على حدة، أنكر إنكارًا قاطعًا وجود الحقوق الطبيعية فقال: «الحقوق الطبيعية هي مجرد هراء: الحقوق الطبيعية التي لا يجوز المساس بها، هراء منمق، وجعجعة فارغة.»16
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للحقوق، انتشر الحديث عنها واكتسبت زخمًا كبيرًا بعد ستينيات القرن الثامن عشر. وباتت «الحقوق الطبيعية» التي تممتها الآن «حقوق البشرية»، و«حقوق الإنسانية»، «وحقوق الفرد»، مقبولة لدى الجميع. ولمَّا عززت الصراعات الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر الفرصة السياسية لحديث الحقوق تعزيزًا شديدًا، فإن الحديث عن الحقوق العالمية انتقل عبر الأطلنطي شطر بريطانيا العظمى، والجمهورية الهولندية، وفرنسا. ففي عام ١٧٦٨ — على سبيل المثال — قدم الاقتصادي الفرنسي المنادي بالإصلاح، بيير صامويل دو بون دي نيمور، تعريفه الخاص ﻟ «حقوق كل إنسان»، واشتملت قائمته على حرية اختيار المهنة، والتجارة الحرة، والتعليم العام، والضرائب النسبية. وفي عام ١٧٧٦، تطوع دو بون للذهاب إلى المستعمرات الأمريكية وإعداد تقرير للحكومة الفرنسية حول الأحداث هناك (وهو عرض لم يخرج إلى حيز التنفيذ). وفيما بعد صار دو بون صديقًا مقربًا إلى جيفرسون، وفي عام ١٧٨٩ انُتخب نائبًا عن «طبقة العوام».17
وبالرغم من أن «إعلان الاستقلال» ربما لم يكن «منسيًّا تقريبًا» كما صرحت بولين ماير مؤخرًا، فإن التعبير الاصطلاحي العالمي للحقوق عاد إلى موطنه في أوروبا بعد عام ١٧٧٦. بدأت حكومات الولايات الجديدة في الولايات المتحدة تبنِّي وثائق حقوق منفردة في وقت مبكر نحو عام ١٧٧٦، غير أن «مواد الاتحاد الفيدرالي» التي صدرت عام ١٧٧٧ لم تشتمل على أي وثائق حقوق، كما أُقر دستور عام ١٧٨٧ دون وثيقة للحقوق. ولم تظهر وثيقة الحقوق الخاصة بالولايات المتحدة إلى حيز الوجود إلا مع التصديق على التعديلات العشرة الأولى التي أُدخلت على الدستور في عام ١٧٩١، وكانت وثيقة تميزت بالاقتصار الشديد على فئة بعينها: فقد قامت على حماية المواطنين الأمريكيين ضد انتهاكات حكومتهم الفيدرالية. وبالمقارنة، نجد أن «إعلان الاستقلال الأمريكي» و«إعلان فيرجينيا للحقوق» الصادرَيْن في عام ١٧٧٦ قد نصا على حقوق أكثر عمومية. وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، تراجعت أهمية الحقوق في أمريكا أمام الانشغال ببناء إطار عمل قومي مؤسسي جديد. ونتيجة لذلك، تقدم «الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» الصادر عام ١٧٨٩ على وثيقة الحقوق الأمريكية، وما لبث أن حاز اهتمامًا دوليًّا.18

إعلان الحقوق في فرنسا

على الرغم من التحول الأمريكي عن عالمية الحقوق في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فإن «حقوق الفرد» نالت دعمًا هائلًا بفضل المثل الذي ضربه الأمريكيون. وبدون ذلك المثل، في حقيقة الأمر، لربما انهار تطور حقوق الإنسان تمامًا. بعد أن أطلق روسو شرارة الاهتمام الواسع ﺑ «حقوق الفرد» في أوائل ستينيات القرن الثامن عشر، تراجع هو نفسه عن شغفه الشديد بها؛ ففي خطاب مطول كتبه عام ١٧٦٩ حول قناعاته الدينية، تبرم روسو من الاستخدام المفرط لتلك «اللفظة الجميلة: «الإنسانية»». إن السفسطائيين الدنيويين، «أقل الناس إنسانية»، يستخدمونها كثيرًا حتى إنها «تصير بلا مذاق، بل وسخيفة». وأكد روسو على أن الإنسانية لا بد أن تُطبع في الأفئدة، وليس فقط على صفحات الكتب. ولم يحيا روسو، مبتكر عبارة «حقوق الفرد»، ليرى الأثر الكامل للاستقلال الأمريكي؛ فقد مات في عام ١٧٧٨، وهو العام الذي انحازت فيه فرنسا إلى الجانب الأمريكي ضد بريطانيا العظمى. وعلى الرغم من أن روسو كان يعرف بنجامين فرانكلين — الذي ذاع صيته في فرنسا منذ وصوله بصفته وزير المستعمرات المتمردة في عام ١٧٧٦ — وعلى الرغم من دفاعه في إحدى المناسبات عن حق الأمريكيين في حماية حرياتهم حتى وإن كانوا أشخاصًا «مجهولين أو غير معروفين»، فإنه لم يظهر اهتمامًا كبيرًا بالشئون الأمريكية.19
استمرت الإشارات المتكررة إلى الإنسانية وحقوق الفرد بالرغم من ازدراء روسو، لكن كان يمكن حقًّا أن تصبح عقيمة ما لم تشحذها الأحداث في أمريكا؛ ففي الفترة بين عامي ١٧٧٦ و١٧٨٣، قدمت تسع ترجمات فرنسية مختلفة لإعلان الاستقلال وخمس ترجمات على الأقل لدساتير دول مختلفة ووثائق الحقوق المتنوعة تطبيقات محددة لمذاهب الحقوق وساعدت في بلورة الحس بأن الحكومة الفرنسية أيضًا يمكن بناؤها على أسس جديدة. ومع أن بعض المصلحين الفرنسيين كانوا ميالين لنظام الحكم الملكي الدستوري على النمط الإنجليزي، وأن كوندرسيه — على سبيل المثال — أعرب عن إحباطه من «الروح الأرستقراطية» التي تشوب دستور الولايات المتحدة الجديد، فإن كثيرين تحمسوا بشدة للقدرة الأمريكية على التخلص من الرزوح تحت نير الماضي وتأسيس حكومة مستقلة.20
أصبحت السابقة الأمريكية أكثر إلحاحًا من ذي قبل فيما دخل الفرنسيون حالة طوارئ دستورية. ففي عام ١٧٨٨ — حينما واجهت فرنسا الإفلاس الذي كان يرجع بدرجة كبيرة إلى مشاركتها في «حرب الاستقلال الأمريكية» — وافق الملك لويس السادس عشر على أن يدعو إلى عقد «مجلس طبقات الأمة»، الذي كان قد اجتمع للمرة الأخيرة في عام ١٦١٤. وفيما بدأت انتخابات النواب، كان يمكن سماع دمدمة الإعلانات بالفعل. وفي يناير من عام ١٧٨٩، أعد لافاييت، صديق جيفرسون، مسودة إعلان، وفي الأسابيع التي تلت ذلك صاغ كوندرسيه مسودته في هدوء. وكان الملك قد طلب من رجال الإكليروس (الطبقة الأولى)، ومن النبلاء (الطبقة الثانية)، ومن الناس العاديين (الطبقة الثالثة) لا أن ينتخبوا النواب فحسب، وإنما أيضًا أن يعدوا قوائم بمظالمهم. وأشار عدد من القوائم التي أُعدت في الأشهر فبراير ومارس وأبريل من عام ١٧٨٩ إلى «حقوق الإنسان الثابتة»، أو «حقوق الفرد الحر التي لا يمكن المساس بها»، أو «حقوق وكرامة الإنسان والمواطن» أو «حقوق الإنسان الحر المستنير الفكر»، على أن السيادة كانت من نصيب «حقوق الإنسان». كانت لغة الحقوق تنتشر انتشارًا سريعًا في جو الأزمة المتفاقمة.‎21
طالب عدد محدود من القوائم — كانت غالبًا قوائم طبقة النبلاء وليس طبقتي رجال الإكليروس والعوام — صراحةً بصياغة إعلان للحقوق (وكانت غالبًا هي نفس القوائم التي طالبت أيضًا بكتابة دستور جديد). فعلى سبيل المثال: طالب نبلاء منطقة بيزيرز الواقعة جنوب فرنسا بأن «تأخذ الجمعية العمومية على عاتقها مهمة دراسة إعلان حقوق الإنسان والمواطن وصياغته، وإعلانه، باعتباره مهمتها الحقيقية». أما قائمة المظالم التي حررتها «طبقة العوام» من خارج باريس فقد كان عنوان الجزء الثاني منها هو «إعلان حقوق»، وجاءت فيه قائمة بتلك الحقوق. وفي الواقع، طالبت كافة القوائم بحقوق محددة بشكل أو آخر: مثلًا حرية الصحافة، حرية الدين في حالات محدودة، المساواة في فرض الضرائب، المساواة في المعاملة أمام القانون، الحماية من الاعتقال التعسفي، وما شابه.22
حضر النواب بقوائم المظالم التي أعدوها إلى الافتتاح الرسمي ﻟ «مجلس طبقات الأمة» في الخامس من مايو عام ١٧٨٩. وبعد مرور أسابيع من النقاش العقيم حول الإجراءات، أعلن نواب «الطبقة الثالثة» أنفسهم، من جانب واحد، أعضاء «الجمعية التأسيسية الوطنية» في السابع عشر من يونيو؛ زعموا أنهم يمثلون الأمة بأسرها، وليس مجرد «طبقة». وما لبث أن انضم إليهم العديد من رجال الإكليروس، وسرعان ما وجد النبلاء أنفسهم أمام خيار من اثنين هما تركهم أو الانضمام إليهم. وفي التاسع عشر من يونيو، وفي قلب هذه النزاعات، طالب أحد النواب أن تباشر الجمعية الجديدة في الحال «المهمة العظيمة المتعلقة بإعلان الحقوق»، التي أكد على أن الناخبين فوضوها لهم؛ ومع أن هذه الفكرة لم تكن مطلبًا عموميًّا شاملًا بأي حال، فقد انتشرت وشغلت عقول الجميع بلا أدنى شك. وعُينت لجنة وضع الدستور في السادس من يوليو، وفي التاسع من نفس الشهر، أنبأت اللجنة «الجمعية التأسيسية الوطنية» أنها سوف تبدأ ﺑ «إعلان حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»، الذي وُضع في ملخص الجلسة تحت اسم «إعلان حقوق الإنسان».23
كتب توماس جيفرسون، الذي كان في باريس حينها، إلى توماس بين في إنجلترا في الحادي عشر من يوليو يخبره بالحكاية المثيرة للأحداث الجارية. وكان توماس بين هو مؤلف كتيب «المنطق السليم» (١٧٧٦)، وهو الكتيب المنفرد الأعظم أثرًا على حركة الاستقلال الأمريكية. ووفقًا لما رواه جيفرسون: «أطاح نواب الجمعية التأسيسية الوطنية بالحكومة القديمة، وهم يشرعون الآن في تشكيل حكومة من البداية.» وذكر جيفرسون أنهم اعتبروا أن أول مهمة هي صياغة «إعلان لحقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»؛ وهي نفس المصطلحات التي استخدمتها لجنة صياغة الدستور. وتشاور جيفرسون عن كثب مع لافاييت، الذي قرأ مسودته المقترحة للإعلان على مسامع الجمعية في نفس هذا اليوم. وسارع العديد من النواب البارزين الآخرين إلى طباعة مقترحاتهم. وتنوعت المصطلحات ما بين «حقوق الإنسان في المجتمع»، و«حقوق المواطن الفرنسي»، أو مجرد لفظة «الحقوق»، لكن غلب مصطلح «حقوق الفرد» على العناوين.24

وفي الرابع عشر من يوليو، أي بعد ثلاثة أيام من خطاب جيفرسون إلى توماس بين، تسلحت جموع في باريس وهاجمت سجن الباستيل ورموز أخرى من رموز السلطة الملكية، وكان الملك قد أمر بانتقال آلاف الجنود إلى باريس، مما أثار خوف النواب من نشوب انقلاب عسكري مضاد للثورة. وسحب الملك جنوده، غير أن مسألة الإعلان ظلت عالقة. وفي أواخر يوليو وأوائل أغسطس، كان النواب لا يزالون يتجادلون حول مسألة هل هم في حاجة إلى إعلان؟ وهل ينبغي أن يتقدم الإعلان على الدستور؟ وهل لا بد أن يصاحبه إعلان عن واجبات المواطنين؟ عكس الانقسام حول ضرورة صياغة إعلان خلافات عميقة في سياق الأحداث. فإذا كان كل ما تحتاجه السلطة الملكية هو مجرد إصلاحات بسيطة، فلا توجد ضرورة إذن لإعلان «حقوق الإنسان». وعلى النقيض، فمن وجهة نظر أولئك الذين اتفقوا مع جيفرسون في تحليله بأنه لا مفر من إعادة بناء الحكومة من البداية، كان إعلان الحقوق ضروريًّا.

أخيرًا صوتت الجمعية في الرابع من أغسطس من أجل تحرير إعلان للحقوق لا يشتمل على الواجبات. ولم يستطع أحد حينها أو منذ ذلك الحين أن يعلل تعليلًا وافيًا كيف مال الرأي أخيرًا لصالح صياغة مثل ذلك الإعلان، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى أن النواب كانوا منهمكين للغاية في مجابهة القضايا التي تظهر يوميًّا، حتى إنهم لم يعوا المغزى الأكبر لكل قرار يتخذونه. وكنتيجة لذلك، ثبت أن خطاباتهم، بل وحتى مذكراتهم اللاحقة غامضة بشدة فيما يتعلق بالتحول في الآراء. ونحن على يقين من أن الأغلبية بدأت تؤمن بضرورة وضع أسس جديدة بالكامل. وقدمت حقوق الإنسان مبادئ رؤية بديلة للحكومة. وكما فعل الأمريكيون قبلهم، أعلن الفرنسيون الحقوق باعتبارها جزءًا من التمادي في قطع العلاقات مع السلطة الموجودة. وقد علق النائب رباءوت سانت إتيان على هذا التشابه في الثامن عشر من أغسطس قائلًا: «مثل الأمريكيين، نريد أن نعيد بناء أنفسنا من جديد، لهذا يعد إعلان الحقوق غاية في الأهمية.»25

اشتد النقاش في منتصف أغسطس، حتى في نفس الوقت الذي سخر فيه بعض النواب صراحة من «النقاش الميتافيزيقي». ولمَّا وجدت الجمعية التأسيسية الوطنية نفسها أمام مجموعة من البدائل المحيرة، اختارت أن تنظر في وثيقة ترضي الجميع حررتها لجنة فرعية مكونة من أربعين عضوًا مجهولين إلى حد كبير. وفي وسط الريبة والتوتر بشأن المستقبل، انخرط النواب طوال ستة أيام في نقاش محتدم (من ٢٠ إلى ٢٤ أغسطس، و٢٦ أغسطس). واتفق النواب على سبع عشرة مادة خضعت للتعديل من إجمالي أربع وعشرين مادة مقترحة (في الولايات المتحدة صدقت الولايات الفردية على عشرة تعديلات فحسب من الاثني عشر تعديلًا الأولى المقترحة من أجل الدستور). ولمَّا أنهكت مناقشة المواد وتعديلاتها أعضاء الجمعية، صوتوا في السابع والعشرين من أغسطس لإرجاء أي مناقشات أخرى إلى ما بعد تحرير دستور جديد. ولم يعيدوا فتح باب النقاش في هذا الأمر بتاتًا. وبهذه الطريقة غير المباشرة بعض الشيء، أخذ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» شكله النهائي. (انظر الملحق للاطلاع على النص الكامل للإعلان.)

أعلن النواب الفرنسيون أن جميع الناس، وليس فقط الشعب الفرنسي، «يولدون ويعيشون أحرارًا متساوين في الحقوق» (المادة الأولى). ومن بين «حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة، الثابتة غير القابلة للخلع»، حق الحرية وحق والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد (المادة الثانية). وكان هذا يعني عمليًّا أن وضع أي قيود على الحقوق لا بد أن يكون قائمًا على أساس قانوني (المادة الرابعة). «جميع المواطنين» لهم الحق في الاشتراك في وضع القانون، الذي ينبغي أن يكون الجميع متساوين أمامه (المادة السادسة)، وحق قبول الضرائب (المادة الرابعة عشرة)، التي ينبغي أن توزع بالتساوي طبقًا للقدرة على الدفع (المادة الثالثة عشرة). وبالإضافة إلى ذلك، حظر الإعلان الاعتقالات التعسفية (المادة السابعة)، والعقوبات غير الضرورية (المادة الثامنة)، والافتراض القانوني بالإدانة (المادة التاسعة)، ونزع الحكومة للممتلكات نزعًا غير مبرر (المادة السابعة عشرة). وبأسلوب غامض إلى حد ما، أكد الإعلان على أنه «لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من أفكار حتى في المسائل الدينية» (المادة العاشرة)، في حين أنه يشدد بلهجة أكثر قوة على حرية الصحافة في (المادة الحادية عشرة).

هكذا حاول النواب الفرنسيون أن يلخصوا في وثيقة واحدة كلًّا من الحمايات القانونية لحقوق الأفراد والأسس الجديدة لشرعية الحكومة. ودانت السيادة حصريًّا للأمة (المادة الثالثة)، وبات المجتمع منوطًا به أن يحاسب كل موظف عمومي (المادة الخامسة عشرة). ولم يأتِ الإعلان على ذكر الملك، أو التقاليد الفرنسية، أو التاريخ، أو العرف، أو الكنيسة الكاثوليكية. وأُعلنت الحقوق وفقًا للنص: «أمام الكيان الأسمى (الله) وتحت رعايته»، لكن، مع أن هذه الحقوق «مقدسة»، فإنها لم تُعزَ إلى هذا المُنشئ الأعظم (الله). عندما سطر جيفرسون إعلانه شعر بضرورة التأكيد على أن جميع الناس «قد حباهم باريهم» بالحقوق؛ في حين أن الفرنسيين استدلوا على الحقوق من مصادر علمانية بالكامل هي الطبيعة والمنطق والمجتمع. وفي أثناء المناقشات، كان ماثيو دي مونتمورنسي قد أكد على أن «حقوق الإنسان في المجتمع أبدية» وأنه «لا حاجة إلى إقرار رسمي لإدراكها». وما من اعتراض على النظام القديم السائد في أوروبا أكثر صراحة من هذا.26
لم تَخصَّ أي من مواد الإعلان بالذكر حقوقَ جماعات بعينها، فعكسُ كلمات «الناس»، و«الإنسان»، و«كل إنسان»، و«جميع المواطنين»، و«كل مواطن»، و«المجتمع»، و«أي مجتمع» هو كلمات «لا أحد»، و«لا شخص»، و«لا إنسان»؛ فكان معناها الحرفي إما الجميع أو لا شيء. ولم يكن هناك ذكر للطبقات، والأديان، والأجناس في الإعلان. ومع أن غياب التخصيص ما لبث أن خلق المشكلات، فلا ينبغي أن تكون عمومية التأكيدات مثارًا للدهشة؛ إذ كانت لجنة صياغة الدستور قد باشرت في الأصل إعداد ما يصل إلى أربع وثائق مختلفة حول الحقوق: (١) إعلان حقوق الإنسان. (٢) إعلان حقوق الأمة. (٣) إعلان حقوق الملك. (٤) إعلان حقوق المواطن في ظل الحكومة الفرنسية. وقد مزجت الوثيقة التي تبنوها الإعلان الأول والثاني والرابع من دون وضع تعريف محدد لأهليات المواطنة. وقبل أن يخوض النواب في التفاصيل (بشأن حقوق الملك أو أهليات المواطنة)، سعوا أولًا إلى وضع مبادئ عامة للحكومة بأكملها. وفي هذا الصدد، تعد المادة الثانية مثالية: «غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعية التي للإنسان والتي لا يجوز مسها.» ابتغى النواب وضع الأساس لكل اجتماع سياسي؛ ليس للنظام الملكي، أو الحكومة الفرنسية، وإنما لكل اجتماع سياسي. ولسوف يضطرون إلى اللجوء إلى الحكومة الفرنسية عما قريب.27

لم يحلَّ الإعلان كافة القضايا؛ وإنما في حقيقة الأمر عجل بضرورة النظر في بعض القضايا — كحقوق غير ذوي الممتلكات أو الأقليات الدينية على سبيل المثال — وأثار قضايا جديدة حول بعض الجماعات، مثل الرقيق والمرأة، التي لم تنعم بأي وضع سياسي فيما مضى (سنتناول هذا الموضوع في الفصل التالي). ولعل أولئك المعارضين للإعلان كانوا قد استشعروا أن الإعلان في حد ذاته سيكون له تأثير محفز. فعملية الإعلان فعلت ما هو أكثر من مجرد توضيح الحقوق؛ فمن خلال الإعلان، امتلك النواب زمام السلطة. ونتيجة لذلك، أفسح الإعلان مجالًا لنقاش سياسي لم يكن من الممكن تخيله من قبل: فإذا كانت الأمة هي مصدر السلطة، فما دور الملك، ومَن أفضل من يمثل الأمة؟ وإذا كانت الحقوق هي عماد الشرعية، فما الذي يسوغ اقتصارها على أشخاص في سن معينة أو طبقة اجتماعية محددة أو جنس بعينه أو دين معين أو ثروة ذات قدر معلوم؟ كانت لغة حقوق الإنسان قد ترعرعت بالفعل بعض الوقت وسط الممارسات الثقافية الجديدة لاستقلال الفرد والسلامة البدنية، غير أنها عندئذ جاشت فجأة في وقت التمرد والثورة. ومن ذا يجدر به أن يضبط الآثار المترتبة عليها، أو من عساه يفعل أو حتى يستطيع أن يفعل ذلك؟

وكان لإعلان الحقوق عواقبه خارج فرنسا أيضًا؛ «فإعلان حقوق الإنسان والمواطن» بدَّل لغة كل إنسان تقريبًا بين عشية وضحاها. ويمكن اقتفاء أثر التغيير بوضوح شديد في كتابات وخُطب ريتشارد برايس، الواعظ البريطاني المُنشق الذي أثار الجدل بحديثه عن «حقوق الإنسانية» تأييدًا لسكان المستعمرات الأمريكيين عام ١٧٧٦. وسار كتيبه الذي صدر عام ١٧٨٤ «ملاحظات على أهمية الثورة الأمريكية» على نفس المنوال؛ إذ قارن فيه حركة الاستقلال الأمريكية بانتشار المسيحية، وتنبأ أنها سوف «تُحدث انتشارًا عامًّا لمبادئ الإنسانية» (على الرغم من مسألة العبودية التي أدانها بشدة). في إحدى المواعظ التي ألقاها في نوفمبر عام ١٧٨٩، أقر برايس المصطلحات الفرنسية الجديدة قائلًا: «لقد عشت حتى رأيت حقوق الإنسان تحظى بالقبول أكثر من أي وقت مضى، والأمم تلهث وراء الحرية، التي بدا في وقت من الأوقات وكأنها فقدت معناها … وبعد أن شاركت في جني ثمار ثورة سابقة [الثورة الإنجليزية عام ١٦٨٨]، أبقاني الله لأشهد ثورتين أخريين [الأمريكية والفرنسية] مجيدتين.»28

وبدوره أثار كتيب إدموند بيرك «تأملات في الثورة الفرنسية» (١٧٩٠)، الذي كتبه ردًّا على برايس، جدلًا محمومًا حول حقوق الإنسان في لغات متعددة. أكد بيرك أن «إمبراطورية النور والمنطق الغازية الجديدة» لم يمكنها أن تقدم أساسًا متينًا لحكومة ناجحة، وهي الحكومة التي لا بد أن تقوم على أساس راسخ من التقاليد العريقة للأمة. وفي اتهامه للمبادئ الفرنسية الجديدة، خصَّ بيرك إعلان الحقوق باستهجان شديد. فأثارت لهجته ثائرة توماس بين، الذي استغل هذه الفقرة المشينة في رده المتقد بالغضب عام ١٧٩١ «حقوق الإنسان: ردًّا على هجوم السيد بيرك على الثورة الفرنسية».

كتب بين يقول: «أساء السيد بيرك بغضبه المعتاد إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن … في هذا يقول: «قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة.» فهل يقصد السيد بيرك أن ينكر أن للإنسان أي حقوق؟ إن كان يقصد ذلك، فلا بد أنه يعني أنه لا يوجد شيء اسمه الحقوق في أي مكان في العالم، وأنه هو نفسه ليس له أي حقوق؛ لأنه لا أحد في العالم سوى الإنسان؟» ومع أن الردَّ الذي كتبته ماري وولستونكرافت بعنوان «المطالبة بحقوق الرجل، في خطاب موجه إلى جناب المبجل إدموند بيرك؛ ردًّا على كتيبه تأملات في الثورة الفرنسية» ظهر أولًا في عام ١٧٩٠، فإن كتيب توماس بين «حقوق الإنسان» كان له أثر فوري وأكثر إذهالًا، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى أنه استغل هذه الفرصة لينقد كافة أشكال النظام الملكي الوراثي، بما في ذلك النظام الإنجليزي. وقد ظهر عمله في العديد من الطبعات الإنجليزية خلال العام الأول وحده من تاريخ نشره.29
نتيجة لذلك، زاد استخدام لغة الحقوق زيادة مذهلة بعد عام ١٧٨٩. ويمكن رؤية الدليل على هذا الجيشان المذهل بسهولة من خلال عدد عناوين الأعمال الإنجليزية التي حملت لفظة «الحقوق»: فقد تضاعف العدد أربع مرات في تسعينيات القرن الثامن عشر ليصل إلى ٤١٨، مقارنةً بثمانينيات نفس القرن الذي بلغ فيه العدد ٩٥، أو مقارنة بأي من العقود السابقة في القرن الثامن عشر. حدث شيء مماثل في اللغة الهولندية؛ إذ ظهر مصطلح «حقوق الإنسان» باللغة الهولندية للمرة الأولى في عام ١٧٩١ عند ترجمة كتيب بين، وعندئذ توالت استخدامات المصطلح في تسعينيات القرن الثامن عشر، ثم تبعها بعد قليل ظهور مصطلح «حقوق الإنسان» في الأراضي المتكلمة بالألمانية. وعلى نحو ساخر إلى حد ما في ذلك الحين، تسبب جدل عنيف نشب بين كُتَّاب اللغة الإنجليزية في وصول «حقوق الإنسان» الفرنسية إلى أيدي جمهور عالمي. كان الأثر الناتج أعظم مما حدث بعد عام ١٧٧٦؛ لأن الفرنسيين كان يحكمهم النظام الملكي كمعظم البلدان الأوروبية الأخرى، ولم يتخلوا قط عن اللغة العالمية للحقوق. دفعت أيضًا الكتابات المستلهمة من الثورة الفرنسية النقاش الأمريكي للحقوق إلى مستويات أعلى؛ إذ كان أتباع جيفرسون يتحدثون على الدوام عن «حقوق الإنسان»، فيما رفض الفيدراليون اللغة المرتبطة ﺑ «الإفراط الديمقراطي» أو التهديدات للسلطة القائمة. مثل هذه النزاعات ساعدت في نشر لغة حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم الغربي.30

إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية

بعد صدور «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» بستة أسابيع، وحتى قبل أن تُحدد شروط حق التصويت، ألغى النواب الفرنسيون كافة استخدامات التعذيب القضائي كخطوة على طريق الإصلاح المؤقت للإجراءات الجنائية. وفي العاشر من سبتمبر عام ١٧٨٩، قدم مجلس مدينة باريس التماسًا رسميًّا إلى الجمعية الوطنية باسم «المنطق والإنسانية» من أجل إصلاحات قضائية فورية من شأنها «إنقاذ الأبرياء»، و«ضمان أفضل لثبوت أدلة الجريمة كي تصبح الإدانة أكثر تأكيدًا». يرجع سبب تقديم أعضاء مجلس المدينة لهذا الطلب إلى أن «الحرس القومي» الجديد، المنتشر في باريس تحت قيادة لافاييت، قد ألقى القبض على عدد كبير من الأشخاص خلال أسابيع الاضطرابات التي تلت الرابع عشر من يوليو. هل السرية المعتادة للإجراءات القضائية تعزز التلاعب والاحتيال من جانب أعداء الثورة؟ واستجابة لهذا المطلب كلفت الجمعية الوطنية لجنة مكونة من سبعة أعضاء لصياغة أكثر الإصلاحات إلحاحًا، لا من أجل باريس وحدها وإنما من أجل القطر بأكمله. وفي الخامس من أكتوبر، تحت ضغط مسيرة هائلة إلى قصر فرساي، صدَّق أخيرًا الملك لويس السادس عشر تصديقًا رسميًّا على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، وأجبر المتظاهرون الملك وعائلته على الانتقال من قصر فرساي إلى باريس في السادس من أكتوبر. وفي وسط هذه الاهتياجات المتجددة، وبالتحديد في الثامن والتاسع من نفس الشهر، أجازت الجمعية المرسوم الذي اقترحته لجنتها. وفي الوقت عينه، صوت النواب على الانضمام إلى الملك في باريس.31

لم يتناول «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» سوى مبادئ عامة للعدالة: الجميع متساوون أمام القانون، لا يجوز السماح بالسجن التعسفي أو تطبيق العقوبات التعسفية بخلاف «العقاب اللازم الضروري»، وينبغي أن يُعتبر المتهم بريئًا إلى أن تثبت إدانته. بدأ المرسوم الصادر في الثامن والتاسع من أكتوبر عام ١٧٨٩ باستحضار لروح الإعلان: «لمَّا كانت الجمعية الوطنية تأخذ بعين الاعتبار أن واحدًا من الحقوق الأصيلة للإنسان، الذي اعترفت به، هو حق التمتع — عند اتهامه بارتكاب جريمة جنائية — بالحرية والأمان الكاملين في دفاع يتفق مع مصلحة المجتمع الذي يطالب بالعقاب على الجريمة …» وبعدئذ مضى المرسوم في تحديد الإجراءات، التي وُضع معظمها لضمان الشفافية مع العامة. وفي حركة ساعد على ظهورها الارتياب في الهيئة القضائية القائمة، طالب المرسوم بانتخاب مفوضين مخصوصين في كل مقاطعة للمساعدة في كافة القضايا الجنائية، بما في ذلك مراقبة جمع الأدلة والشهادة، مما يكفل إتاحة كافة المعلومات المُجمعة للدفاع وعلانية كافة الإجراءات الجنائية، ومن ثم مزاولة واحد من أثمن مبادئ بيكاريا.

كانت أقصر مادة من مواد المرسوم، التي بلغ عددها ثمان وعشرين مادة، المادة الرابعة والعشرين، وهي أكثرها أهمية فيما يتعلق بمناقشتنا هنا، فهي تنص على إلغاء كافة أشكال التعذيب وأيضًا استخدام «مقعد الخلع» من أجل الاستجواب النهائي للمتهم أمام قضاته. وكان لويس السادس عشر قد منع من قبل «الاستجواب التحضيري»، وهو استخدام التعذيب لانتزاع الاعتراف بارتكاب الجريمة، غير أنه لم يمنع استخدام «الاستجواب التمهيدي»، أي التعذيب لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، منعًا باتًّا وإنما مؤقتًا. وقد ألغت حكومة الملك «مقعد الخلع» في مايو عام ١٧٨٨، لكن لمَّا كان هذا الإجراء حديثًا للغاية، شعر النواب بالحاجة إلى توضيح موقفهم. كان مقعد الخلع وسيلة للإذلال ورمزًا لنوع من الإهانة للكرامة الإنسانية، حتى إن النواب نظروا إليه في ذلك الحين على أنه غير مقبول. وقد أرجأ النائب المنوط به تقديم المرسوم إلى اللجنة نقاشه لهذه الإجراءات حتى النهاية كي يسلط الضوء على دلالتها الرمزية. وقد أكد لزملائه من البداية أنه: «لا يمكنكم أن تتركوا وصمات القانون الحالية التي تسحق آدمية الإنسان؛ يجب أن تجعلوها تختفي على الفور.» ثم كاد يبكي عندما تناول موضوع التعذيب:

أعتقد أنني أدين للإنسانية بأن أقدم لكم ملاحظة أخيرة؛ لقد حظر الملك بالفعل … في فرنسا الممارسات الوحشية التي يندى لها الجبين بغية انتزاع اعتراف بارتكاب الجريمة، باستخدام وسائل التعذيب … غير أنه ترك لكم شرف إتمام هذا العمل العقلاني العادل العظيم. غير أن قانوننا لا يزال يتضمن التعذيب التمهيدي … [أقصى درجات الوحشية الخالصة التي يعجز اللسان عن وصفها] الذي لا يزال يُستخدم لمعرفة أسماء شركاء الجريمة. إذا ثبَّتم أنظاركم على بقايا هذه البربرية أيها السادة، فستجدون تحريمها ينبع من أفئدتكم. سيكون هذا مشهدًا مؤثرًا جميلًا للكون: أن ترى ملكًا وأمةً يلتحمان بعرى المحبة المتبادلة التي لا تنفصم، يباري كل منهما حماسة الآخر من أجل الوصول بالقوانين إلى الكمال، ويحاول أن يمتاز كل منهما على الآخر في رفع أنصاب العدالة والحرية والإنسانية.

في أعقاب إعلان الحقوق، أُلغي التعذيب أخيرًا إلغاءً تامًّا. لم يكن إلغاء التعذيب مُدرجًا في جدول أعمال حكومة مدينة باريس في العاشر من سبتمبر، غير أن النواب لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم عن اغتنام الفرصة المتاحة أمامهم كي يجعلوا من إلغاء التعذيب تاجًا على رأس تعديلهم الأول للقانون الجنائي.32
وعندما حان الوقت لإتمام تعديل قانون العقوبات بعد مرور أكثر من ثمانية عشر شهرًا، أثار النائب المكلف بعرض الإصلاح كافة الأفكار التي باتت مألوفة إبان الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية. اعتلى المنبر لويس-ميشيل لبلتييه دي سان-فارجو، الذي كان في وقت من الأوقات قاضيًا في برلمان باريس، في الثالث والعشرين من مايو عام ١٧٩١ كي يعرض أسباب قرارات اللجنة المختصة بالقانون الجنائي (المتابعة لأعمال لجنة السبع التي كُونت في سبتمبر عام ١٧٨٩). ندد ﺑ «أشكال التعذيب الوحشية المفترض وقوعها في القرون البربرية ومع ذلك ظلت مستخدمة في قرون عصر النهضة»، وبانعدام التناسب بين الجرائم والعقوبات (وهو أحد أهم الأمور التي سخط عليها بيكاريا)، وﺑ «ضراوة القوانين السابقة التي يندى لها الجبين» بوجه عام. والآن سوف تشكل «مبادئ الإنسانية» قانون العقوبات، الذي سيستند في المستقبل إلى إعادة التأهيل من خلال العمل وليس العقاب التكفيري من خلال الألم.33
لكم كانت الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية ناجحة، حتى إن اللجنة قدمت جزءًا مختصًا بالعقوبات قبل الجزء المختص بتعريف الجرائم في قانون العقوبات. تعاني كافة المجتمعات من الجريمة، لكن العقاب يعكس طبيعة الكيان السياسي في الدولة. واقترحت اللجنة عمل إصلاح شامل لنظام العقوبات بغية تجسيد القيم المدنية الجديدة: باسم المساواة، يُحاكم كل فرد في نفس المحاكم بموجب نفس القانون ويُحتمل أن يتلقى نفس العقوبات. ولسوف يكون الحرمان من الحرية هو العقاب الرئيسي، بمعنى أن يحل السجن والأشغال الشاقة محل الإرسال إلى البحر للتجديف في السفن والنفي. فالمواطنون لن يعرفوا شيئًا عن مغزى العقاب إذا أُرسل المجرم بكل بساطة إلى مكان آخر بعيدًا عن المشهد العام. بل إن اللجنة أيدت إلغاء عقوبة الإعدام، باستثناء في حالة التمرد على الدولة، لكنها أدركت أنها سوف تجابه المقاومة في هذه النقطة. وصوَّت النواب من أجل إرجاع عقوبة الإعدام لعدد محدود من الجرائم، مع أنهم استبعدوا كافة الجرائم الدينية مثل الهرطقة، وانتهاك حرمة المقدسات، ومزاولة السحر، (أما اللواط الذي كان عقوبته الإعدام فيما مضى، فلم يعد مُدرجًا بوصفه جريمة.) ولسوف تُنفذ عقوبة الإعدام عن طريق قطع الرأس فحسب، وهي الطريقة التي اقتصرت على النبلاء وحدهم فيما مضى. وبدأ العمل باستخدام المقصلة التي اختُرعت لجعل قطع الرأس بلا ألم قدر المستطاع في أبريل من عام ١٧٩٢. أما الكسر على عجلة السحق، والحرق بالشد إلى الخازوق، «هذان الشكلان من أشكال التعذيب اللذان لازما عقوبة الإعدام»، فكان لا بد أن ينتهيا؛ فكما أكد لبلتييه فإن: «الإنسانية والرأي العام تمقت كافة أشكال الرعب القانونية هذه. فهذه المناظر الوحشية تحط من الأخلاقيات العامة، ولا تليق بقرن من الزمان يتسم بالإنسانية والتنوير.»34

ولمَّا غدت إعادة التأهيل وإدخال المجرم إلى المجتمع من جديد الهدفين الرئيسيين، لم يعد التشويه البدني والوصم محتملين. غير أن لبلتييه تردد بعض الوقت في مسألة الوصم؛ فكيف يمكن للمجتمع أن يصون نفسه من المجرمين المدانين دون أي شكل من أشكال العلامات الثابتة التي تشير إلى وضعهم؟ وخلص إلى أنه يستحيل ألا يلاحظ الناس المتشردين أو المجرمين في ظل النظام الجديد؛ لأن مجالس البلدية ستحتفظ بسجلات دقيقة بأسماء كل سكانها. فوصم أجساد المجرمين إلى الأبد سوف يمنعهم من إعادة الاندماج في المجتمع. وإزاء هذه المسألة — كما الحال أيضًا في مسألة الألم بصفة عامة — اضطر النواب أن يتحسسوا الخطى؛ فالعقاب كان المقصود به أن يكون رادعًا فوريًّا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى إحداث التكيف من جديد بداخل المجتمع. ولا ينبغي أن يكون العقاب مهينًا إلى درجة تحول دون اندماج المدانين في المجتمع مرة أخرى. وعليه، فيما قضى قانون العقوبات بفضح المُدان على الملأ، أحيانًا مكبلًا بالسلاسل، فقد حدَّد هذا الفضح بحرص (ثلاثة أيام على الأكثر) حسب شدة الجريمة.

ابتغى النواب أيضًا محو الصبغة الدينية؛ فألغوا قانون التوبة الرسمي (الإصلاح الجدير بالاحترام)، الذي بموجبه يذهب المُدان، مرتديًا قميصًا فحسب، ويلتف حبل حول عنقه، ويمسك مصباحًا في يده، إلى باب الكنيسة حيث يترجى الغفران من الله، والملك، والعدالة. واقترحت اللجنة بدلًا منه عقابًا أساسه الحقوق يُسمى «التجريد المدني» الذي قد يكون العقاب الوحيد الذي ينزل بالمتهم أو قد يُضاف إلى عقوبة السجن. وقد وضع لبلتييه كافة إجراءاته بالتفصيل: يُقاد المدان إلى مكان عام محدد، حيث يقرأ موظف المحكمة الجنائية هذه الكلمات بصوت مرتفع: «لقد أدانك بلدك بارتكاب فعل مشين، وعليه يجردك القانون والمحكمة من مرتبتك كمواطن فرنسي.» وعندئذ يُطوق عنق المدان حيث يظل مفضوحًا أمام العامة لمدة ساعتين، ويُكتب اسمه وجريمته وقرار الحكم على لافتة تُوضع على صدره. غير أن النساء، والأجانب، وأرباب السوابق مثلوا مشكلة؛ فكيف لهم أن يفقدوا حقوقهم في التصويت أو تقلد منصب وهم لا يملكون مثل هذه الحقوق من الأصل؟ تناولت المادة الثانية والثلاثون هذه النقطة بالتحديد: في حال إصدار حكم ﺑ «التجريد المدني» ضد النساء، أو الأجانب، أو أرباب السوابق سيُحكم عليهم بالطوق الحديدي لمدة ساعتين، ويرتدون لافتة مشابهة لتلك المحكوم على الرجال بارتدائها، على أن موظف المحكمة لن يقرأ العبارة المتعلقة بالتجريد من المرتبة المدنية.35
قد يبدو «التجريد المدني» عبارة عن منظومة من الكلمات، على أنه لم يشِرْ فحسب إلى تغيير مسار قانون العقوبات، وإنما أيضًا إلى النظام السياسي بصفة عامة. فلمَّا صار المدان الآن مواطنًا، وليس رعية، لم يعد من الممكن تعريض المدان أو المدانة (كانت النساء مواطنات «مذعنات») للتعذيب، أو العقوبات القاسية غير الضرورية، أو العقوبات المهينة أكثر من اللازم. وعندما قدم لبلتييه إصلاح قانون العقوبات، فرق بين نوعين من العقوبات: عقوبات بدنية (السجن والإعدام) وعقوبات مُهينة. فمع أن كافة العقوبات تحمل في طياتها عنصري الخزي والإهانة، كما أكد لبلتييه نفسه، فإن النواب أرادوا الحد من استخدام العقوبات المُهينة، وقد أبقوا على الفضح على الملأ والطوق الحديدي، لكن أوقفوا قانون التوبة واستخدام فلقة العقاب وعمود التشهير وجرَّ الجثث على نقالة والتوبيخ القضائي، وإعلان أن القضية ضد المتهم مفتوحة إلى أجل غير مسمى (وعليه يتضمن ذلك القرار بالإدانة). قال لبلتييه: «نقترح أن تتبعوا مبدأ [العقوبات المهينة] لكن لا تكثروا من أشكاله، فبتعدد الأشكال تضعف الفكرة النافعة والمروعة في الوقت نفسه القائلة إن المجتمع والقوانين يلعنون الشخص الذي نجس نفسه بالجريمة.» يمكن تطبيق عقوبة إلحاق الخزي بالمجرم باسم المجتمع والقوانين، ولكن ليس باسم الدين والملك.36

في خطوة أخرى دللت على إصلاح جوهري، قرر النواب أن تُطبق العقوبات المهينة على الفرد المجرم فحسب، وليس على أفراد عائلته، ففي ظل الأشكال التقليدية لعقوبات الإهانة، كان أفراد عائلة المُدانين يجنون العواقب مباشرة؛ فلم يكن أحد منهم يستطيع أن يشغل وظيفة أو يتقلد المناصب العامة، وكانت تُصادر ممتلكاتهم في بعض القضايا، واعتبرهم المجتمع موصومين بالمثل. وفي عام ١٧٨٤، حاز المحامي الشاب بيير لويس لاكريتل جائزة من أكاديمية ميتز عن مقاله الذي نادى فيه بأنه لا ينبغي أن يمتد خزي العقوبات المهينة إلى أفراد عائلة المجرم. وكانت الجائزة الثانية من نصيب محام شاب ذي مستقبل واعد من مدينة أراس يُدعى ماكسميليان روبسبير.

عكس الاهتمام الذي حظت به العقوبات المهينة، تحولًا ضئيلًا لكن عظيم الأثر في مفهوم الشرف: فمع انتشار فكرة حقوق الإنسان، كان الفهم التقليدي للشرف يتعرض للنقد الشديد. كان الشرف هو أهم سمة شخصية في ظل السلطة الملكية؛ فقد أكد مونتسكيو بالفعل في كتابه «روح القوانين» (١٧٤٨) على أن الشرف هو العنصر المحرك في نظام الحكم الملكي. اعتبر كثيرون أن الشرف حكر على أبناء الطبقة الأرستقراطية. وكان روبسبير قد أرجع في مقاله الذي يدور حول العقوبات المهينة فعل إلحاق الإهانة بعائلات بكاملها إلى نقائص في فكرة الشرف نفسها:

إذا تأمل المرء طبيعة هذا الشرف، الخصبة للنزوات والتقلبات، التي تنزع دائمًا إلى الرقة المفرطة، وتبجل عادةً الأشياء من أجل لمعانها وليس من أجل قيمتها الجوهرية، وتبجل الرجال من أجل أدواتهم وألقابهم، التي هي أشياء غير أصيلة فيهم، وليس من أجل خصالهم الشخصية، عندئذ يمكن للمرء أن يفهم بسهولة كيف يمكنه [أي الشرف] أن يزدري أولئك الذين يهتمون لأمر أحد الأوغاد الذين عاقبهم المجتمع.

ومع ذلك استنكر روبسبير أيضًا قصر الإعدام بقطع الرأس (الذي يُظن أنه أكثر شرفًا) على النبلاء وحدهم. هل أراد أن يكون جميع الأشخاص مكرمين على السواء أم أنه يدعو إلى نبذ فكرة الشرف نفسها؟37
غير أنه حتى قبل ثمانينيات القرن الثامن عشر كان مفهوم الشرف يتعرض للتغيير. فكلمة «الشرف» طبقًا لتعريف قاموس الأكاديمية الفرنسية، طبعة عام ١٧٦٢، تعني «الفضيلة والاستقامة»، أما «فيما يخص المرأة، فتشير كلمة الشرف إلى العفة والاحتشام». في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ميزت الاختلافات في الشرف الرجل عن المرأة أكثر من تمييزها للطبقة الأرستقراطية عن طبقة العوام على نحو متزايد؛ فبالنسبة للرجل، بات الشرف مقترنًا بالفضيلة، وهي الخصلة التي ربطها مونتسكيو بالجمهوريات؛ فجميع المواطنين شرفاء إن كانوا أصحاب فضيلة. وفي ضوء هذا الحكم الجديد، اقترن الشرف بالأفعال وليس بالميلاد، وانتقل التمييز بين الرجل والمرأة من مسألة الشرف إلى مسائل المواطنة وأشكال العقوبات. كان شرف المرأة (وعفتها) مسألة خاصة وداخلية؛ فيما كان شرف الرجل مسألة عامة، فمن الممكن أن يُهان الرجل والمرأة على السواء في العقاب، لكن الرجال وحدهم يملكون حقوقًا سياسية يمكن أن يفقدوها. وبات الأرستقراطيون والعوام متساوين الآن في العقاب كما في الحقوق؛ لكن الرجل والمرأة غير متساوين.38
ولم يمر التغير في مفهوم الشرف دون ملاحظة واهتمام؛ ففي عام ١٧٩٤، هجا الكاتب سيباستيان روش نيكولاس تشامفورت، أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية الراقية، هذا التغير قائلًا:

من الحقائق المسلم بها أن قرننا هذا وضع الكلمات في نصابها الصحيح؛ فبتخلصه من الترجمات اللاهوتية، والجدلية، والميتافيزيقية، عادت الكلمات إلى بساطة وواقعية الفيزياء والأخلاق والسياسة. وبالحديث عن الأخلاق وحدها، يستشعر المرء كم أن لفظة «الشرف» هذه تجمع أفكارًا معقدة وميتافيزيقية. واستشعر قرننا عيوب هذه الأفكار، ولكي يُعيد كل شيء مرة أخرى إلى بساطته، ويحول دون أي إساءة في استخدام الكلمات، أثبت أن الشرف يظل جزءًا من أي رجل لم يسبق له أن أُدين قط بارتكاب جريمة. في الماضي كانت هذه اللفظة مصدرًا للمراوغات والخصومات؛ أما في الحاضر، فلا شيء أوضح منها. هل وُضع الرجل في الطوق الحديدي أم لا؟ هذا هو السؤال المُحدِّد. فهو سؤال بسيط لحقيقة يمكن أن تجيب عنها بسهولة سجلات موظفي المحكمة. والرجل الذي لم يُوضع في الطوق الحديدي هو رجل شريف يمكنه أن يطالب بحقه في أي شيء، في وظيفة في الوزارة، وما إلى ذلك، ويمكنه أن يملك حق الدخول إلى الهيئات المهنية والأكاديميات والمحاكم ذات السيادة. يستشعر المرء إلى أي مدى يمكن للوضوح والدقة أن ينقذانا من النزاعات والجدالات، وكيف أن العلاقات الاجتماعية في الحياة تصبح مريحة وسهلة.

كان لتشامفورت أسبابه الخاصة التي جعلته يتعامل مع كلمة الشرف بجدية. فتشامفورت الطفل اللقيط مجهول الأبوين، حقق سمعة أدبية، وعمل سكرتيرًا خاصًّا لأخت الملك لويس السادس عشر. وقد انتحر في ذروة «حكم الإرهاب» بعد وقت قصير من كتابة هذه الكلمات. وإبان الثورة، انتقد في البداية الأكاديمية الفرنسية الرفيعة المكانة التي كانت قد انتخبته عام ١٧٨١، ثم ندم على هذا ودافع عنها. وكان الارتقاء إلى الأكاديمية هو أعظم شرف يمكن منحه لكاتب في ظل الحكم الملكي. وقد أُغلقت الأكاديمية عام ١٧٩٣ ثم انتعشت من جديد على يد نابليون. ولم يسبر تشامفورت غور ضخامة التغير في معنى الشرف فحسب — أي صعوبة الاحتفاظ بالفروق الاجتماعية في عالم يندفع نحو المساواة بنفاد صبر — ولكن أيضًا ارتباط قانون العقوبات الجديد به. وكانت عقوبة الطوق الحديدي قد أصبحت القاسم المشترك الأصغر لفقدان الشرف.39

لم يكن قانون العقوبات الجديد سوى نتيجة واحدة من نتائج كثيرة ترتبت على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن». وقد استجاب النواب لإلحاح دوق دي مونتمورنسي الذي حثهم أن يضربوا «مثلًا عظيمًا» عن طريق تحرير إعلان للحقوق، وفي غضون أسابيع من هذا بدءوا يكتشفون إلى أي مدى يمكن أن تكون نتائج هذا المثل غير متوقعة. «كان فعل التصريح، أو الإخبار، أو العرض، أو الإعلان بصراحة أو جهارًا أو رسميًّا» المتضمن في عملية الإعلان ينطوي على منطق خاص به وحده. فحالما أُعلنت الحقوق على الملأ، أثارت أسئلة جديدة؛ أسئلة لم تُطرح قبلًا، ولم تكن قابلة للطرح، واتضح أن عملية الإعلان ما هي إلا الخطوة الأولى في عملية مشحونة ومثيرة للغاية، ومستمرة حتى يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤