ملكة الحرية

أخذ الريش ينمو على ساعديَّ اللذين أصبحا فيما بعد جناحيَّ.

كان في البدء زغبًا ناعمًا، ثم نمت الأرياش العصفورية الصغيرة البيضاء الرَّمادية بكثافة مُذهلة، وهي تطول وتقوى، مكوِّنة جناحين ضخمين، لهما ألوان زاهية قوية.

كان صوتُه يَأتيني مكثفًا من عمق لأسبر أغواره: ركزي، ركزي، ركزي، ركزي، ركزي.

راقدة كنت على لحاف من الأخشاب الرَّطبة، مُفترشة أرض المحراب بغير وسادة، رجلاي ممدودتان، مُستقيمتان، يداي موضوعتان في توازٍ مع جسدي، أنا أرتدي ملابس القطن الدافئة …

كنت عاريًا تمامًا، كالشمس في ظهيرة ذلك اليوم …

– ركزي … ركزي … ركزي.

ثم أضاف الصوت العميق السهل الساحر: أفرغي العظام …

خفِّفي وزنها حتى تصير كعظام الحدأة، خفيفة كالريح؛ تصير ريحًا.

الصوت المكثف العميق الواسع، يغوصُ في لبِّ عظامي فينخرها، يتجول بين مسام لحمي، تتبخر الشحوم والعضلات، والإرادة في الهواء، هواء المحراب المعطر، يكهربني، الصوت السهل المنساب في دمي يسحرني.

والآن، الآن، الآن، الآن: طيري، طيري … طيري، طيري، طيري …

كان صوته محددًا واضحًا ولا شك في ما يعنيه، ولكن كيف؟

– حركي جناحيك بقوة نحو الأعلى.

نحو الأسفل.

نحو الأعلى.

نحو الأسفل.

نحو، نحو، اركضي.

حركي ارﮐ … والآن طيري.

طيري، طيري.

كان صوته مُلِحًّا واثقًا، كُلَّما هتف فيَّ: طِيري، يخف وزني تدريجيًّا، تتبخر أحزان الجسد، لحمه وشحمه، ترهف عظامه وتتحرر أجنحتي، ثقل العقل والحقيقة، ثم، ثم.

بدأت العَدْو، كحدأة رشيقة انطلقت في الفضاءات، فوق، فوق، فوق الأرض.

ارتفعت فوقه، كان مُنتصبًا بمحرابه يكرر: ركزي.

ارتفعت فوق مبنى المحراب.

فوقه قطياته الثلاث … فوق …

فوق دوماته الباسقات …

فوق …

فوق أزهاره المتوحشة العشوائية …

فوق.

فوق الغابة كلها، فوق النهر، مزرعتنا الخضراء وأشجار عرديبها، فوق الوابور الشفاط النَّائم على الشط، حلقت عاليًا.

صوته السهل الواثق ينسابُ حلوًا ولذيذًا دافئًا: ركزي، ركزي، ركزي.

حلِّقي يا حدأة الله الجميلة، يا زهرة النَّار التي بقلب الريح، حلقي.

أيتها الريح …

حلقتُ عاليًا إلى أن رأيت جبل المرسم الطبيعي.

مرسم مايازوكوف، فلادمير وتلاميذه المجانين.

حلقت فوقه.

فوق كهوفهم المُبهرجة الألوان المائية الزاهية.

حلَّقت فوق تمثال الحرية الذي بناه ونحته مايازوكوف في شكل حدأة …

حدأة تحلق عاليًا في أحشاء الفضاء.

رأيتهم ينحتون الحجارة الجيرية ويصنعون من الجرانيت دنيا، عالمًا ودنيا.

رأيتهم يرقصون.

حفيف الأرياش النَّاعمة الرَّقيقة يزرع فيَّ سَلامًا وطمأنينة، كما لو كنت في حلم، كان التحليق سهلًا وممتعًا.

كان لذيذًا، كالحب لا.

ليس كرعشة الحب عندما يبلغ تكامله الروحي والعضوي …

كلذة الميلاد لا.

ليس كلذة الميلاد التي تحسها الأم وهي تهب الحياة لروح الله، للإنسان، كلذة النصر …

لا.

ليس كلذة النصر التي هي شعور الطفل عندما ينظر لعضوه وهو ينتصب رافعًا سرواله متحدِّيًا أباه.

كلذة الموت.

لا.

ليست كلذة الموت المريح الشهي عندما تبلغ روح الناسك نيرفانا.

فقط كلذة التحليق، لا كمثلها لذة.

أن تُحَلِّق عاليًا مُتجاوزًا الأشياء ونفسك، متجاوزًا نيوتن والجسد، غازيًا سماوات الله مدهشًا أطياره، برقه والسحاب.

مدهشًا ملائكته ذات السؤال البريء …

أنْ تمزج المَادَّة بالرُّوح، والرُّوح بالدَّهر، والدهر بالرغبة الحرة المنفكة من عقال الأشياء.

أن تطيري.

طيري يا حدأة الله الجميلة … طيري …

الصوت يتبعني، كان فيَّ، في ذاتي، يُسافر معي مدنًا وقرى، مفازات وناس، يتخَطَّى وإياي السحابات، ارتفعت فوق الهواء.

فوق الهواء …

حينها نظرتُ إلى الأرض؛ كرة بيضاوية، تنبعث منها أرواح الموتى وهي راجعة إلى روح الله، خضراء كاللوسيانا.

جمرة تنحرف فيها الأجساد المُشتهاة المَرْغُوبة الطينية بالدِّماء الدَّافئة، حلقة من الذَّهب لها جناحا نسر.

جلة صفراء من الليمون والبنيات والصبايا.

وردة.

شعراء.

وردة لشعراء.

كهنة، لعلماء وعصافير مسجونة في الوحل، صرخة لها هيئة دائرية كفراشات تنام على فراشات، ريح ترى وتضحك، مغنون وأنبياء كذبة.

أنبياء «بين بين».

أنبياء أطفال يرضعون أصابعهم، يلوكون كلمات الله كالحليب المجبن، مغنون ومغنون.

ثم نظرت، نظرت، نظرت.

فهتف فيَّ صوت لا أدريه، صوتٌ يدريني، لكني تميزتُ لونه البرتقالي الباهت الذي تسيل على جانبيه شحوم السيارات، حاول الصوت الهادر اليدريني، حاول الغوص فيَّ، حاول أن يبقى وصوت المختار جنبًا لجنب، حاول أن يُبشرني بنبوءة سوداء، نبوءة ساحرة كجوهرة.

إذن …

يُريد أن يقنعني بأن تواصلًا قريبًا سيكون بيني واللا … متناهي، حاول الصوت، حاول اليدريني أن يحبلني، أن يقذف فيَّ أشياءه، إذن كان الصوت بُرتقاليًّا جدًّا، كان باهتًا، كان مشحونًا، وأيضًا كان داعرًا مثل كلبة مقدسة لها فرجان.

ثم نظرت، نظرت، نظرت.

ركزي، ركزي، ركزي، ركزي.

كان الصوت اليدريني يُبَشِّرني بأشياء هي كالحلم، لا، ليست كالحلم.

كالحلم لا.

ليست كجنون الخصوبة وغيبوبة اللذة.

كان يحاول أن يبيض فيَّ مُستلقيًا بين أرياشي، لذيذًا وممتعًا كأول قبلة، لا.

ثم اختفى فجأة، ثم عاد فجأة مُحَلقًا في مدائن سماوية عالقة في الهواء، بها قبور لها قباب عالية بيضاء شامخة، بها بشر يطيرون عالقين في الهواء كبذور العشر، وآلهة من الحصى والطين والماء: من الحبشيات، من البرتقال من الصحو.

حلقت فيَّ مدائن أخرى، بها أناس حلقوا حولي في الهواء السماوي البرتقالة، ثم تلاشوا، تلاشوا في أغبرة اجتاحتهم فساء أطفالهم لذة التحليق.

كان الصوت مبشرًا ممتعًا عميقًا، يَنْسَابُ في دمي وهو يراقص الذي فيَّ، بينه ودمي كان بشري.

كان زنبقة لملاك طفل.

ركزي، ركزي، ركزي.

ثم انفجر الصوت بالغناء.

ثم انفجر الصوت بالغناء.

الصوت المكثف العميق العارف الداري السهل، اﻟ طيري اﻟ ركزي العميق المختار، طيري، طيري يا حدأة الله الجميلة.

طيري، طيري يا حدأة الله الجميلة، طيري …

ثم مثل صلاة تائهة ما بين ناسك وربه، ترجحت في فضاءات اللذة الربانية الشجرية الهواء.

كنتُ أحمل جمالي، نعومة العشق، الشهوة الأبدية لما يُنتظر، وهو، لا يأتي.

لما ينتظر وهو لا يأتي.

كنتُ أتشهاه وأعشقه، أنام في ذهاباته ومجيئات غيره، أستيقظ في غيابات هي لا.

لا تسرف في الغياب.

لا.

لا تسرفي في الغياب.

لا …

يا …

لا.

يا لا إتيان له: لا.

يا له لا إتيان.

يا لا، يا لا، يا لا، يا.

له يا.

كانت روحه نور ونار …

شجرة مسكيت خضراء، عليها طفلان عاريان حالمان نائمان جائعان.

عليها طفلان جائعان ومعزة.

حينما أتى صوته السهل يقول: الآن، الآن.

عندما سمعت صوته السهل يقول: الآن عودي إلى المحراب، للعشب الطري، للغاردينيا.

عودي أيتها الملكة إلى العرش، فلقد شئناك، شئناك ملكة للديمومة …

م

ل

ك

ة

للحرية.

ملكة للحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤