حدثتنا

حدثتنا نوار سعد عن …

حدثتنا نوار سعد عن أسرتها المقيمة بعيدًا في شمال البلاد الكبيرة، في قرية على ضفاف النهر، يزرع والدها النَّخيل والبصل الأحمر ويُرَبِّي الحمير والكلاب، وكان رَجُلًا فقيرًا سكيرًا وغير مسئول قبل أن تقوم هي بمدِّه بالمال اللازم لشراء الأرض والنخيل والحمير، أما الكلاب فكان غني بها منذ جدوده، كُنَّا نأكل وجبتين أو وجبة واحدة، أو لا نأكل شيئًا في اليوم كله. قالت: درست بمدارس القرية، ثم انتقلت إلى الداخلية بالمدينة في المرحلة الثانوية، ولو أنني وأختاي نورا ونور دخلنا المدرسة في يوم واحد، إِلَّا أنهما تزوجتا فور إكمالهما للمرحلة المُتوسطة وبقيتا ببيتهما، وكنت ذكية وقُبلت بالجامعة الكبيرة، وفي المدينة الجامعية خلقت للمرة الألف خلقت من الجوع الذي هو صديق الأسرة الوفي، ألم الجوع ألم مرٌّ، ألم السائل المحتاج واليد السفلى، تخيلا أن يصبح الإنسان هو السائل المحتاج واليد السفلى دائمًا.

قالت: لم تكن هنالك فائدة تُرجى من وراء أبي، ولكن أخوالي، أخوالي أنفسهم الذين فررنا إليهم أيضًا عجزوا لفقرهم عن تلبية ما أحتاج إليه وأنا بالمدينة الجامعية؛ ثم أضافت وهي تُحسن من وضع ثوبها الأنيق غالي الثمن ذي الطاءوسات الثلاث المطرز عليه بالحرير الأصلي وخيوط الذهب ثلاثة طواويس، يصعب تحديد لونها الحقيقي لأنها تأخذ لون المكان المحيط بها مُضافًا الذهبي الخفيف، فهنا بالمحراب كان لونهم شجري ورملي عند النهر، وصخري عند مرسم مايازوكوف المفتوح.

قالت: وعندما أخجل من سؤال الطالبات الصابون، كنتُ أستاك بعود من النيم، ولكن القمل، ولا أنسى كيف كنت أقاوم جراحات الكبرياء وأنا أسأل زميلاتي الطالبات بعض الفازلين والجلسرين في الشتاء، وكم أُحرجت … وكم.

بعد أربعة أعوام من التشوي بمقلاة العوز تخرجت في الجامعة، وعملت بمنظمة أجنبية وسافرت لبريطانيا، وهناك تفتحت لي أبواب السماء واسعة، فأكملت دراسة الفنون ونلت درجة الدكتوراة؛ وسافرتُ لإسبانيا، حيثُ حضرت في النَّحت الفرعوني والنوبي القديم، وأقمتُ بمدريد خمس سنوات، عملت فيها كخبير مساعد في ترميم الآثار العربية، وفي إسبانيا اكتشفت ولهي بالجنس، وتعرفت على الحضارة العربية الأندلسية التي سادت إسبانيا لقرون طويلة، ولم تحقق سوى كراهية العرب، وبعض القصور والأشعار. تحدثت نوار سعد لساعات طوال، قالت: أنا لا أؤمن بالوطنية والوطن، فهي مثاليات وعواطف، وطنك هو المكان الذي يحتويك؛ عندما عدت إلى البلاد الكبيرة لم أستطع أن أتفاعل مع وحداته، وكأن الناس ليسوا أهلي، كانوا بعيدين وغريبين وغير مفهومين.

إلى أن التقيت مايازوكوف فلادمير وأصبحت صديقته، واستطاع أن يخلق لنا واقعًا في بلادنا عجزنا نحن أبناء التراب من ابتكاره، وكان ذلك يوم الأربعاء في فصل الخريف، جاء حزينًا مُثقلًا بأشياء فهمناها فيما بعد، وكان حرًّا وأبيض البشرة، خلال الاحتفال الذي أقامته له الجامعة ترحيبًا بحضوره لأول مرة، قال بلغة عربية فصيحة: أنا مايازوكوف فلادمير، روسي، سوري. أو نحات ورسام.

فتعلقت به، كان ذلك الأربعاء لا أدري كيف ولماذا؟ اندفعت نحوه معرِّفة نفسي في آخر الحفل، وقد انفردت به عند مدخل القاعة.

– اسمي نوار سعد، ناقدة ومُحاضرة في تاريخ الفن المرئي.

ثم أضافت بسرعة وكأنه سيهرب إذا لم … أنا أعرف كثيرًا من الفنانين الروس: الإسكندر دينكا، آنا تولي زفريف، ناتاليا نيستروفا، آنا تولي اسلبشيف.

وأنت أيضًا، فقد شاهدت منحوتاتك ولوحاتك، وقرأت مُقدمة كتبتها أنت لرسومات الإسكندر دينكا بمجلة سوفيت لتريتشه في ربيع ١٩٧٠م، وقابلت آنا أناتولي زفريف بإسبانيا قبل عامين في مسيودل برادو، وكان له «ون مان شو»، وقد استمعنا لمحاضراته عن الفن الروسي في عهد استالين.

قال لي: أنا سعيد بالتعرف عليك، نادرًا ما ألاقي من له معرفة بالفن الرُّوسي الحديث، وخاصة في مثل هذا الزمان وقد انهار كل شيء، فقد عصفت رياح الحرب الباردة بنا، دفنت لوحاتنا ومنحوتاتنا في رمال من الثلج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤