جلسنا

بعد العمل بالمحراب …

بعد العمل بالمحراب بدأنا في حكي تجاربنا، برنامج يومي افتتحت الحديث أنا موجهة قولي إلى نوار سعد التي سألتني ذات مرة كيف تحولتِ من بنتٍ سلبية تُباع وتُشترى إلى إنسانة تمتلك قرارها وتستطيع أن تقول: لا؟

قلت: إنها أفكار المختار التي زرعها فيَّ قبل أن يذهب ويتركني. أقصد بعد أن عالجني من الخوف، وانقطع عن زياراتنا.

قلت: أولًا طلبت من زوجي أن يسمح لي بمواصلة الدراسة لكنَّه رفض؛ حانثًا بالوعد الذي كان، فأخبرتُ أبي الذي قال لي بوضوح: أنت الآن زوجة رجل ولا يحق لي التدخل في شئونه، لقد كنت ابنتي قبل الزواج؛ أمَّا الآن فأنت زوجة نور الدين. فقلتُ لزوجي نور الدين: إذا لم تسمح لي بالدراسة فإنني سأنتحر.

قال: لقد تركت المدرسة وأنت في المتوسطة، هل تلبسين ملابس بنيات المتوسطة وأصابعك مخضبة بالحناء وتفوح منك رائحة الدخان والدلكة، هل يصح ذلك؟!

قلت مؤكدة: لن أتعطر، وسألبس التوب، ولن أضع الحناء، ولا شيء من هذا أبدًا. قال: ولكني أريد أن يكون لي أطفال يرِثُونني ويحملون اسمي، وبامتناعك عن الإنجاب … تدمرين حياتك الزَّوجية.

قلت: في الأصل لا توجد لدي حياة زوجية، فكلها خوف ومرض وبؤس، ولم يفعل شيئًا غير أنَّه وضع عجينة سعوط تحت شفته السفلى في قلق ثم خرج من المنزل إلى السوق، وعندما وجدني تناولت عشرين قرصًا من الأسبرين، مغمًى عليَّ وقد شارفت على الموت، حينها فقط استأجر معلم لغة عربية ومعلم رياضيات وآخر للغة الإنجليزية، ومُعلمين آخرين لتخصصات مُختلفة، وأخذت أتلقى دروسًا في المنزل لمدة سنتين إلى أنْ جلست لامتحان الشَّهادة السودانية، وتحصلت على شهادة تم بموجبها قبولي بكلية الطب كما ترين.

ثم أخبرتها كيف التقيت بالمُختار للمرة الثانية، وكان قد زارني في المدينة الجامعية، واقترح عليَّ أن أزوره بمحرابه، الذي ما كنت أعلم به، فوجئت حين قال لي إنه شرع في تشييد هذا المشروع قبل خمسة عشر عامًا.

كان يتابع أخباري عن كثب، هُنا تدخَّل المُختار مازحًا: هل تقصدين …؟ قالت نوار سعد: المقصود واضح … إنك كنت مثل الولد روميو. قلت: إنني كنتُ أَتَوَقَّع رؤيته دائمًا، بل في الحق كنت أنتظره دون أي ميعاد مسبق. قالت نوار مقاطعة: كنت تحبينه، أليس كذلك؟ إنها حالة لا أعرف لها اسمًا، أن تشتاق لشخص وتنتظره كل لحظات عمرك ولا تعشقه كزوج، أو رُبَّما، في الحقيقة لا أدري. قالت نوار جادة: ولكني أدري … قال المختار وهو يحمل خطاه بعيدًا عنا، وقد بدا عليه بعض القلق: أنت يا نوار تُحاولين أن تجعلي من علاقتنا هذه قصة حب رائعة. قالت في انفعال: وإنها لكذلك.

وبعد أنْ مَضَى قالت لي نوار: قولي لي بكل صدقٍ كيف كان لقاؤكما الأوَّل بالمحراب؟ قلت لها بصدق وعفوية: ارتميت على صدقه وأخذت أجهش بالبكاء … بكيت … ثم أحسست بالخجل من نفسي لحين … ولكنه قال لي بصوته الدافئ: أظننا لن نفترق منذ اليوم … أحسست بقوة تسري في كياني، أحسست بأني أطير، ثم أقمنا معًا بشكل دائم، وعندما علم زوجي نور الدين وطلب مني عدم الذهاب للمحراب، رفضت وهددني بأنه سيخبر أبي، وأخبره، فعلمت أنَّ أبي ردَّ له بوضوح: إنها زوجتك، وتحت يدك وفي عصمتك، وبإمكانك قتلها إذن وصلبها بالشارع. ولا حقَّ لي في التدخل بشئونكما الخاصة.

– إنَّ ما تفعله فضيحة للأسرة كلها.

قال أبي: طلقها … أعيدها … وأنا أعرف كيف أجعلها لا تفارق المطبخ إلا إلى المقابر أو بيت رجل يقدر عليها. على ما أظنُّ أنَّ نور الدين أحس بالحرج وأراد واحدًا من اثنين: إمَّا أن يسيطر عليَّ سيطرة تامة، دائسًا بحذائه على أحلامي وطموحاتي، أو إذا فشل ينتقم مني ولن يُطلقني أبدًا.

قلت: أسعد يوم في حياتي يوم أن حملت حقائبي من الداخلية ووضعتها هنا في قطيتي، حقيقة كنتُ أبحث عن مثل هذه الحياة، هذا المكان حياة مع رجل ليس هو زوجي، رجل صديق، حياة تحسين أنها حياة ضد وأنها حياة مع، وأنها حياة لأجل. بيني وبينه اشتياق دائم، بيني وبينه سرٌّ لا فكَّ لطلسمه، بيني وبينه حب ليس كالحب.

قالت نوار — التي كانت تنظر إليَّ وهي دهشة وغير مصدقة لِما تسمع أذناها وما ترى: إنكما عاشقان واثقة من أنه في ذات يوم، في ذات لحظة ستمارسان الحب مثلي تمامًا وخوان بيدرو.

وإذا لم تفعلي إنني أقول لك بصراحة: أنا التي ستفعل مع المختار، فهو رجل … ورجل فحل، أنا أعرف الرجل الفحل، أعرفه جيدًا لأنَّ له رائحة خاصة تدل عليه، ولا فرق بين صعلوك ونبي في ذلك فقط … حينها أرجو منك ألا تغيري عليه، وأن تتمسكي بمبدأ أن روحه لك … روحه فقط، ولا شيء غير روحه، هل توافقين؟

وضحكت بمرح ملأني بالغيظ. في الحقِّ حسدتها لكونها نوار سعد، ولأنني لا أُريد أن أكونها أبدًا.

وعندما عاد المُختار لمجلسنا مرة أخرى وجدنا قد غيرنا مجرى الحديث، حيثُ هيأت نوار القول كله لأسرتها، قالت: سأُحَدِّثكم عن الجوع الكبير، ليس الجوع المقدس إلى المعرفة، لا، بل الجوع الهمجي الذي هو نتاج العوز والفقر والفاقة، أن تكون بطنك خاوية وتثور أمعاؤك وتحتج، وأنت عاجز عن فعلٍ يشبعك. وكانت نوار سعد جميلة وأنيقة، مفرطة الحساسية في انتقاء ملبسها ومنعلها، تسريحة شعرها، وحتى جلستها، كانت تجلس على سجاد من نبات المحريب العطري قرب المختار في أدب جمٍّ، وكأنَّها قد فرغت للتو من الصلاة، وكان وجهها متوردًا ومملوءًا بالضوء، وعيناها الصغيرتان مرحتان كزهرتي غاردينيا عليها فراشتان ذات صباح باكر.

كانت جميلة لأنَّها جميلة وحسب.

كنت أتساءل في أحيانٍ كثيرة: كيف لامرأة بهذا الجمال لم تتزوج حتى الآن؟ في الحق سألتها ذات مرة، فقالت: أنا لا أرفض الزَّواج، ولكن لم يأت رجل ليخطبني، ليس هناك رجل عنده ما يكفي من الشجاعة ليقول لي: أريد أن أتزوجك يا نوار. بالرَّغم من أنَّ المئات منهم يعشقونني، يعشقونني في صمت، كصمت البغال. قلت: أمين … قالت مقاطعة: أنا قلت رجل وليس طفلًا، رجل … أتعرفين معنى رجل …؟ وكنت أعرف أنَّ أمين يصغرها بعشرين عامًا، على أقل تقدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤