ثلاث بنات

قالت نوار …

قالت نوار: كنا ثلاث بنات؛ نورا ونور، وكنت أنا أكبرهن، ونور هي أصغرنا، وكانت قصيرة وسمينة وشرهة أكول، وهي الوحيدة في المنزل التي لا تجوع أبدًا، وهي ذاتها الوحيدة التي لا تشبع! وكان أبي يُحِبُّها جدًّا وكثيرًا ما يصحبها مع كلابه إلى الإنداية، أو إلى مكان العمل بالسواقي؛ حيثُ يعمل في مزارع الآخرين باليومية، وإذا أخذ أَجْره حملها على كتفه، إذا كانت الشمس حارقة والأرض رمضاء؛ لأنَّها غالبًا دون نعلين، أما إذا كان الجو معتدلًا أو باردًا في الشتاء جرت خلفه تتبعها الكلاب إلى الإنداية، يأكلان أولًا الكوارع بالشطة والليمون، وهو بين الحين والآخر يمد إليها الكأس مشجعًا: اشربي يا بت نور … الله، اشربي يا دكتورة.

وكانت لا تشبع إلا أن تنتفخ بطنها ويغلبها النعاس، وترقد قرب رجليه على الأرض متوسدة مركوبه القديم، عليه بقايا عمامته المزيفة العجوز، حتى إذا انتبهت إليها صاحبة الإنداية التي كانت دائمًا ما تنتبه، سبت أبا سعد وجده ديك إبليس، ثم أخذتها لترقدها في بيتها إلى أن يكتفي سعد من المريسة أو يفرغ جيبه، يحمل بنته على كتفه وهي نائمة ويمضي بها مترنحًا على الطريق يرمقه السابلة فكهين معلقين، وأحيانًا يتبعه الأطفال من بعيد، يناونه مغنين: السكران … وينو.

وبينهم وبينه عشرات الأمتار؛ لأنَّ كلابه لا تدع أحدًا يقترب منه، حتى إذا سقط على الأرض دائخًا من الخمر، فإنها تحيط به ولا تترك إنسانًا يرفعه أو يعينه على المشي، وإذا نام حيث سقط ظلت تدور حوله إلى أن يستيقظ أو يبلغ الخبر أمي في المنزل، فتأتي لتأخذ منه البنت، وتتركه على حاله على الأرض؛ إذن ما كان أبي يعود من عمله بقطعة خبز واحدة، يأتي مخمورًا وعلى كتفه نور وخلفه كلابه، وإذا سألته أمي: أنت تسكر وأطفالك جوعى؟!

سبها بألفاظ بذيئة وحمل عصاه وحاول ضربها، فتحمل أمي عصاها، تحمل نور عصاها، أحمل عصاي، أمَّا نور فإنَّها لا تتردد في أن تعض أول من يلمس أباها، ولكن غالبًا ما يحتكم أبي للعقل، العقل المخمور فينام على أقرب عنقريب يجده واضعًا عصاه تحته.

كنت ونور وأمي نذهب أيضًا إلى العمل بسواقي الآخرين باليومية، حيث لا أرض لنا، نشتل البصل أو نقلعه، نجني الطماطم والبامية والشطة الخضراء، أو ننظف الحقول من الحشائش المتطفلة، وأحيانًا نقوم برش الأسمدة والمبيدات، وكان العملُ شاقًّا تحت الشمس والبطون شبه خاوية، خاصة نورا لا تزال في عمر الطفولة، فتشق الأسمدة أصابعنا وتجعلها تنزف، وقد يجرحنا منجل أو تلدغ أحدنا عقرب، هذا إلى جنب الآلام التي نحس بها في أطرافنا وعضلاتنا عندما نذهب للرقاد، وكانت أمنا ترى وتعايش وتتألم ولكن في صمت.

وقد لا نعود من الحقل إلا عند العصر، أو قبيل المغرب حاملين ما تيسر من رزق حسب الموسم، فإمَّا لوبيا وفاصوليا وباميا أو بصل، وأحيانًا لا شيء، ولكن بعض النقود نشتري بها الخبز، يأكل أبي إذا جئنا بالطعام، وتأكل نور أكثر مما نأكل أنا ونورا، ولا يسأل كيف تحصلتم على لقمة العيش هذه! فكان يعيش في عالم جامد خالٍ من المسئولية، هادئًا ومسالمًا طيبًا، فقد يثور فينقلب وحشًا أو كلبًا سعرانًا، هذا إذا سُئل عن المصروف، أو إذا رفضت أمي فراشه، فلا يُطاق ليلٌ رُفض فيه، فإذا احتجت أمي في أنه يأتي بأطفال لا يقدر على تربيتهم، قال: ربنا هو الذي خلقهم وهو قادر على إطعامهم. وإذا صرخت فيه قائلة: أنت والدهم، وأنت أبوهم، وأنت من يأتيهم بالخبز وليس الله!

قال غاضبًا: أنت امرأة كافرة، ومن أجل كفرك هذا قطع الله عنا الرزق.

ويحمل عصاه …

فتحمل عصاها …

وقد يستيقظ الجيران وتفوح رائحة الفضيحة؛ لذا كانت أمي هي التي تتراجع، تخلع جلبابها وتستلقي قربه لاعنةً إياه في السماوات والأراضي السبع، وكل كرامات شيوخ البلاد الكبيرة، وإذا غلبها الغيظ عضته في صدره أو كتفه إلى أن يصرخ من الألم، أو يشخر كالثور الذبيح، أو …

بكت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤